اللغة والعقل (الدحيح والإسبتالية ضد شادي عبد الحافظ)

بَدأ الخلاف مبكّرًا بين تبادل التأثير بين اللغة والفكر، وظهرت نظريّات تقول أنّهما منفصلان ونظريات أخرى تؤكّد الصلة بينهما. وإشكاليّة اللغة هي إشكاليّة قديمة ولكنّها تتطور دومًا وتأخذ أبعادًا أنطولوجيّة كما هي عند هوسرل وهايدجر كما وتأخذ أبعادًا إبستمولوجيّة كما هي عند الوضعيين المناطقة. كانت اللغة قديمًا تشير إلى الكلام فقط وهذا فيه إشارة للدلالة المعجميّة للكلمات. ففي لسان العرب لابن منظور يعرّف اللغة على أنّها أدوات يعبّر بها القوم عن أغراضهم.

وإذا رجعنا إلى أي معجم فرنسي تجد أنّها مشتقة من كلمة لاتينية (Lingui) وتعني اللسان أو الكلام. كما تدلّ كلمة (Logos) الإغريقيّة على الكلام والفكر والعقل. ويعرّفها ابن جني بأنّها نظام من الرموز الصوتيّة التي يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم. انطلاقًا من هذه التعاريف يتضح أنّ الكلام فعل صوتي، ولكن تبقى اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة ومن خلالها يبني المجتمع معرفته ويحقق تواصله بالاستناد إلى وسائل أخرى غير الكلام والتي تندرج بدورها تحت غطاء اللغة مثل الحركات والإيماءات الجسديّة والعلامات والرموز. ولهذا تخضع الّلغة للدراسات الفيزيائية والاجتماعيّة والنفسيّة والأنثربولوجيّة واللسانيّة.

اللفظ والمعنى:

يعتبر اللفظ الدلالة العامّة للكلمة. ولننتقل من اللفظ للمعنى يجب أن نعرف أنّ للكلمة معنى معجميًّا ومردودًا ومدلولًا، وأنّ وضع الكلمات في الجمل والتعابير يغيّر من معناها حتّى أنّها تشير أحيانًا لمعنى مضادّ. مثل أن يسأل أحدهم شخصًا آخر بعد أحد المواقف “هل أنت متعلّم؟”، فهو بأسلوب الإلقاء الساخر قام بتحويل الاستفهام لجملة خبريّة تُعطي عكس المعنى.

ويتّضح من السابق أنّ اللغة لن تظلّ عاجزة وحبيسة حتّى لو كان عدد كلماتها قليل. فالتعابير والتراكيب والقواعد والمجاز والإيماءات الجسدية من جانب المتكلم والهرمونطيقا أو ما يعرف بعلم التأويل من جانب السامع يعطي اللغة زخمًا جبّارًا حتّى لأبسط الشعوب. لذلك وَجدت الدراسات اللغويّة اهتمامًا واسعًا من جانب اللغويّين والفلاسفة لسبر أغوارها وفكّ رموزها مثل النظرة الأنطولوجية لهايدجر والفينومينولوجية لهوسرل وما بعد الحداثيّة لبارت ودريدا وشتراوس، حتّى أنّ اللغة تخطّت كونها أصواتًا إلى أداة تشتبك مع نظريات الوجود وحركة المجتمع وغيرها. وأصبحت دراسة اللغة تستلزم قراءات عديدة لمستويات عديدة.

هل تؤثر اللغة على الفكر؟

في حلقة “سفّاح الكلمات” من برنامج “الدحيح “وحلقة أخرى بعنوان“اللـغة” من برنامج “الإسبتالية”، كانت الفكرة الرئيسيّة تدور حول قاعدة النسبيّة اللغويّة لسابير وورف. التي قال عنها غاي دويتشر -مؤلّف كتاب”عبر منظار الّلغة” وكتاب “تجلّي اللغة: جولة تطوريّة عبر أعظم اختراع إنسانيّ”- ما يلي: ذلك الادعاء بأنّ لغتنا الأم تحدّد الطريقة التي نتصوّر بها العالم وننظر إليه. ولم تكن بفكرة جديدة، بيد أنّها استُخلِصت في الثلاثينيّات من القرن العشرين لتتحوّل لخدعة جبارة أسكرت جيلًا كاملًا. أطلق سابير على تلك القاعدة “النسبيّة اللغويّة” جاعلًا منها شيئًا مقاربًا لنظريّة آينشتاين)، وقال أيضًا: تَرصُد الصفحات القادمة قصّة النسبيّة اللغويّة – تاريخ فكرٍ مخزٍ. فبتلك الدرجة نفسها من علوّ المكانة التي حلّق بها هذا الفكر، تحطّم بحدّةٍ عندما تبيّن أنّ سابير وبالأخص تلميذه وورف، نَسَبَا نتائج معرفيَة مبالغٌ فيها لما لا يتعدّى كونه اختلافات في الترتيبات النحوية.

إعلان

إدوارد سابير 1884 – 1939

الجدير بالذكر هنا، أنّ الدكتور شادي عبد الحافظ قام بالرّد على الدكتورة إيمان الإمام وحلقتها في برنامج الإسبتالية في أحد المنشورات على الفيسبوك. وأشار لمقالٍ له يتحدّث فيه عن الموضوع ويردّ على النظرية. وبالرّغم من أنّ الدحيح أشار لمقال الدكتور شادي في حلقته “سفاح الكلمات” إلّا أنّه من الواضح أنّ الدحيح لم يقرأ المقال جيدًا.

هل ما ذكره جورج أورويل صحيح؟

يبدأ الدحيح حلقته مشيرًا لرواية أورويل السياسيّة 1984 عندما كان يقوم النظام القمعيّ بحذف وإضافة وتغيير معاني بعض الكلمات ليتحكّم ويضلّل الناس، وقرأ الدحيح المقطع التالي من الرواية “ألا ترى أنّ الغاية النهائية لِلّغة الجديدة هي التضييق من آفاق التفكير؟ حيث تصبح جريمة الفكر في نهاية المطاف جُرمًا مستحيل الوقوع من الناحية النظريّة. وذلك لأنّه لن توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها أن يرتكب هذه الجريمة، فكلّ مفهوم يحتاج إليه الناس سيتمّ التعبير عنه بكلمة واحدة محدّدة المعنى وغير قابلة للتأويل وأمّا معانيها الفرعيّة فيتم طمسها حتى تُصبح طيّ النسيان”.

يبني الدحيح رأيه على هذا المقطع ويقول “ببساطة لو استطعنا تقليل عدد الكلمات ستقلّ الأفكار التي تُستخدم ضدّك. لو أنّ اللغة ناقصة فلن تستطيع التعبير والشرح وبالتالي لن يفهمك المجتمع وبالتالي سيقول عنك المجتمع مجنونًا إذا تكلّمت أو بلطجيًّأ إذا تصرّفت”.

يرد دويتشر في كتابه “عبر منظار اللغة” بأسلوبه الساخر على فكرة أورويل بعد أن يُوضح أنّه لا يوجد أساس علميّ سليم قامت عليه ويقول “لِمَ لا نلغي كلمة “جشع” كحلّ سريع لمشكلات العالم الاقتصاديّة أو نتخلّص من كلمة “ألم” لتوفير الملايين من أدوية الأسبرين أو رمي كلمة “موت” في حاوية القمامة كوصفةٍ فوريّة للأبدية العالمية؟”. ويوضّح أكثر فيقول “عندما أكرّر أنّ اللغة لا تَحول دون قدرة متحدّثيها على إدراك جميع المفاهيم؛ فإنّني لا أعني أنّ في استطاعة أيّ شخص أن يتحاور في أيّ موضوع مستخدمًا أيّ لغة في وضعها الحالي. فإذا حاولت مثلاً أن تترجم دليل استخدام غسالة الأطباق إلى لغة قبيلة جبال البابوا فسرعان ما ستجد نفسك عاجزًا عن ذلك، فليس هناك مرادف لكلمة شوكة أو طبق أو كأس أو مسحوق غسيل أو برامج شطف أو مؤشرات خلل. لكن ما يعيق فهم شعب البابوا لهذه المفاهيم ليس طبيعة لغتهم بل لأنّهم ببساطة لم يتعرّفوا على تلك المنتجات الحضاريّة. لكنّ الوقت كفيل بأن يُمكّنك من شرح جميع هذه الأمور إليهم بلغتهم الأصليّة”.

ويبيّن دويتشر بعد ذلك أنّ ذلك لايقف عائقًا أمام أيّ لغة لاستيعاب المنتجات الحضاريّة وحتى المفاهيم الفلسفيّة الصعبة ولا يتطلّب ذلك سوى استعارة هذا المفهوم من لغة أخرى أو بتوسعة استخدام المفردات الموجودة لتشمل معاني مجرّدة، حتّى أنّ اللغات الأوروبيّة استخدمت الطريقتيّن لاستيعاب الأفكار المستوردة.

وكما هو واضح لنا نحن العرب أنّنا استخدمنا الطريقتين ومازلنا نستخدمهما حتى الآن. وليوضّح دويتشر ذلك قام باختيار مفهوم الوقائعيّة (Factivity) وقام بشرحه وتساءل بعد ذلك عن صعوبة المفهوم وهل وقف عدم وجود هذا المفهوم في لغتك حاجزًا لعدم فهمك دلالته؟

الإسبتالية:

والكلام السابق الذي ذكرته لدويتشر ردًا على الدحيح هو نفس الرّدّ على الإسبتالية في التجربة التي ذكرتها عندما قام بها العلماء على أحد قبائل الأمازون الذين يملكون نظام عدٍّ ثلاثيّ (واحد – اثنان – كثير) فقط. أشارت لارتباك سكّان القرية عندما وضعوا أمامهم عشرين سمكة، وتقول أنّهم لا يفهمون هذا العدد.

ذكرت الدكتورة إيمان تجربة أخرى لتثبيت تأثير اللغة علينا. حيث تمّ عرض صور على أشخاص وجعلوهم يردّدون أحد الكلمات في الصور، مثل قطّة، قبل عرض الصور عليهم. وعند عرض الصور فإنّ نظرهم يذهب مباشرة للقطة. هنا دعنا نتساءل: هل هذا التكرار دليل سيطرة اللغة على المخ؟ أليس من الممكن أنّ العقل يستدعي المفهوم من الذاكرة بسبب الارتباط الشرطيّ بين الكلمة والصورة ممّا يجعله مهيأً لاختيار هذه الصورة؟ أليست التجربة دليلًا على الاقتران الشرطيّ لبافلوف أكثر منه دليلًا على سيطرة اللغة؟ فحتّى لو استخدمنا صوت قطّة أو قمنا بلمس جرح أحد المشاركين في التجربة كانت النتائج ستصبح متشابهه.

وعندما نرى دليل الدكتورة إيمان على اختلاف معاني الكلمات على وقع السامع وتأثيره فيه وفي قراراته مثل الفرق بين (إِجهاض – حق الأنثى في الاختيار) و(بويضة مخصّبة – جنين) و(اقتحام العراق – تحرير العراق). نجد أنّ هذا دليلًا غير واقعيّ بل يختلف باختلاف دلالة الكلمة ووقعها على الفرد تحت ظروف ثقافته ونشأته الاجتماعيّة ولا يدلُّ هذا على تأثيرٍ مطلق للكلمات على جميع الأفراد.

المستقبل والدحيح:

وأخيرًا نذكر ما قاله الدحيح من أنّ عدم وجود صيغة أو تصريف للمستقبل لأفعال بعض اللغات مثل اللغة الفنلندية فإنهم لا يفرقون بين الحاضر والمستقبل ويؤثر ذلك على قراراتهم ويجعلهم لا يؤجلون شيئًا للمستقبل. وذكر مثالًا لطفل فنلنديّ عندما يتحدث عن المذاكرة في المستقبل بصيغة الحاضر فيقول “أذاكر غدًا” وهذا ما يجعل الحاضر والمستقبل عنده تعبيرين لنفس الشيء؛ فيقوم للمذاكرة مباشرة ولا ينتظر الغد. ويرد دويتشر على هذا الكلام ويقول: “عندما تطلب من شخص ما متسائلًا في لغة صحيحة وبالفعل المضارع “هل تأتي غدًا؟”هل تشعر بأنّ إدراكَكَ لمفهوم المستقبل آخذ في الزوال؟

وأخيرًا، أنصحكم بقراءة كتاب “عبر منظار اللغة” قراءةً متأنيةً لكلّ مهتم بهذا المجال لإزالة الكثير من المغالطات القديمة في هذا الموضوع. وأنصحكم بمتابعة الدحيح الذي أحبّ متابعة حلقاته وأنتظرها أسبوعيًّا، وأوجّه الشكر للدحيح والإسبتالية على الجهد المبذول لتبسيط ونشر العلوم. ولايمكن أن أصنّف نقدي لهما سوى أنّه إثراءٌ للمحتوى العربي ومساعدة لهما.

إعلان

مصدر كتاب حلقة الدحيح سفاح الكلمات حلقة الإسبتالية اللغة
اترك تعليقا