الكوجيتو الديكارتي وهرمنيوطيقا التحليل النفسي
إنَّ الضرب الأوحد من الفضول الذي يستحق عناء المزاولة بشيءٍ مِن الشغف ليس ذلك الذي يسعى وراء التشبُّه، وإنَّما هو ذلك الذي يتمثَّل فيما ينزع عن نفسه من اليقينيات.
يمكن لنا أن نقول، دون أن تَعوزنا الحجة، أنَّ إعمال الفكر التخيلي والتأويلي لا يقل قيمة عن الوقائع المتأسسة علميًا، وحيث إنَّ الأمر هو على هذا النحو فإنّ من الأهمية أن نتبيَّن بجلاء الفارق في المنزلة المنطقية بين النظرية العلمية والاعتقاد الشخصي، ولكننا في صبونا إلى علمِ نفسٍ صارم التحدُّد العلمي، نتخلَّى عن قطاعات كبيرة من الموضوع تلك التي لا تسلس قيادها ببساطة للمعالجة العلميّة التامـة، كما أنَّنا بإشاحتنا عن سنن الميثولوجيا العلمية نصل إلى نحوٍ بات نحكم فيه على علم النفس باللايقينية الأبدية، أو مملكة الخيال!
ليس بالأمر المرغوب أن تُستنفد طاقتنا ووقتنا في جدلٍ يدور حول ما إذا كان هذا التقصِّي السيكولوجي أو ذاك صحيحًا مِنَ الوجهة العلميـة بشكلٍ كلي أو جزئي فحسب، إذ إنّ الهدف الحق للبحث يكمنُ في طرحِ أسئلةٍ مفيدة وهامّة، وفي محاولة الإجابة عنها بالشمول والموضوعية الذين تسمح بهما الظروف.
نقول ذلك ونستهِّلُ بهِ مقالنا لأننا بصدد طرح تساؤل مهم: هل أعاد التحليل النفسي صياغة جديدة للكوجيتو الديكارتي؟
في المعرفة الفلسفيّة لديكارت، الوجود اليقيني الأوَّل كان “الأنا” المدرِكة ولا سواها، وإنَّ الإنسان عند ديكارت وِحدَة ولكنها وِحدَة مُؤكَّدة بالوعي، فالجسد دائمًا يبقى رهين للنفس وخاضع لإملاءاتها.
ولكن كيف يتحقَّق ذلك والوعي بذاته لم يعد شاهدًا على الوِحدة بعد ما اتضح انشطاره في التحليل النفسي، الذي قلب التصوّر الفلسفي للإنسان؟ حيثُّ معه ليس هناك «كوجيتو» أصليًا يضع نفسه في حكم يقيني ولا ذات تمثل «موجودًا» يتمتَّع بالدوام ومعطى مباشرًا ونهائيًّا.
إنَّ الأفكار الكامنة التي يُزيح التحليل النفسي عنها النقاب تبدو لنا أشبه بمُجمَّع نفسي هندستهُ مُتداخلة، وعناصره تُقيم بينها علاقات هي من أشد العلاقات تبايُنًا، وهي تُشكل شروطًا واستطرادات وتفسيرات وتبريرات ومُتطلبات، وهُنالك على الدوام إلى جانب كل أفكار مُتداعية أُخرى تُناقضها، وتقع على عاتق التحليل مَهمّة إعادة بناء التسلسلات والعلاقات المنطقية فيما بين هذه الأفكار باستخدام منهج تأويلي داخل متحفٍ لوحاتهُ رمزية بشكل صرف؛ كالأحلام مثالًا.
وعلى عكس ما طرحه ديكارت الذي ركز الوجود حول الأنا الوجدانية والذي جعل منها السبيل الوحيد للتعبير النفسي، أي إثبات حقَّانيّة الوجود على أساس حاضريّة “الأنا” والأحكام الصّادرة منها؛ انطلق فرويد من مبدأ أنَّ اللاشعور لا يخدعنا ولا يقول إلَّا الحقيقة، فالأنا قد تخدعنا عن أنفسنا، و تُضلِّلنا عن ماهيّة وحقيقة رغباتنا، نظرًا للتماهيات الخيالية المتعددة التي تتلبَّسها، وتغيب عنها الرؤيا الصحيحة، ولا تتبيَّن الرؤيا بجلاء إلَّا حين تتحوَّل الأفكار الكامنة إلى مضمونٍ ظاهر.
هرمنيوطيقا بول ريكور والكوجيتو المجروح
الهرمنيوطيقا أو التأويليّة كما عرَّفها “ريكور” هي محاولة فك شيفرة الرّموز التي تحملها الأساطير، وعدم الاكتفاء بالمعنى العادي السطحي المألوف المباشر، وإعمال الفِكر لبلوغ المعنى الأعمق الذي هو ما كان قصده الرمز بالأساس، وليس المعنى السطحي المُبتذل.
الهرمنيوطيقا في المعنى الأقرب والأوضح هي إذن افتراض وجود معنى ظاهر ومعنى باطن في كلِّ رمز أو نص، وإنَّ عمل المؤوِّل اكتشاف المعنى الباطن لأنه المعنى الحقيقي.
وسيكولوجيا التحليل النفسي بصفتها مَنهجًا تأويليًا تستهدف أكثرَ مِن مجرد الوصف، فهي تُفسِّر الظاهرات النفسية بحسبانها نتيجة لتأثيرات متبادلة ومتضادة بين القوى، أي باعتبارها ظواهر دينامية، وبالتالي فإنها تدرس الظاهرة ليس من حيث هي كذلك وحسب، بل أيضًا من حيث القوى التي ولّدت هذه الظاهرة، فهي لا تدرس أفعالاً منفردة، بل تدرس الظواهر بلغة عمليات النمو، ارتقاءً ونكوصًا.
إنَّ الفرويدية باستخدامها ثالوث “التأويل” و”المُتخيل” و”الواقعي” قد غيَّرت تمامًا نظرتنا إلى أنفسنا بشكلٍ جذري، فنحن بعدها لم نعد ننظر إلى ذاتنا كما كنا نفعل قبلها، بل إنَّ العديد من مفرداتها ومفاهيمها من مثل اللاوعي والكبت وعقدة أوديب قد أصبحت جزءًا مِن تعابيرِنا اليومية.
في مُتُن التحليل النفسي تتجاوز الوظيفة الرّمزية معنى الرّمز، مثل ما يتجاوز المُتخيّل المعنى الغامض للتخيل، ويتجاوز الواقعي المعنى الفلسفي للواقع، ومع ذلك يظل المُتخيّل متميِّزاً بنوع من الوفرة والغنى والتنوع، ويحتفظ الرمزي بمعناه كرابط يشمل كل العلامات الثقافية، ويظل الواقعي من زاوية معينة، في الجانب الآخر من الذات المفكرة.
بهذا المعنى فإنَّ فرويد هو المؤوِّل للأركيولوجيا أي لكلِّ ما سبق، فكان الأركيولوجيا للتوصل إلى المُخَبأ تحت غياهب المكبوت، وهي تجد اللاوعي الذي يتبدى لنا كقدرٍ لا نستطيع أن نهرب منه وكضرورة تحد دومًا من حريتنا، وكذلك فإن طفولتنا تلاحقنا دومًا ويعود كل ما كنت
قد كبتّه ليرسو على السطح ويتحكم في حياتنا، غير أنَّ التفسير الأركيولوجي بالعودة إلى جذور الرغبة لا ينفرد به فرويد، وهناك صلة قرابة بينه وبين هيغل في صورة الاعتراف بالآخر في جدلية السيد والعبد، وكذلك تأويلية فرويد ليست هي التأويلية الوحيدة الممكنة، حتى ولو كانت تعطينا صورة أفضل عن واقع، فإلى جانب التفسير بالأصل هناك تفسيرًا آخر بالغاية.
يقول بول ريكور: إنَّ الأطروحة الفرويدية عن أسبقية الرغبة أساسية من أجل إعادة صياغة الكوجيتو: فقبل أن تتحدَّد الذات شعوريًا وإراديًا كانت أصلًا محددة في الكائن على المستوى الغرائزي وتعني أسبقية الغريزة هذه بالنسبة للوعي والإرادة أولوية الـ ( أنا موجود) على الـ (أنا أفكر) وينتج عن ذلك تفسير للكوجيتو أقل مثالية وأوثق صلة بالوجود: إنَّ فعل الكوجيتو المحض بوصفه يطرح نفسه بصفة مطلقة هو حقيقة مجردة و خاوية بقدر ما هي دامغة.
وهكذا يجب الاضطلاع بيقينية الكوجيتو وبطابعه الارتيابي غير المحدود معًا فالكوجيتو هو في آنٍ واحد اليقين القاطع بأنني موجود وسؤال مفتوح بالنسبة لوجودي.
إنَّ الوظيفة الفلسفية الفرويدية هي إقامة مسافة بين يقينية الكوجيتو المجردة وإعادة اكتشاف حقيقة الذات العينية وفي هذه المسافة ينزلق نقد الكوجيتو المزيف وتفكيك أوثان الأنا التي تقيم حاجزًا بين الأنا وبين أنا ذاتيًا.
وفقًا لريكور في الفرويدية، الذات المتكلمة الفاعلة غُيِّبت تمامًا، ومعهاالكوجيتو الديكارتي الذي يقول (أنا أفكر)، في حين إنّ البنية القائمة بين الإشارات هي التي تفكر فيّ! ومن هنا كان الدفاع عن الكوجيتو الذي يجعله ريكور حصان نضالِه، يرى لا بد من تطعيم الفينومينولوجيا بالتأويلية المُنطلِقة من وجود معنى مزدوج لكل رمز وذلك من أجل فهم أفضل للذات، غير أنَّ الرمز بحد ذاته يظل غامضًا ليس فيه شيء من الشفافية، وكذلك فإنَّه أسير اللغة التي تنتجه، فكل لغة تختار رموزها وبالتالي إنَّ ما يسمه هو أنَّه طارئ وعارض وليس فيه شيء من الضرورة الموضوعية، وبالتالي فإنَّ فتح الرمز لباب التفكير أمامنا لا يتم إلَّا عن طريق التأويل، الذي يظل عرضة للمساءلة والمحاججة، لا بدَّ لأيَّة فلسفة تأويلية من أن ترتبط بفلسفة تفكريّة تقوم على الجهد المصاحب لكلِّ مرحلة من مراحل الكوجيتو، ذلك أنَّ الحقيقة ليست بديهة مباشرة مثل ما اعتقد ديكارت وليست كذلك بحدس عقلاني على ما طالب به هوسرل، ولا هي برؤية صوفية، ولكنها جهد مستمر للخروج من ذاتي والإقامة عند الآخر. كي أصحح رؤيتي لنفسي ومعرفتي لذاتي، لا بد إذاً من الطريق الطويل الذي يمر عبر كل المعطيات الجديدة في العلوم الإنسانية.
سيكولوجيا التحليل النفسي “فنّ جعل الغريب مألوفًا”
وفقًا لفرويد أننا نُسلم بوجود وظيفتين خلاقتين للفكر في جهازنا النفسي، وتتمتع ثانية هاتين الوظيفتين بامتياز مُحدد، وهو أنّ جميع منتجاتها تُصبح في الحال جُزءًا من الوعي، بينما يبقى نشاط الأولى لا واعيًا أو لا يدلف إلى الوعي إلَّا بواسطة الثانية.
وهكذا لقد عوَّدنا التحليل النفسي على الاِعتقاد بأنَّ الوعي ليس سوى قشرة خارجية أمّا العلم فهو البحث عن المخبوء، لا يُفسِّر المعلوم إلا بالمجهول وهذا المجهول هو ما يكون تحت الظاهر بالقدرِ الذي لا يبقى فيه المخبوء ضمن ذكريات تاريخية مكبوتة بل في بنية الفكر البشري الدائمة.
فاللاوعي يعني أنَّ «الهـو» يتكلَّم وبالنتيجة فإنّ ما يقدمهُ للمحلِل ليس العودة إلى القديم أو الأساسي، بل مادة لسانية، علينا معرفة تمفصلاتها وكيفية الترابطات والاِنفصالات بين مُختلف العناصر التي تكونهُ والتي تُشكل وحداته الدالة.
وأوُّل ما تصطدم به الفرويدية هو الألسنية وعلم اللغة، فهي لا يمكن أن تُفهم خارج اللغة وبُناها، فزلَّات اللسان والأحلام التي تشكِّل نقطة الانطلاق نحو الاكتشافات الكُبرى في التحليل النفسي لا معنى لها خارج حدود اللغة.
الحلم أنموذجًا
حينَّ نسردُ حُلُمًا من أحلامنا أو نُخضِعهُ للتحليل يُمكن أن ينبثق على حينِ غرة تفصيل كُنا قد نسيناه تمامًا، وهذا التفصيل منتزع من طيات النسيان يُمثِّل بصورةٍ شبه دائمة أقصر طريق وأكثرها أمنًا وموثوقية للنفاذِ إلى معنى الحُلم الكامن خلال التداعي الحُر بواسطة اللُغة،
أما واقعة التمثيل الرمزي للحلم؛ نعرف اليوم أنَّ جميع الحالمين من لغة واحدة يستخدمون رموزًا واحدة، ويذكر فرويد أن وحدة الرموز تمتدُ إلى ما وراء وحدة الألسن، ولمّا كان الحالم نفسه يجهل طبيعة هذه الرموز، تبقى العلاقة بينها وبين موضوعها غامضة، وهُنا تبرع أهمية تقنية تأويل الحُلم.
ويتضِّح من خلال ذلك أنَّ التأويل في صلب منظور وتقنيات التحليل النفسي، فالحُلم يُعدّ طريقة مميزة لعرض صورة _محسوسة ومثقلة بدلالة انفعاليـة_ متمايزة عن المجاز والرمز والتلميح وعن كلِّ أشكال الصـور الأخرى، في كونها أولاً تعبير استبدالي مُجهَّز ليحلّ محل شيء خفي، وتكون الصورة التي هي موضوع المسألة على علاقةٍ معه بواسطة ترابطات وأفكار لا واعية، ويكون رمز الأحلام مُضاعَف اللاوعي، أولاً لكونه يخفي رغبات سرية، ولكونه كالزهرة القُرمُزيّة المُتفتحة في غياهِب «الهو» المظلمة، وبعد ذلك لأنَّ الرابط ذاته بين الصورة ودلالتها غير مُدرَك مِن قِبَل الفرد، لدرجة أنَّ التأويل الذي يُعطِيه الطبيب النفساني حول الحلم حين يقوم بتحليل الحلم يبدو للشخص الخاضع للعلاج وكأنَّه دعابة غير مستساغة.
بالمقابل يُمكن أن يرتبط الحلم بالرّمزية الفردية لحالة اليقظة نتيجة لعوائق اجتماعية واصطدامات الليبيدو بالرقابة التي تشكّلت في منشأ الحلم، فيقترب من الرمزية الاجتماعية في ميزته الجماعية، وحتى إنْ لم يتم تطبيقه بشكل شامل فعلى الأقل بتعميمِهِ داخل حضارة محددة.
صِراع دون حسم
يتساءل فرويد حتى آخر حياته فيمَ إذا كان بإمكان العقل أن يُصبح سيد حياتنا الغرائزية؟ ويجد نفسه مدفوعًا إلى صراعٍ مأساوي، من ناحية _كما نعلم_ ينفي التحليل النفسي هيمنة العقل على اللاوعي، فالبشر تحركهم غرائزهم، ومع ذلك هو يؤكد من ناحية أُخرى: إننا لا نملكُ وسيلة مختلفة سوى إعمال الفِكر لنُسيطر على حياتنا الغريزية.
كعقيدة فكرية، يُحارب التحليل النفسي من أجل هيمنة الغرائز على اللاوعي، وكمنهجية تطبيقية، يرى في العقل الوسيلة الوحيدة لخلاصِ الإنسان وبالتالي خلاص البشرية مِن أسرها، ويُخفي التحليل في باطنهِ هذا التناقض السّري بين غُلبة العقل وغُلبة الغريزة، لكن لم يستطع فرويد حسم الموضوع، لأنَّه لا يجرؤ على إنكار القوة الفعّالة للعقل ولا حتى إنكار قوَّة الغريزة التي يستحيل توقُّعها.
المصادر:
1. مقدمة في علم النفس/ الجزء الأول، آن تايلور، وليد يسلوسلاكن، د.رديفز، ر.تومسون، م. كولمان/ ترجمة: عيسى سمعان
2. الذات عينها كآخر/ بول ريكور/ ترجمة: جورج زيناتي
3. السوسيولوجيا والتحليل النفسي/ روجيه باستيد/ ترجمة: وجيه البعيني
4. في النفس، بحوث مجمعه/ د.مصطفى زيور
5. الحلم وتأويله/ سيغموند فرويد/ ترجمة: جورج طرابيشي
6. الكوجيتو التأويلي ؛ التأويلية الفلسفية والإرث الديكارتي/ جان غرايش/ ترجمة: فتحي إنقزو
7. مقدمة في التحليل النفسي/ كمال وهبي، كمال أبو شهدة
8. التحليل النفسي للذكورة والأنوثة من فرويد إلى لاكان/ عدنان حب الله