الفانتازيا الفلسفية: رحلة في عوالم مايكل موركوك
يعد الكاتب البريطاني مايكل موركوك واحدًا من أبرز الأسماء في عالم أدب الخيال التأملي، بل ويمكن اعتباره أحد أعمدة أدب الخيال العلمي والفانتازيا، فمن خلال رؤيته الفريدة وقدرته على المزج بين الفلسفة والأدب والشخصيات المعقدة، صار موركوك شخصية محورية ساهمت في تطوير الخيال الأدبي.
وُلد موركوك في لندن عام 1939، ونشأ محبًّا للقراءة، وقد تأثر بالعديد من الأعمال في طفولته، مما أتاح له الفرصة لاستكشاف مجموعة واسعة من الأنواع الأدبية. كان قارئًا شغوفًا لأعمال روبرت إي هوارد، وإدجار رايس بوروز، وإتش. جي. ويلز، مما صقل ذائقته الأدبية منذ الصغر وأثر في مسيرته ككاتب.
الموجة الرابعة من أدب الخيال العلمي
في أوائل الستينيات تولى موركوك رئاسة تحرير مجلة عوالم جديدة New Worlds، وهي مجلة بريطانية متخصصة في أدب الخيال العلمي. وأثناء توليه لرئاسة التحرير دفع موركوك بأدب الخيال العلمي إلى آفاق جديدة بعيدة عن الأنماط التقليدية، إذ ساهم في إفساح المجال لما يُعرف بالموجة الجديدة New Wave في الخيال العلمي. كانت هذه الحركة تهدف إلى الابتعاد عن القصص التي تعتمد فقط على التكنولوجيا أو المغامرات الفضائية، والاتجاه إلى استكشاف الأسئلة الفلسفية، والنفسية، والاجتماعية. خلال فترة رئاسته لتحرير المجلة دعم موركوك العديد من الكُتَّاب الذين كانوا يرغبون في تخطي الحدود التقليدية للخيال العلمي، مثل جيه. جي. بالارد وبرايان ألديس.
تميز إسهام موركوك في “الموجة الرابعة” من أدب الخيال العلمي والفانتازيا بتقديم مفاهيم جديدة وتحطيم الأنماط التقليدية. ولعل له الأثر الأكبر في نوع من الفانتازيا يسمى بالسيف والسحر Sword and Sorcery الذي كان من رواده روبرت إي. هوارد في سلسلة كونان البربري، وهو ذلك النوع من الفانتازيا الذي يعتمد على فكرة بطل يواجه مخاطر كبيرة في عالمه معتمدًا على سيفه، فيواجه الوحوش وأحيانًا الآلهة، وقد استوحى موركوك من أعمال هوارد، لكنه أضاف لمسة أكثر تعقيدًا لشخصياته وعوالمه، واهتم أكثر بالتركيز على الصراعات الداخلية والفلسفية.
العالم متعدد الأكوان والبطل الأبدي
من المفاهيم الجديدة التي قدمها موركوك في عالم الفانتازيا هو مفهوم “المالتيڤيرس” أو العالم متعدد الأكوان، وهو عالم يضم عددًا غير متناهٍ من الأكوان المتوازية التي تتداخل وتتفاعل بعضها مع بعض. الأبطال في عوالم موركوك يمكنهم الانتقال بين هذه العوالم المختلفة، وكل عالم له قوانينه وقواعده الخاصة. بل إن نفس الشخصيات في بعض عوالم موركوك قد يكون لها نظائر في عوالم أخرى، وهذا يفسح المجال للتنوع والتعقيد في حكاياته.
استخدم موركوك مفهوم المالتيڤيرس ليربط ما بين سلاسل كتبه المختلفة، وهذا يأخذنا إلى المفهوم الثاني المهم للغاية في أدب موركوك، وهو مفهوم “البطل الأبدي” (Eternal Champion)، وهي فكرة مبتكرة في أدب موركوك، تصف وجود بطل يتجسد في عوالم وأزمنة مختلفة ليدافع عن التوازن بين النظام والفوضى، ويتجسد البطل في أشكال مختلفة في كل عالم. هذا منح موركوك فرصة لاستكشاف موضوعات مثل القدر، والحرية، والتضحية، من خلال النظر إليها من زوايا مختلفة. مفهوم المالتيڤيرس يجعل أعمال موركوك مميزة، فهي متشعبة ومعقدة، ولكنها في الوقت ذاته مترابطة بشكل فريد.
عن تجليات البطل الأبدي
إن أشهر أبطال موركوك هو إلريك من ميلنيبوني، إذ تُعد سلسلة “إلريك” من أشهر أعمال موركوك وأكثرها تأثيرًا. بطلها، إلريك، هو إمبراطور أمهق، يولد مريضًا ويعتمد على الأدوية طيلة الوقت لكي يبقى حيًّا، وهي فكرة تختلف تمامًا عن أبطال الفانتازيا التقليديين. لاحقًا يعتمد إلريك على سيف سحري يُسمى “ستورمبرنجر” يمتص أرواح أعدائه ويمده بالصحة والقوة. إن إلريك – على عكس العديد من أبطال الفانتازيا التقليديين – شخصية مأساوية تحمل أعباءً ثقيلة، ويتخذ قراراته بناءً على التناقضات ما بين الخير والشر بداخله. تمتاز هذه السلسلة بعالمها المعقد وشخصياتها الرمادية التي تتجاوز التصنيفات الثنائية المعتادة بين الخير والشر.
السلسلة الأخرى التي تتبع فكرة “البطل الأبدي” هي سلسلة كورم، التي تتميز بطابعها الميثولوجي الأعمق المستوحى من الميثولوجيا الأيرلندية. هنا نجد بطلًا غير تقليدي أيضًا، فإن كورم – البطل الأبدي لهذه السلسلة – يفقد عينه ويده في بداية الرواية الأولى ويسعى للانتقام من الغزاة الذين دمروا شعبه. مغامرات كورم تمثل رحلة فلسفية عبر العوالم المختلفة في المالتيڤيرس، حيث يتفاعل مع قوى النظام والفوضى.
ولا تقتصر عوالم موركوك على الفانتازيا المحضة، فبعض العوالم من المالتيڤيرس تصور أرضنا في حقب زمنية مختلفة، مثل سلسلة “هاوكمون” التي تتناول مغامرات البطل الأبدي دوريان هاوكمون في أوروبا مستقبلية مدمرة بسبب الحروب. تمزج السلسلة ما بين الفانتازيا والخيال العلمي، وتقدم تصورًا قاتمًا للمستقبل وعالمًا تكون فيه التكنولوجيا السحرية جزءًا أساسيًّا من القوى التي تحكم العالم.
“بوه الملحمي” وانتقاداته لأدب الفانتازيا التقليدي
في مقاله الشهير بوه الملحمي “Epic Pooh“، انتقد موركوك بشدة أدب تولكين وكتَّاب الفانتازيا التقليدية مثل سي. إس. لويس. فيرى موركوك أن أعمال هؤلاء الكتاب – رغم شهرتها – تقدم عوالم مغلقة وآمنة لا تُخاطب الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر، فأعمالهم – من وجهة نظره – تميل إلى تقديم صورة مثالية وعالم بسيط أبيض وأسود، يفتقر إلى التعقيد الموجود في الحياة الواقعية.
في مقاله قارن موركوك بين سلسلة “سيد الخواتم” وقصص الأطفال التقليدية مثل “ويني ذا بوه” (Winnie the Pooh)، معتبرًا أن مثل هذه الأعمال تقدم رؤية مريحة وسطحية للعالم، وتعتمد على فكرة الحنين إلى الماضي التي تقدم الراحة لقرائها بدلًا من تحديهم. يرى موركوك أن هذه الكتب تعكس قيم المجتمع الإنجليزي المحافظ الذي يفضل الهروب من الواقع بدلًا من مواجهته، مع التركيز على العودة إلى البراءة والريف المثالي. يفضل موركوك أن يكون أدب الفانتازيا على النقيض من ذلك، فيجب أن يكون محفزًا للتفكير ومتمردًا على القواعد.
تميز مايكل موركوك عن معاصريه بالتركيز على تعقيد النفس البشرية والعالم. وبينما تعتمد الفانتازيا التقليدية على المواجهات بين الخير والشر، تناول موركوك النظام والفوضى كقوى كونية تحتاج إلى توازن، وليس انتصار إحداهما على الأخرى. بدلًا من بناء عوالم مثالية حيث ينتصر البطل دائمًا، قدم شخصيات معقدة وعوالم مليئة بالغموض والتناقضات. ساعده هذا الأسلوب على أن يكون أحد أهم المؤثرين في تطور الفانتازيا كنوع أدبي.
لقد أحدث موركوك ثورة في أدب الفانتازيا والخيال العلمي بتقديم مفاهيم غير تقليدية مثل “المالتيڤيرس” و”البطل الأبدي”، وأوجد بدائل جديدة للسرد التقليدي. لا يزال موركوك يقدم أعمالًا جديدة حتى يومنا هذا، ولا يزال تأثيره حاضرًا في أعمال العديد من الكتاب المعاصرين الذين يستلهمون من رؤيته الأدبية الثورية.
يظل موركوك واحدًا من الأسماء التي غيَّرت قواعد اللعبة في أدب الفانتازيا والخيال العلمي، وسيستمر إرثه في إلهام الأجيال الجديدة من الكتاب والقراء.