العُنْف بالتفصيل وخُرَافة التستوستيرون
لم يكن مصطلح العُنْف تجاه المرأة يومًا غريبًا على عناوين الكُتُب والمقالات، ولا دخيلًا على القواميس والثقافات، أو حتى وليد اللحظة في حياةِ الأفراد، فتاريخه حافل وممتد على مرِّ الأزمان واختلاف الحضارات والمجتمعات وتَعَدُّد الطبقات، يجوز القول بإنه ظاهرة عالميَّة، قديمة قِدَم المجتمع الإنسانيّ، متجاوزة الحدود والأبعاد الجغرافيَّة، بِنْيَة المجتمعات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة ومستوياتها الاقتصاديَّة، ولكن توجَّهت الأنظار إليها مؤخرًا ووليَّت الاهتمام كظاهرةٍ ضارة، لها آثارها السلبيَّة على الفرد بداية ثُمَّ المجتمع ككل.
مفاهيم العُنْف كثيرة، فكل مفكِّرٍ وباحثٍ يرى العُنْف من منظوره يملك تعريفًا ومفهومًا خاصًا به، فمفهوم العُنْف أخلاقيًّا يختلف عنه قانونيًّا، اجتماعيًّا.. إلخ، وإن تَعَدَّدت مفاهيمه وكَثُرت أنواعه فالمقصود واحد في النهاية، جَلِّي وواضح كنور الشمس. بداية نتناول العُنْف كمصطلح في اللُّغةِ العربيَّة: عُنْف بولده/ عُنْف على ولده (المعجم عربي عامة): لامه وأخذه بشدَّة وقسوة بُغْيَة ردعه وإصلاحه، عكس رفَق، عنُف على تلميذه- طبعٌ عنيف. عُنْف (المعجم لسان العرب): العُنْف الخُرْقُ بالأَمر وقلّة الرِّفْق به، وهو ضد الرفق.
العُنْف بمفهومهِ الشامل هو كل سلوكٍ يَتَّسم بالقسوةِ والعدوان والإكراه، إما بإلحاق الضَّرَر والأذى بالآخرين وتخريب ممتلكاتهم، أو بالتحكُّم والسَّيْطرة والضغط عليهم وسلبهم إرادتهم، وهو أيّ فعلٍ أو تصرُّفٍ مشوب بالإساءةِ والصرامةِ متمثِّلًا بالقوةِ واستخدام القدرة البدنيَّة على الآخرين لإجبارهم على القيام بأعمالٍ محدَّدة، فيه انتهاك لإنسانيتهم وكياناتهم، وغالبًا ما يرتبط مفهوم العُنْف بالعُنْفِ الجسديّ، أو هذا ما قد يَظُنَّه البعض من مصطلح العُنْف، إلا أنه قد تعدَّدت أنواعه وكَثُرت أساليبه، فأنواع العُنْف هي كالآتي:
1.العُنْف النفسيّ/العاطفيّ: يتجسَّد هذا النوع من العُنْف بالاعتداءات العاطفيَّة، والتي من شأنها أن تحطّ من تقدير الفرد لذاته وتقليل احترامه لها، كالسَبِّ والشَتْم والتهديد والترهيب والسُّخْريَّة والمقارنة، وقطع عَلاقات الضَّحيَّة الاجتماعيَّة وتضييق دائرة تواصلها مع الآخرين، كمنعها من مواصلة الذهاب للمدرسة أو الجامعة، وغالبًا ما يكون هذا النوع من العُنْف متبوعًا بالعُنْفِ الجسديّ، وبالرغم من شيوعه إلا أنه يصعب ملاحظته.
2. العُنْف الجنسيّ: تضُم الاعتداءات الجنسيَّة أي فعلٍ أو مبادرة أو تعليق يحمل معانٍ ودلالاتٍ جنسيَّة غير مُرحَّبٍ بها، أو القيام بنشاطاتٍ جنسيَّة بالإكراه دون الأخذ برأي الطرف الآخر وموافقته، كالتحرُّش اللفظي أو الجسديّ، الاغتصاب، الاستغلال أوالابتزاز.
3. العُنْف الاقتصاديّ: هو الحرمان من الحقوق الاقتصاديَّة، كالموارد والخدمات من صحةٍ وتعليمٍ وعملٍ، والحرمان من الأجور أو الميراث أو إجبار الضَّحيَّة على أخذ قروض ليست هي المستفيد منها، وغيره الكثير.
4.العُنْف الجسديّ: أكثر أنواع العُنْف شيوعًا وشهرةً، ويُعبَّر عنه بالاعتداءات الجسديَّة كالضربِ واللكمِ والحرقِ، وأي فعلٍ عدواني من شأنه أن يُرتب آثارًا جسديَّة مزعجة ومؤلمة كالكدماتِ والخدوشِ والرضوض والجروح، وبالتأكيد له آثاره السَّلبيَّة التي قد تُهدِّد حياة الفرد، ولا يخلو الأمر من التبعات النفسيَّة الضَّارَة كالاكتِئابِ والقلقِ وتدمير الثقة بالنفس.
5. العُنْف القائم على النوعِ الاجتماعيّ/الجندر: ربما هذه أوَّل مرة يتردَّد إلى سمعك هذا المصطلح، فالثقافة العَرَبيَّة لا زالت تستهجن كل ما يتعلَّق بالحقوقِ والجانب الإنسانيّ، خاصةً ما يتعلَّق بالمرأة، فقد يرونه مؤامرة حاكها الغرب للنَيْلِ من عروبتهم، أو ضيفًا ثقيلًا دخيلًا على عاداتهم، وقبل أن نوضِّح مفهوم هذا العُنْف لا بُدَّ لنا من أن نوضِّح مفهوم النوع الاجتماعيّ/ الجندر، فالبعض لا زال يخلط بين مفهومي الجنس والجندر.
إنَّ الجِنْس بمفهومه البيولوجيّ (ذكر وأنثى) الذي يبيِّن الفروق البيولوجيَّة بين الجِنْسين كالاختلافات الطبيعيَّة في الأعضاء التناسليَّة، والصفات الوراثيَّة (X, Y)، يختلف تمامًا عن مفهوم الجندر أو النوع الاجتماعيّ الذي يوضِّح الفروق بين المرأة والرَّجُل في الأدوار الاجتماعيَّة، هذا الاختلاف الذي فصل بين الاثنين بطريقةٍ غير متكافئة بسبب الموروث الثقافي وذاكرة المجتمع الحيَّة من أعرافٍ وعاداتٍ وتقاليدٍ، فقُسِّمت الأدوار والوظائف والامتيازات لكليهما تقسيمًا غير عادل، وكُوِّنت البِنْيَة الاجتماعيَّة تباعًا لِمَا أسلفنا من عواملٍ متجذِّرة في وعي الأفراد ثقافيًّا ودينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا.
وتُعرِّف هيئة الأُمَم المُتَّحدة العُنْف القائم على النوعِ الاجتماعيّ (GBV) ”بأنه يشير إلى الأفعال الضَّارَة الُموجَّهة ضد فرد أو مجموعة من الأفراد على أساس النوع الاجتماعيّ، العُنْف الذي نرى جذوره في عدم المساواة المَبنيَّة على النوعِ الاجتماعيّ وإساءة استخدام السُّلْطة والأعراف الضَّارَة”، وبالرغم من أنَّ الإناث هم أوائل المتضرِّرين من العُنْف وأكثرهم عادةً، إلا أنَّ هذا النوع من العُنْف قد يشمل الذكور أيضًا، كأن يُوَجَّه إلى ذَكَرٍ تعليقات ساخرة أو ناقدة على بُكائهِ لسببٍ ما، باعتبار أن البُكَاء وظيفة منوطة بالإناث فقط!
هل سمعت بخُرَافة التستوستيرون من قبل؟ إنَّها خُرَافة التبرير والتبجيل لكل ذَكَرٍ يفرز هذا الهرمون المبجَّل. فمن المسلَّمات لدى المجتمعات الذكوريَّة، أنّ يكون عُنَف الرِّجَال قدرًا لا مناص منه، تُسْدَل عليه مقولات وأمثال شعبيَّة تُبرِّره وتُشَرِّعنه، مثل “فورة دم، ثَّوْرة غضب، ودم الرَّجُل حامٍ… إلخ”، وما هذه المقولات إلا هَرطَقات وخُزَعْبَلات، لأنه لا عَلاقة بين التستوستيرون والغضب، ولكن لأنَّ الجاني غالبًا ما يكون في موضع قوة وسُّلْطة، الأكثر مالًا، قوة بدنيَّة، أو امتيازات اجتماعيَّة، ولأنَّ هذه المجتمعات تتَّبع منهجيَّة لوم الضَّحية والتبرير للجانٍ.
تعود دوافع العُنْف إلى أسبابٍ تربويَّة أخلاقيَّة مكتسبة، وموروثات ثقافيَّة اجتماعيَّة، فالإنسان حصيلة غرس أوساطه، ونتاج ما نشأ عليه واكتسبه من بيئته المحيطة. هذا وقد رأى بعض علماء النفس أنَّ دوافعه نفسيَّة لا اجتماعيَّة، ولكن العُنْف فعل لا ردّ فعل، أو يمكن القول إنه استجابة متطرِّفة وغير متكافئة للتواصُل.
يتداخل لدى البعض التميِّيز بين الحُبّ والعُنْف، الحُبّ المبني على الغيرة الصفراء المَرَضِيَّة، التي تتطلَّع للتحكُّم والسيطرة وسلب الإرادة، وتكوين عَلاقة مبنية على الطاعة لا الاحترام، محورها الخضوع والانقياد لآراء الجاني كعَلاقة العبد بالسيد تمامًا، أو الحُبّ المبني على ادِّعاء الجاني، رغبته في اختيار الأفضل للضَّحية، ما يراه مناسبًا لمصلحتها، التي تجهلها هي ويعرفها هو، فيرى الضَّحية شخصًا جاهلًا بلا أهليَّة، أو كائنًا ناقصًا يُنظَر له بدونيَّة، وربما مشروعًا طويل الأمد للإصلاح والتقويم، وفي كل الحالات ينتهك الجاني آدمية الضَّحية وإنسانيتها.
ومع هذا فإنَّ أغلب حالات العُنْف الأُسَري في الوطن العربي لا يتم الإبلاغ عنها، وتظل حبيسة أسوار المنازل، فالثقافة السائدة لها تُصَنِّفها على أنَّها خلافات عائليَّة، والسبب في ذلك هو القوانين والمواد الدستوريَّة التي تُبيح العُنْف حتى يومنا هذا، باستخدام كلماتٍ مطاطية كالتأديب والتربية، فتجعل قضية العُنْف أمرًا نسبيًّا، ولكنَّ العقاب تحدِّده نسبة الضَّرَر، ولذلك سيبقى التغيير أُمْنيَّة بعيدة المَنال، إن لم يتم فرض قوانين وعقوبات رادعة من شأنها أن تُجرِّم العُنْف فتحدُّ منه.
يُجسِّد العُنْف تعبيرًا عن النظام الاجتماعيّ الأبَويّ، الذي يُهَيْمِن فيه الرَّجُل على المرأة ويقهرها، ويمنحه الأفضلية فيُبرِّر أفعاله، وبالمقابل يدرس سلوك المرأة الاِستِفزازي الذي أرغم الرَّجُل على استعمالِ العُنْف، لذلك كل ما أسلفنا من ذكره يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام الأبَويّ، الذي وقعت المرأة تحت سَطْوَته لعُقُودٍ طويلة، فلنتذكَّر أنَّ العَلاقة الصحيَّة بين المرأة والرَّجُل يجب ألّا تكون مبنيَّة على التبعيَّة والقهر والعدوانيَّة، لأنَّ الحُبّ والمساواة أساس الشراكة وميزان الحياة.