في العَلاقة الإشكاليَّة بين تأسيس السوسيولوجيا وابن خلدون
في واحدٍ من أهم النصوص التي كُتِبَت في العالم العربيّ في القرن العشرين، من وجهة نظرنا، أقصد «مفهوم العقل» لـ عبد الله العروي. يشير الرَّجل إلى أن العَرَب يعانون من «فواتٍ تاريخيٍّ على مستوى الوعي»، يُترجَم على شكل اشتراكهم مع العالم في استعمال “كلمات” لا تتطابق “معانيها” في ثقافة العَرَب بالقياس إلى معاني الكلمات نفسها في ثقافة العالم الحديث. لهذا كَتَبَ العروي “سلسلة المفاهيم”، كي يوضِّح بأن العربيّ حينما يستعمل كلمة “دولة” مَثلًا فإنه يعني بها شيئًا، أما حينما يستعمل الكلمة نفسها شخصٌ غربيّ فإنه يقصد بها شيئًا آخرَ مختلفًا تمامًا. ذلك أن الكلمات لا تتحصَّل معانيها إلا داخل تجارب حضاريَّة معيَّنة، فتجربة المسلمين السياسيَّة أنتجت تاريخيًّا مفهومًا خاصًا للدولة، وقُل الشيء نفسه عن التجربة السياسيَّة للأوروبيين وكيف أنتجت مفهومًا مختلفًا للدولة. مع ذلك، فإن «وَقْع التاريخ هذا على المفاهيم» لا يعيه المسلمون في تعاملهم مع ما أنتجته الحضارة الحديثة من اقتصادٍ وسياسة وحقوق، وأيضًا من «علوم». هكذا، نتفاعل مع العالم بالكلمات نفسها، ولكن ليس بالمعاني نفسها، وكأننا نعيش مفاهيميًّا في زمنٍ آخر غير زماننا.
«وَقْع التاريخ على المفاهيم» لا يُسْتَوعَب إلَّا على أساس «مفهوم القطيعة»، الذي في غيابه ينحصر الوعي في الاعتقاد -مُتوهمًا- باستمرار اتصال الدوال بمدلولاتها في المفاهيم. كأن نعتقد في احتفاظ «العقل» أو «الدولة» أو «القانون» أو«العلم» بالمعاني نفسها بغض النَّظر عن عامل الزمن والتغيُّرات. يقول العروي: «إن الاتفاق في الألفاظ، لا يدل على التطابق في المعاني»(1). خارج هذه القاعدة يتحوَّل الفِكْر الذي لا يُدرِك وقَعْ التاريخ على المفاهيم إلى «آيديولوجيا»، أي إلى فكرٍ ينظر إلى الواقع بشكلٍ مقلوب. لذلك ليس عبثًا أن يُسمِّي العروي أهم كُتبه بـ«الآيديولوجيا العربيَّة المُعَاصرة».
هذا التمزُّق في الوعي العربيّ بين القديم والحديث، الذي لا يُدرِك الفارق التاريخيّ في المفاهيم لأنه فاقدٌ لمفهوم القطيعة، يَحمل كل منتجات العصر الحديث على معاني تراثه القديم، بما في ذلك «مفهوم العِلْم». إذ حينما يسمع العربيّ -المغرق في التفكير التراثيّ- مصطلح علم، يُخيَّل إليه أن المقصود شبيه بما مارسه ابن تيمية والشافعي (الفقه)، أو أبو الهذيل العلاف وأبو الحسن الأشعري (علم الكلام)، أو المقريزي وابن خلدون (التاريخ)، أو الفرابي وابن رشد وأبو إسحاق البطروجي (الفلسفة وعلوم الأوائل). في حين أن «المفهوم الحديث للعلم» لا يُعقَل، ولا يُدرَك، ولا يُفهَم إلا باستيعابه على “شكل قطيعة” [ثورة العلم الحديث] مع أسس المفهوم القديم للعلم(2). في غياب «مفهوم القطيعة»، يحضر الوعي الوهميّ بـ«الإستمراريَّة»، آنذاك ينفتح الطريق سالكًا نحو الاعتقاد بأن القديم يرتبط بالحديث في خطٍ متصل دون انقطاع. هكذا، بَحَثَ الوعي العربيّ المعاصر عن أصول العلم الحديث مباشرة في علوم القرون الوسطى الإسلاميَّة. بهذه الطريقة ادَّعى المُدَّعون أن مؤسِّس علم النفس هو ابن سينا، وأن مؤسِّس علم الاجتماع هو ابن خلدون(3)، وأن المُقدِم على تجاوز المنطق الأرسطيّ هو ابن تيمية(4). ولا ينبغي الاعتقاد بأن المُعَاصرين هم أوَّل سرٍ قد غرَّه القمر -كما يُقَال- في هذا الشأن، بل هذه عادة أجدادهم الأُوَل منذ لقائهم مع الفلسفة اليونانيَّة، فـعَلَمٌ كـ “أبي حامد الغزالي” لم يجد أصلًا دنيويًّا يرد إليه إبداعات أرسطو في المنطق، فـنَسَبَ علمه ذاك إلى كَوْنه مستوحًا أصلًا من كلام نبي الله إبراهيم(5). ولعلنا لا ننسى هنا، أن من ذات الذهنيَّة الخرقاء، خرجت علينا كذلك المهزلة الشنعاء، والمُضحِكة البلهاء، المُسمَّاة «الإعجاز العلميّ في القرآن».
يمكن أن نلاحظ بأن السؤال الذي عَنوْنَا به هذه المناقشة، إنما هو سؤال حديث زمنيًّا، إذ لم يَطرَح العَرَب هذا السؤال قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ، وبشكلٍ خاص في القرن العشرين الميلاديّ، ذلك أن وعي القوم بوجود صنفٍ آخر من العلوم، وهو «العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة» ليس سوى أثر فكريّ لِمَا خلَّفته في وعيهم «الحضارة الغربيَّة» أساسًا. نتيجةً لهذا الإدراك لصنفٍ آخر من العلوم، انقطع بعض المثقفين العَرَب إلى البحث عن جذور هذه العلوم في «التراث الإسلاميّ» تبعًا لذهنيَّتهم اللا تاريخيَّة التي وصفناها قبل قليلٍ بمساعدة العروي، وذلك في تكريسٍ للفوقيَّة المعرفيَّة المتخيّلة للذَّات العربيَّة مقابل الآخر- العُقدة [أوروبا].
لقد نُوقِشَ هذا الإشكال باستفاضةٍ انطلاقًا من موضوع العلوم الاجتماعيَّة، لكن قلَّ ما نُوقِشَ انطلاقًا من إبستيمولوجيا العِلْم بشكلٍ عام، أو انطلاقًا من وجهة نظر «تاريخ العلوم»، سواء كانت إنسانيَّة أو طبيعيَّة. من هذه الزاوية بالضبط، سنحاول مناقشة نشأة السوسيولوجيا وعَلاقتها الإشكاليَّة بـفِكْر ابن خلدون. فهل التطوُّر المعرفيّ الذي بلغته النظريَّة الخلدونيَّة كان يسمح بنشأة السوسيولوجيا؟ أم أن الأمر احتاج إلى تطوُّراتٍ معرفيَّة وقعت خارج العلوم الاجتماعيَّة في الأصل؟
هل السوسيولوجيا هي علم الاجتماع؟
في تقديرنا، تتمثَّل إحدى تجليات تأخُّر الوعي التاريخيّ العربيّ العالِم في الترجمة بشكلٍ صادق. ففيما يخص العلوم الاجتماعيَّة، لم يجد المترجمون مقابلًا يفصح عن كامل الحمولة الدلاليَّة لكلمة Anthropologie، فـتركوها أنثروبولوجيا. وحسُن ما فعلوا. في حين استعملوا كلمة “علم الاجتماع” كـمقابلٍ لـ Sociologie، وفي ذلك سوء تقدير يفتقر إلى الدقة. فليس موضوع السوسيولوجيا في الحقيقة هو ظاهرة الاجتماع في حدّ ذاتها، فحتى الحيوانات تعرف ظاهرة الاجتماع. إن موضوع السوسيولوجيا هو «المُجتمع» [أو الفعل الإنسانيّ داخل المجتمع] كونه مُؤسَّسة حديثة، وشكلًا حديثًا من تنظيم العَيْش المشترك. لم يظهر قبل القرن التاسع عشر الميلاديّ، لأنه ابن الثَّورة الصناعيَّة والدولة الأمة L’état nation . إن “الاجتماع” ظاهرة عامة وطبيعيَّة وعابرة لكل الكائنات الحيَّة تقريبًا. في حين أن “المُجتمع” ظاهرة لا تخص إلا الإنسان، وليس أي إنسانٍ، تخص الإنسان الحديث حصرًا وعلى وجه التَّحديد، فـحتى النمل يعيش داخل أشكالٍ من الاجتماع، لكنه لا يعيش داخل «المجتمع»، فلا توجد سوسيولوجيا للنمل، تستهدف حياة جماعية، تعبر عن تنظيمٍ ثقافيٍّ، وليس تنظيمٍ نابع من الغريزة [الطبيعة].
لعل هذا ما يبرز أوَّل مَلمَحٍ بشأن العَلاقة الإشكاليَّة بين ابن خلدون والسوسيولوجيا، ذلك أن موضوع هذا العلم لم يكن موجودًا أصلًا في زمن ابن خلدون (القرن 14م)، حتى يؤسِّس له علمًا. كان الاجتماع، لكن لم يكن المجتمع. ومعلوم من تاريخ السوسيولوجيا، أن كبار العلماء المختصين قد أقرنوا ظهور هذا العلم بظهور المجتمع أساسًا، لا الاجتماع فقط، خصوصًا كما نجد ذلك عند الألمانيّ فردينوند تونيز(6)، والفرنسيّ إميل دوركايم(7).
وكملاحظة -يمكن قد غابت عن كثير من الباحثين- لا نجد ابن خلدون في «المقدمة» يستعمل ولا في موضع واحد كلمة «مُجتمع». بالمُقابل يَستعمل كلمة: «اجتماع» التي يجعلها مرادفة للـ«عُمران»(8). واعتبارًا للـ«الدِّقة»، فالفرق بين المصطلحين شاسع ويحتاج الى تدقيق، خصوصًا بالنسبة إلى من يعيش في زمن العولمة والتمدُّن الفائق، والسيولة المعرفيَّة.
ابن خلدون كاكتشافٍ استشراقيٍّ في الأصل
حَسب ما يُؤكِّد الأستاذ عبد السلام الشدادي، وهو خبير بفكر ابن خلدون ومترجم لمصنَّفاته إلى اللسان الفرنسيّ، منذ نشر «المقدمة» في القرن الرابع عشر الميلاديّ وحتى بداية القرن العشرين الميلاديّ، لم توجد أي دراسةٍ علميَّة بـاللُّغة العربيَّة تناقش تنظيرات ابن خلدون الفكريَّة والتاريخيَّة(9). في الحقيقة، لم يُغرَس بشكلٍ واضح في أذهان كبار المفكرين العرب شيءٌ اسمه ابن خلدون كعالمٍ مهتَّم بظاهرة الاجتماع، إلا بعد اهتمامٍ استشراقيٍّ طوال القرن التاسع عشر الميلاديّ بـ«المقدمة». انطلق هذا الاهتمام بأوَّل تحقيقٍ وترجمةٍ سنة 1806م على يد الفرنسيّ سيلفيستر دو ساسي Antoine-Isaac Silvestre de Sacy، الذي نَشَرَ ترجمة جزئيَّة لفصولٍ مُعتبرة من المقدمة في كتابه(10)Chrestomathie arabe. ثم قدَّم تلميذه ويليام دو سلان William Mac Guckin de Slane ترجمةً كاملةً للمقدمة سنة 1863م(11).
العجيب أن أوَّل من ادَّعوا أن ابن خلدون كان عالمَ اجتماعٍ، قد كانوا مُستشرقين(12)، الذين لم تكن لهم أي عَلاقةٍ بالسوسيولوجيا، لا تكوينًا ولا بحثًا، خصوصًا في القرن التاسع عشر الميلاديّ، الذي لم يكن فيه هذا العلم إلا في سياق التبلور والنشأة والاستقلال. كان معظم هؤلاء المُستشرقين مُتخصصين في فقه اللُّغة La philologie، ولا معرفة لهم بالسوسيولوجيا إلا على ذلك النحو الذي يسمح لهم برمي مفكِّرٍ بأنه سوسيولوجيٌّ لمجرَّد أنه فكر في ظاهرة الاجتماع. في حين أن كبار مؤسِّسي العلوم الاجتماعيَّة لا نجد في نصوصهم ذكرًا لأي شيءٍ يرتبط بفكر ابن خلدون أو بثقافته العالمة.
يتضح إذن أن الاهتمام بابن خلدون ترجمةً وتحقيقًا، ثم الافتراض بأن الرَّجل كان عالمَ اجتماعٍ، إنما هما فكرتان تعودان إلى أصولٍ استشراقيَّة مَحضة. إذ بدأ تحقيق المقدمة في الفكر الفرنسيّ قبل أن يشرع العرب في تحقيق هذا النص بلُغتهم، ثم يميلوا فيما بعد إلى الرَّأي الذي يؤكِّد أن واضع المقدمة هو مؤسِّس علم الاجتماع، ليس لشيءٍ، إلا لأن العلاَّمة قد فكَّر في الاجتماع الإنسانيّ في مؤلَّفه العبقريّ ذاك!
هل يتحدَّد العلم بالموضوع فقط، أم يتحدَّد بالمنهج؟
وَقَعَ دُعَاة فكرة “تأسيس ابن خلدون للسوسيولوجيا” في منزلقٍ ما كان لهم أن يسقطوا فيه، وقد عاشوا في القرن العشرين الميلاديّ، أي بعد قرونٍ من التراكم المعرفيّ في «فلسفة العلم» التي تُميِّز بين المعارف الإنسانيَّة بناءً على مناهجها وليس بالنَّظر إلى موضوعاتها تحديدًا. فقد فاتهم أن «الاجتماع الإنسانيّ» ليس موضوعًا حصريًّا وخاصًا بالسوسيولوجيا، فحتى الشُّعراء يهتَّمون بالمجتمع، وزد عليهم الأدباء، ورجال الدين، ورجال القانون والاقتصاد، والمؤرِّخين والفلاسفة وغيرهم، فكل شخصٍ لا بُدّ أن يُفكِّر ولو مرَّة في حياته في المجتمع، وقد يكتب في مسائل وقضايا ومشكلات الاجتماع الإنسانيّ، لكن هل هذا يجعل منه «سوسيولوجيًّا» أو «أنثروبولوجيًّا»؟! في الحقيقة، الذي يُميِّز التفكير السوسيولوجيّ [Le raisonnement sociologique] ليس موضوعًا ما، إنما هو منهج شديد الخصوصية والتخصص، إذ لم تظهر السوسيولوجيا كعلمٍ إلا بعد أن تشكَّلت أهم أركان «المنهجيَّة العلميَّة الحديثة». وهي لا تخص السوسيولوجيا وحدها، بل تخص كل العلوم الحديثة. لهذا ليس عبثًا أن تنشأ السوسيولوجيا داخل تيارٍ علميٍّ يسمَّى «الوضعيَّة Le Positivisme»، التي هي أساسًا عبارة عن “نظرية في المعرفة” العلميَّة، وليست نظرية في الاجتماع الإنسانيّ فقط، بل “نظرية في المعرفة” تمتد عنها منهجيَّة خاصة بكل فرعٍ من العلوم، فهي إطار عام يشرط طريقة التفكير العلميّ، سواء اتصل بـ الفيزياء، أو البيولوجيا، أو السوسيولوجيا. ولو تساءلنا من السابق عن الآخر، هل الوضعيَّة أم السوسيولوجيا؟ لمَا حلَّ لنا الجواب إلا بسبق الوضعيَّة كإطارٍ عامٍ للعلم عن السوسيولوجيا، فالعلم يخرج من إبستيمولوجيَّاتٍ سابقة عليه في التأسيس والتراكم. السؤال الآن: عن أي إبستيمولوجيا علميَّة قبليَّة نهض ما يوصف بـ علم العمران الخلدونيّ؟
إنَّ القائلين بتأسيس “العَلاَّمة” للسوسيولوجيا، انطلاقًا من الموضوع [أي ظاهرة الاجتماع الإنسانيّ]، لا تأسيسًا على المنهج، يشبهون من يضع العربة أمام الحصان. من وَعَىَ بهذه المسألة من الدارسين للخلدونيَّة، قد مال إلى الافتراض بأن “المُقدمة” قد ابتكرت منهجًا جديدًا في التفكير، قد قلب المنطق السابق للعلم، الذي هو منطق أرسطيّ أساسًا، كما دافع عن ذلك علي الوردي(13). لكن قلب الأرسطيَّة -على افتراضٍ أنه حصل مع ابن خلدون ومع قطاع في الفلسفة العربيَّة- لا يشكِّل أي أساسٍ إبستيمولوجيٍّ يمكن أن ينهض عليه “عِلم” للمجتمع. والإبستيمولوجيا مبحث في مَبادئ وأُسس ومَصادر المعرفة العلميَّة، أما المنهج فليس إلا امتدادًا عنها. ما يهم في العلم إنما مبناه الإبستيمولوجيّ، الذي يُترجمه المَنهج طبعًا. ولكن ليس لأي تغييرٍ في خطوات المنهج أن يبتكر علمًا جديدًا، خارج منظورٍ جديد في نظرية المعرفة أساسا. صحيح أن ابن خلدون قد حدَّد لنفسه منهجًا مستجدًا في تنقيح أخبار التاريخ، لكن هل أحْدَثَ ثورة في منظور العرب للمعرفة؟ هل أبدع إبستيمولوجيا جديدة؟
لو أردنا أن نتعمَّق في هذا الأمر، لتساءلنا عن طبيعة نظرية المعرفة عند المسلمين، حينها سنجد أنها تنهض عن مصادر المعرفة التالية: الوحي- النقل- العقل- الحواس [والحدس](14)، مع تقلُّص في دائرة العقل والحواس، وانتفاخ في دائرة الوحي والنقل. تُتَرجَم هذه المصادر المعرفيَّة إلى مناهج تفكير ينظمها المنطق الأرسطيّ بشكلٍ أو بآخر -وإن حاول البعض تحرير الفكر الإسلاميّ من سطوة هذا المنطق(15)- وتُصرَّف في خطوات منهجيَّة على شكل استنباط أو قِياس. سواء كان قياسًا فقهيًّا، أو كلاميًّا، أو فلسفيًّا. ويجادل سامي النشار بأن بعض علماء الأصول سواء في الفقه أو الكلام، قد تحرَّروا من الاستنباط، واعتمدوا مناهج استقرائيَّة كذلك (من الخاص إلى العام). وفي ذلك علامة على استقلال علماء المسلمين بمنهاهجهم عن مناهج فلاسفة اليونان، كما يزعم النشار(16).
السؤال الآن: هل غيَّر ابن خلدون شيئًا في هذه الخطاطة المعرفيَّة؟ لا في خطوات المنهج -وهذا أمر بديهيّ- بل في أسس ومصادر المعرفة؟ هل تجرَّأ ابن خلدون على طرح ذلك السؤال، الذي صنع ثورة في أوروبا، وهو: هل يصلح الوحي كي يكون مصدرًا لمعرفةٍ «عِلميَّة»؟ وهو السؤال الذي اصطدم به كل أعلام الفكر الحديث: فرانسين بيكون، وديكارت، ومالبرانش، واسبينوزا، وهيوم، ولوك، وجيام باتيستا فيكو، وكانط، وهيجل. وما كان جوابهم عن ذلك السؤال، إلا فاتحة عصرٍ جديد في المعرفة الإنسانيَّة. الجواب -بالمقابل- الذي لم يُقدِم عليه لا ابن خلدون ولا قطاع واسع من المفكِّرين المسلمين الكلاسيكيين، على نحوٍ فَلسفيٍّ تأسيسيٍّ.
بعد دراسةٍ مستفيضة في المنهج الخلدونيّ، استقر رأي علي الوردي(17)، وأبو يعرب المرزوقي(18)، على أن كل ما فعله ابن خلدون هو قَلْب بعض خطوات “المنهج” الأرسطيّ، وفي ذلك إبداع لا شَكّ فيه. غير أن دارسين آخرين من طراز طه حسين(19) ومحسن مهدي(20) وعبد الله العروي(21) يؤكِّدون أن ابن خلدون لم يخرج عن الخطوط العريضة للأرسطيَّة في المنهج، رغم ما استحدثه من قواعدٍ جديدة توجه تفكير المؤرِّخ. قواعدٌ تنقد بعض جوانب الأرسطيَّة، ولكن لا تخرج عن إطارها العام. ولعل ذلك ما يُذكِّرنا بموقف هايدجر من انتقادات نيتشه لأفلاطون ولكل تاريخ الميتافيزيقا، إذ رمى صاحب “الوجود والزمن” نيتشه بالبقاء في دائرة الميتافيزيقا الأفلاطونيَّة حتى وإن قلبها رأسًا على عقب(22).
في المحصلة، ما نستطيع أن نستخلصه من كل هذا، هو أن: ابن خلدون لم يمسس مصادر المعرفة الإسلاميَّة المقررة بالعقيدة، قبل أن تقرر بالعقل، وهي المصادر التي التجديد فيها، هو بحق، منطلق أي مشروعٍ علميّ جديد. وبما أنه لا يوجد تجديد في الإبستيمولوجيا الإسلاميَّة، إذن فثمة فقه الاجتماع، وتاريخ الاجتماع، وسياسة الاجتماع، ولا يوجد «عِلم» الاجتماع [المجتمع]. في اختلاف عن هذا، كيف يمكن لـ«السيوسيولوجيا» كعلم أن تنشأ، من منظور تاريخ العلوم؟
من كوبرنيك إلى ديكارت: أو في الأصول النظرية للـ«علوم الإنسانيَّة»
قد يرتفع حاجب الدهشة عندنا جراء عِلمنا بتأسيس اليونان لكثيرٍ من العلوم، لكن ليس من بينها أبدًا «العلوم الإنسانيَّة». وحالهم في ذلك كحال العرب، بل هم من أحالوا العرب إلى الحال الذي عهدناهم عليه في هذه القضايا. والسبب في ذلك لا يُفْهَم إلا إذا عُدنا إلى تاريخ العلوم عامة -وليس إلى تاريخ السوسيولوجيا خاصة كما يفعل الكثيرون- الذي لا يتحرَّك إلا بـ«إشكالاتٍ نظرية».
لم يُنشئ القُدامى -خصوصًا اليونان- علومًا إلا لما اقترن في أذهانهم بـ«إشكال». فكان يطرح أفلاطون مثلًا في محاوراته أسئلة من قبيل: ما الجمال؟ ما العلم؟ ما الفضيلة؟ لكنه لم يطرح سؤال «ما الإنسان؟» [حتى نؤسِّس له علمًا]. ذلك لأن الإنسان كان مُعرَّفًا عندهم، أي مفهوم، ما دام أنه يُصنَّف وفق الثنائيَّة المعروفة: فهو حَيوان (مادة) وناَطق (صورة)، بالتالي فإنه لا يطرح أي إشكال. لن يصبح الإنسان مُشكلة، أي غير مفهومٍ، إلا مع الكوبرنيكيَّة [نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها]، لأنها هي من جرَّدته من اقتعاده على عرش مركز العالم، وحوَّلته تقريبًا إلى «لا شيء»، أو بتعبير باسكال اللطيف إلى: «قصبة (Un roseau)، لا يوجد في الطبيعة شيء أضعف منه»(23). إذ إن مشكلة شساعة العالم التي أفرزها الفلك الكوبرنيكيّ -حيث تضاعف العالم مع كابرنيك 2000 مرة قياسًا إلى عالم بطليموس وأرسطو- هي من جرت الفكر الإنسانيّ إلى طرح سؤال «ما الإنسان؟»، لأن موقعه في الوجود أصبح غير مفهومٍ. من هنا ستنشأ الأصول النظريَّة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى ابتكار «العلوم الإنسانيَّة».
لن تتحوَّل “مشكلة الإنسان في العالم” الفسيح والمخيف الذي أبان عنه الفلك الحديث، إلى “إشكالٍ نظريٍّ” [مُمهد لإشكال علميّ] إلا مع «فلسفـة ديـكارت»، التي ليست بدورها سوى امتدادٍ للكوبرنيكيَّة. وما الرسالة الشهيرة التي بعثها ديكارت للأب ميرسين حول الأصول الكوبرنيكيَّة لأفكاره، إلا دليل على ذلك(24). إذن، كيف ستتبلور «إشكالية الإنسان»، التي هي جذر «علوم الإنسان»؟
في الواقع، أفرزت الكوبرنيكيَّة في فلسفة ديكارت ثنائيَّة جديدة في تاريخ الفلسفة والفكر العلميّ، وهي ثنائيّة: «الفِكر» و«الامتداد»(25)، وعنها سينشأ «مفهوم الإنسان»، كمفهومٍ حديث، له أسس مفارقة للإنسان كمادة وكصورة، أي الحيوان الناطق، أو السياسيّ. يحيل “الامتداد” عند ديكارت إلى كائناتٍ ماديَّة كـ الحيوانات والجمادات [عناصر الطبيعة]، والفِكر يُحيل إلى كائنات لا ماديَّة كـ الإلَه والملائكة ومقولات الإدراك. في حين أن الإنسان هو الوحيد في الطبيعة الذي هو عبارة عن: فكر وامتداد، في الوقت نفسه! إذن، هنا تحديد جديد لكيانٍ (Substance) قد يتحوَّل إلى موضوع فكر أو علم، لأنه حامل لإشكاليّة. فما هي؟
يتمثَّل الإشكال الذي أفرزته الديكارتيَّة، في عدم قدرتها على دراسة الإنسان كامتدادٍ، حتى تُدْخِله في علم الفيزياء [الفيزيقا]. وأيضًا، لم يكن بمكنتها دراسته كـفكرٍ خالص حتى تُدْخِله في مبحث ما بعد الطبيعة [الميتافيزيقا]. إذن إنه موضوع لا يمكن دراسته لا بعلم الطبيعة، ولا بعلم ما وراء الطبيعة، لأن أجزاءه مُتفرِّقة بين المباحث والعلوم المعروفة حتى ذلك الوقت. الأمر الذي يقتضي تأسيس «عِلم جديد» يختص بدراسة هذا الإنسان، وليس ذلك بالأمر اليسير، فحتى ديكارت لم يفرغ للقيام بهذه المهمة، نظرًا لانشغاله بالفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة.
جدير بالذكر، أن في شجرة العلوم الديكارتيَّة، الجذور عبارة عن ميتافيزيقا وموضوعها الفِكر، والجذع عبارة عن فيزيقا [علم الطبيعة] وموضوعه المَادة، أما أغصانها فمكوَّنة من مباحث: الميكانيكا، والطب، والأخلاق. العجيب، أن ليس لعلم يختص بدراسة الإنسان مكان داخل هذه الشجرة. ليس السبب مُعلَّلًا بعدم اكتمال الموضوع فقط، بل بـ”عدم اكتمال المنهج” الذي بمُستطاعه دراسة هذا الموضوع الإشكاليّ، الذي هو الإنسان. فلسفة ديكارت وفلك كوبرنيك أبرزا وجود موضوعٍ يحتاج إلى علمٍ، ولم تصنع بشأن منهج الإنسانيَّات إلا ابتكار بعض مبادئه وأولوياته، إذ إن الأمر احتاج إلى تطوُّرات معرفيَّة جديدة، تتلخَّص بالذات في: فيزياء نيوتن، وإبستيمولوجيا كانط، وتاريخيّة هيجل.
قبل ذلك، لا بُدّ من ذكر شيءٍ عن ديكارت بالمقارنة مع ابن خلدون، شيء يخص نظرية المعرفة. ستحدث في الحقيقة نقلة كبرى مع ديكارت في ميدان الإبستيمولوجيا، ما كان للإنسانيَّات أن تنشأ من دونها. وتتلخَّص هذه النقلة في ابتكار «مفهوم الذَّات». فكما حلَّ كوبرنيكوس مشكلات الفلك القديم بزحزحة اتجاه البحث من الموضوع [الكواكب المُتحيرة مثلًا] إلى الذَّات [العالم المُلاحظ للسماء]. بالشكل نفسه أسَّس ديكارت كل الفكر الحديث على مفهوم الذات، وهي ذات ليست مصدرًا للمعرفة، بل مَصفوفة منظمة لمعطيات الحس [الخارجيَّة] على أساس مقولات الإدراك [الداخلية]. إنها مُهندسة المعرفة وبانيتها. بذلك سقطت قاعدة: «الشرع حاكم على العقل»، التي تخبط فيها ابن خلدون، والتي تركته قابعًا في إبيستيمي القرون الوسطى(26). فذات ديكارت هي من تصل إلى مَبدأ الشَّرع [الإله]، وليس هذا الأخير من يقذفها سحريًّا في إدراك الإنسان كما كان يعتقد معظم مفكري القرون الوسطى. يُمثلها عند المسيحيين القديس أنسلم بقوله: «أنا أؤمن لكي أفهم je crois pour comprendre»، ويمثلها عند المسلمين حديث: «من عرف ربه فقد عرف نفسه». ولكن هل بالإمكان تأسيس مَعرفة على ما فوق الذات؟ أو على ما يسبق الذات؟ الجواب بالنفي، هو ما صنع ما نصفه بـ«الحداثة»، التي انطلقت من المعرفة، قبل أن تمتد إلى ميادين التمدُّن والسياسة والاقتصاد والحقوق. كما أن ذات الجواب بالنفي، هو ما يشكِّل الأساس الإبستيمولوجيّ لكل الفكر العلميّ الحديث، في الفيزياء والبيولوجيا، كما في علم النفس والسوسيولوجيا. كل شيءٍ يتأسَّس على ذاتٍ مُفكِّرة “سابقة” على أي محتوى ذِهني [ثقافي] خارجي، سواء كان إلَهًا، أو دينًا، أو أسطورة، أو نظريَّة، أو غيرها.
في الواقع، إن التجريبيين الإنجليز بكل نباهتهم لم يستطيعوا التخلُّص من ذات ديكارت، فـإمامهم الأكبر «ديفيد هيوم» لم يقرّ في وقوفه على ما ظن أنه أرضٌ ثابتة يؤسس عليها فلسفته [الواقع التجريبيّ، والحس]، حتى أعادته للقعود مجدَّدًا «مُشكلة الاستقراء» بأصولها الديكارتيَّة، بل وحتى الأرسطيَّة(27). لهذا لم يجد فيما بعد “إيمانويل كانط” بُدًّا من تطوير هذه الذات، بدل البحث لها عبثًا عن بديل. البديل الذي لا ينتهي إلا إلى «هذيانات ما بعد الحداثة»،كما أظهر لنا التاريخ.
من نيوتن إلى أوجست كونت مرورًا بكانط وهيجل: الطريق نحو الوَضْعيَّة
إن ما يهمنا من منظور الإبستيمولوجيا المُقارنة، ليس فيزياء نيوتن في حدّ ذاتها، وإنما مبادؤها في التَّفكير العلميّ، وهو المشترك الذي يمكن أن يُقْتَبَس من طرف فروعٍ علميَّة أخرى. وذلك بالضبط ما حصل بين السوسيولوجيا والفيزياء.
كما قلنا لم يطوِّر اليونان علمًا إنسانيًّا، لأنهم كانوا يعتقدون بأن لا الإنسان، ولا ظاهرة الاجتماع الإنسانيّ إشكالات، إنما هما ظاهرتان طبيعيتان. فـ«الإنسان اجتماعيّ بطبعه» كما ترسَّخ في فكر اليونان، وبعدهم العرب، وعلى رأسهم ابن خلدون(28). ما كان يشغلهم هو تجويد مستوى هذا الاجتماع، وهو ما التجأوا في أثره إلى «اليوتوبياL’utopie »، كما تظهر في “جمهورية” أفلاطون، أو في “المدينة الفاضلة” للـفرابي. يوضِّح هذا أنهم اهتَّموا بكيف يجب أن يكون الاجتماع؟ وليس بكيف هو موجود أولًا؟ السؤال الثاني أعدوه بديهيًّا ومفهومًا، لأنه طبيعيٌّ [اجتماعيّ بـالطبع]. في الحقيقة، سوف تهدم فيزياء نيوتن هذا المنظور الطبيعيّ، كما مهَّدت له الكوبرنيكيَّة والديكارتيَّة.
في منظور اليونان، تقوم الطبيعة على مبدأ الانسجام والتوافق. لكن العلم الحديث وضَّح أن «الطبيعة ليست طبيعيَّة»، لأنها لا تقوم في كل مظاهرها على مبدأ الانسجام والبداهة، بل إنها في الحقيقة جماع قوانين مُتصارعة. كيف ذلك؟ يحيل القانون الأول من قوانين نيوتن، على «مبدأ العَطالة Loi d’inertie»، الذي يفيد بأن أي جسمٍ لا تؤثِّر فيه أي قوَّةٍ، أو تتعادل القوى المؤثِّرة فيه، لا يكون إلا جسمًا ساكنًا، أو متحرِّكًا حركة مستقيمة مُنتظمة(29)، هذا إذا لم يتصل هذا الجسم بأي قوَّةٍ خارجه. بمجرَّد ما يدخل في عَلاقةٍ مع جسمٍ آخر، أو قوَّة أخرى، يمارس الأول على الثاني تأثيرًا، يُعبِّر عنه نيوتن بـ«قانون الثقالة أو الجذب Loi de la gravité»، وينص على وجود قوَّة تجاذب بين أي جسمين في الكَوْن، تتناسب طرديًّا مع حاصل ضرب كُتلتيهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة بين مركزيهما(30). بالتالي «ليس من الطبيعيّ» أن تسقط الأجسام، بل توجد قوَّة تجذبها نحو الأرض. «التفسير بواسطة القوانين» كخاصية للفيزياء الحديثة، بوصفها نفيًا لما يعد «من طبيعة الأشياء»، سيدفع العلماء إلى تعميم هذا النمط من التَّفكير العلميّ نحو مجالات تقع خارج الموضوعات التي تدرسها الفيزياء. هذا بالذات ما سينتقل إلى حقل الإنسانيَّات. هكذا، سيُعيد الفلاسفة النَّظر في مقولة «الإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه» و«سياسيّ بطبعه». لقد كشف نيوتن للبشريَّة أن لا وجود في الحقيقة لشيءٍ طبيعيٍّ في ذاته، إن هذه لَـمقولة غير علميَّةٍ. هنا ستبدأ في التبلور قضية المجتمع بوصفها «إِشكاليّة عِلميَّة» [أي بوصفه ليس طبيعيًّا]، وسيعبِّر عنها أول الأمر فلاسفة العقد الاجتماعيّ.
إعادة بناء قضية الاجتماع كـ إشكاليّة حديثة، ستَحمل فلاسفة العقد الاجتماعيّ على هدم مقولة «الإنسان اجتماعيّ بطبعه»، التي تفترض أن الإنسان منذ أول يومٍ وَجَدَ فيه نفسه في التاريخ، أسَّس الاجتماع. في نفيٍ لكل هذا، بل وفي الاتجاه النقيض له تمامًا، يفترض هوبز وجون جاك روسو وجود حالةٍ تسبق حالة الاجتماع، يُسَمِّيَانها «حالة الطبيعة» التي لا اجتماع فيها، بل ما هي إلا حالة غابويَّة من الفوضى وعدم الانتظام(31). إذن، بما أن الاجتماع الإنسانيّ ليس طبيعيًّا، وبما أن الإنسان لم يطوّره في مرحلةٍ أوليَّة من تاريخه، بل أسَّسه في مرحلةٍ تالية، إذن: كيف ظَهَرَ المجتمع؟ بهذا السؤال، بدأ يتهدَّم براديغم قديم [ينتمي إليه ابن خلدون]، وفي مقابله بدأ يتشكَّل براديغم جديد فيما يخص التَّفكير في الإنسان وثقافته، وداخل هذا البراديغم حصرًا -بأصوله الكوبرنيكيَّة والنيوتينيَّة- ستظهر السوسيولوجيا، وكل «العلوم الإنسانيَّة».
سؤال «كيف ظَهَرَ المُجتمع؟» يُعَدّ عند ابن خلدون بديهيًّا [طبيعيًّا]، أي إنه مفهوم. لهذا لم يطرحه أصلًا، جريًا على عادة كل مفكِّري العهد القديم. لماذا؟ لأنه سؤالٌ قد تَكفَّل الوحي بالإجابة عنه، فالخَلْق بدأ بآدم وحواء، ومنذ أخذهما في التكاثر وهما في اجتماعٍ إنسانيٍّ ما فتئ يكبر زمنًا بعد آخر، هكذا بـبساطة تأسَّس الاجتماع، لدواعي طَبيعيَّة فطر الله الإنسان عليها (32). في حين أن فلاسفة العقد الاجتماعيّ قد تحرَّروا من تفسير أصول الاجتماع الإنسانيّ بالسرديَّات الدينيَّة، وانتقلوا إلى التَّفكير وَفْق آخر تطوُّرات العلم في زمانهم، التطورات التي مثلتها أساسا فيزياء نيوتن، كما وضحنا قبل قليل. في الواقع، إن سؤال الأسس التي تجعل الاجتماع بناءً قائمَ الذات، الذي همله القدامى، لم يفارق السوسيولوجيين حتى اليوم، فَـقبل أيام فقط صدر كتابٌ لأحد أعلام السوسيولوجيا في فرنسا، حول هذا الشأن بـالذات(33). ولعل ذلك ما يوضِّح أوَّل فارقٍ بين براديغم علم العمران كـ«فكرٍ دِينيٍّ» في جوهره، وبراديغم السوسيولوجيا كـ«فكرٍ عِلميٍّ».
في إطار نضج الشروط الإبستيمولوجيَّة لتبلور موضوع ومنهج السوسيولوجيا، عقِب فِيزياء نيوتن. سوف يُطوِّر ايمانويل كانط إبستيمولوجيا جديدة، تحمل معالم عِلمٍ تجريبيٍّ محض، أي علم مُفارق للميتافيزيقا [خصوصا المتصلة بالدين] كـ مصدر مَعرفةٍ حول موضوع العِلم، سواء كان طبيعة، أو تاريخ، أو سياسة، أو مُجتمع. وبذلك قطع جذريًّا مع الأسس المعرفيَّة لفكر القرون الوسطى، الذي ينتمي إليه ابن خلدون. لقد وَضَّح كانط -تبعًا لفيزياء نيوتن- أن العِلم لا يتطوَّر بـ«القضايا التحليليَّة» (La Tautologie)، بل لا يخطوا خطوات إلى الأمام إلا بـواسطة «القضايا التركيبيَّة». الفرق بين الاثنين شيء واحد، هو: «التجربة L’expérimentation scientifique». بالتالي لم يَعُد سائغًا تبرير أو تفسير ظاهرة بمقولات الميتافيزيقا، من وحي وأساطير وسرديَّات دينيَّة، أو تأمُّلات فلسفيَّة. لا يسوغ الاستدلال والحجاج منذ الآن إلا بما تفصح عنه التجارب العِلميَّة. ذلك أن بالنسبة لكانط، التجربة تفترض أمرين: مقولات الإدراك [Les catégories de l’entendement] وهي عقليَّة، ومعطيات العالم الخارجيّ وهي حسيَّة، وما ينظِّم هذه المعطيات الحسيَّة وَفْق مقولات الإدراك حتى يبنيها على شكل معارف، إنما هي «ذات Sujet» سابقة على كل شروط التجريب، لهذا وصفها كانط بأنها «مُتعالية» (Transcendantal)، أي سابقة على طرفي المعرفة: المقولات والمعطيات(34).
إن إقران التفسير بالتجريب يفرض على موضوع العلم بعض الشروط، فـكي يكون هذا الأخير قابلًا للتفسير تجريبيًّا، يجب أن يتحدَّد بمتغيرين، لا غير، وهما: «الزمان» و«المكان»، وهنا واضح مدى تأثُّر كانط بفيزياء نيوتن. أي شيءٍ يقع خارج الزمان والمكان، إذن فهو خارج ميدان العِلم. بالتالي فإنه داخل في ميدان الميتافيزيقا، أي اللا علم. وتبعا لهذا وَصَفَ إميل دوركايم الظاهرة الاجتماعيَّة بأنها: «شَيء»(35)، لأن “الشيء” هو الوحيد الذي يتحدَّد عِلميًّا، بمتغيري: الزمان والمكان. خارج ذلك نجد أنفسنا في حقل الميتافيزيقا [حقل الخلدونيَّة].
لكن، هذان المتغيران يصلحان لدراسة حجرة، فيزيائيًّا. لكن في الإنسانيَّات يبقى الموضوع فاقدًا لواحدٍ من أهم أبعاده، بعد الزمان والمكان، أقصد «التاريخ». وهنا سيدخل هيجل على الخط.
في الحقيقة، أوَّل من سيُخفف -نسبيًّا- من النزعة الفيزيائيَّة آناء النَّظر في مباحث الإنسانيَّات، ويقترب من تفكير أكثر التزامًا بروح الظاهرة الإنسانيَّة، كان هو: هيجل. لذلك ليس عبثًا أن يعتبر سوسيولوجيًّا أصيلًا كـ “هيربرت ماركوزه”، أن هيجل كان هو أوَّل مؤسِّسٍ للنظرية السوسيولوجيَّة (36). الجديد عند هيجل للإنسانيَّات، يخص الموضوع والمنهج على حدّ سواء. من ناحية الموضوع نَقد هيجل كانط في تحديده لموضوع العلم بالزمان والمكان حصرًا، تبعًا لنيوتن، وإن كان كلاهما نيوتينيين بعمق، وأضاف مُحددًا آخر لا يقل أهمية وهو «التاريخ». وفي ذلك تقدُّم كبير في اتجاه بناء موضوعٍ علميٍّ للإنسانيَّات، ذلك أننا حينما نقول بإن الإنسان هو موضوع العلوم الإنسانيَّة، يبدو أن ذلك القول فضفاض وغير دقيقٍ، فحتى البيولوجيا والطب والشِّعر موضوعهم الإنسان، وهذه ليست علوم إنسانيَّة أو اجتماعيَّة. إذن ما الذي يميز إنسان هذه العلوم؟ حسب هيجل يميزه كونه «كائنا تاريخا». قد يقول البعض: “حتى ابن خلدون قال هذا الكلام”، وهذا غير صحيحٍ بالمرَّة. ابن خلدون ينطلق من مفهومٍ [دينيٍّ] جاهز للإنسان والتاريخ، في حين أن هيجل لا ينتهي إلا إليهما. فضلًا عن ذلك، تصوُّر هيجل للتاريخ «وَضعيّ» لا يشارك فيه لا الشياطين ولا الآلهة. أما ابن خلدون فـمفهومه للتاريخ بقي دينيًّا، ما عدا ما يتصل فيه بمناحي الحياة الدنيويَّة الخالصة.
لقد أصبح الإنسان في منظور هيجل يكتب بحرف كبير “Homme”، ذلك أنه مُنْتِجٌ لتاريخه، ونتاجٌ له في آن. هو من أبْدَعَ أحداث التاريخ، بالتالي هو من صَنَعَ مُجتمعه، ودُوله، وحَضاراته، وخرافاته، وأديانه، و آلهته، وليس العكس. هكذا سيتحوَّل إنسان ديكارت المفرغ من أي شيءٍ يسبقه [La Tabula rasa]، وسيمتلئ بمحتوى تاريخيٍّ سابق عليه، أي ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ. هنا بالذات نضج الموضوع الحديث للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة.
أما من ناحية المنهج، فكما تناول نيوتن الطبيعة وَفْق منظورٍ ميكانيكيٍّ تنظم سَيره القوانين. كذلك تناول هيجل التاريخ، بمنظورٍ ميكانيكيٍّ حتميٍّ، يتأسَّس على قوانين، لكن هذه المرَّة ليست قوانين الطبيعة، بل “قوانين التاريخ”، التي توصَّل إليها بواسطة منطقه الجَدَليّ [الديالكتيك] الذي ضمَّنه كتابه الفريد «عِلم المنطق»(37). وهو ما سيُؤثِّر بقوَّةٍ في طريقة تفكير أهم مؤسِّسي السوسيولوجيا كـ كارل ماركس وماكس فيبر، ولكن ليس دون انتقاداتٍ وتحويراتٍ وتجديداتٍ. بهذه الطريقة صار هناك محتوى لموضوع السوسيولوجيا، وهو محتوى تاريخيّ. وصار لهذا الموضوع منهج يدرسه وَفْق برادايم ينهل من آخر تطوُّرات العلوم حتى ذلك الوقت، أي فيزياء نيوتن، القائمة على البحث عن قوانين الظواهر.
بعد كل هذا.. الآن يمكن أن تظهر السوسيولوجيا
إن كل ما سبق، سيعمل على بناء الإطار الإبستيمولوجيّ العام الذي ستولد السوسيولوجيا من رحمه، وهو «مذهب التجريب» (L’empirisme)، الذي ستنبثق عنه فلسفةُ علمٍ، ما كان للسوسيولوجيا أن تظهر من دونها، وهي «الوضعيَّة» (Le positivisme)، التي تُعَدّ نظرية معرفة تُحدِّد مبادئ ومصادر نوع المعرفة، الذي يمكن وصفه بأنه «عِلميٌّ»، سواء ارتبط بالسوسيولوجيا أو غيرها.
إذن، بعد أن نضجت كل شروط انبثاق عِلمٍ جديد، إذ تحدَّد الموضوع بشكلٍ كامل [تاريخيّ]، كما وتفصل المنهج [التجريب]، وتعمَّقت الرؤية المعرفيَّة [الوضعيَّة]. الآن -والآن فقط- سيحمل أوجست كونت كل هذا الإرث المعرفيّ، ويعيد الاشتغال عليه بشكلٍ فلسفيٍّ، إذ إن أهم ما تركه لنا إنما هو تفكيره المنهجيّ السَّاعي إلى نحث إطارٍ إبستيمولوجيٍّ دقيق -مفارق لمثالية هيجل- يسمح بتيسير الولادة الحتميَّة للـعِلم الجديد. هكذا، ظهرت أخيرًا «السوسيولوجيا»، في آخر مجلدٍ من “دروس في الفلسفة الوضعيَّة”(38)، كتصوُّرٍ علميٍّ دقيق، ولن تنطلق كـممارسةٍ عِلميَّة [أكاديميَّة]، إلا مع إميل دوركايم في أواخر القرن التاسع عشر بفرنسا.
عودة إلى الخلدونيَّة بوصفها فكرًا ما قبل علميٍّ
لقد احتاج ظهور السوسيولوجيا إذن، إلى ثوراتٍ سياسيَّة أنتجت الدولة الأمة الديموقراطيَّة، وتحوُّلات اجتماعيَّة أنتجت المجتمع المدنيّ، وتطوُّرات اقتصاديَّة تجلَّت في التحوُّل إلى الاقتصاد الرأسماليّ، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، احتاجت هذه النشأة إلى تطوُّراتٍ معرفيَّة، تمثَّلت في تطوُّراتٍ وقعت في علم الفلك، والفيزياء، والرياضيات، والفلسفة السياسيَّة، والفلسفة الاجتماعيَّة، وخصوصًا في فلسفة العلوم ونظرية المعرفة، التي انتقلت من المِثاليَّة (L’idéalisme) إلى العقلانيَّة (Le rationalisme)، ثم إلى التَّجريبيَّة (L’empirisme)، ثم إلى المثاليَّة المتعالية (l’idéalisme transcendantal)، ثم إلى التاريخانيَّة (L’Historicisme)، ثُمَّ ما بعد الكانطيَّة Le post-kantisme))، وصولًا إلى الوضعيَّة (Le positivisme). الشيء الذي يوضِّح بأن الطريق نحو السوسيولوجيا كان طويلًا وشاقًا. إذن،كيف نقفز عن كل هذا التاريخ المعرفيّ، ونقول ببساطةٍ لا تخلو من عدم تدقيق: إن ابن خلدون هو مؤسِّس السوسيولوجيا! بالرَّغم من أن كل هذه التطوُّرات المعرفيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لم يحصل منها أي جزءٍ في زمن ابن خلدون!
في الحقيقة، لقد أَسَّس ابن خلدون شيئًا آخرَ، لا نقول إنه ليس عِلمًا، بل هو علم. غير أنه عِلم، بالمعنى الذي سبغته القرون الوسطى الإسلاميَّة على هذا المفهوم. فالعلم بالمعنى الإسلاميّ، هو «ما قبل العِلم» بالمعنى الحداثيّ.
في الواقع المحض، لم يبتكر ابن خلدون أكثر من “قواعد منهجيَّة” توجه المؤرِّخ إلى إعمال النَّقد في المرويَّات. فـبِما أن مرويَّات التاريخ تتعلَّق بالضرورة بأحوال الاجتماع، فإن معرفة ما يلحق بهذه الأخيرة من تحوُّلاتٍ، شرط يرتقي بجودة الخبر التاريخيّ. هذا قصد وغَرض المُقدمة، التي مدارها على التاريخ كما كتب ابن خلدون نفسه في مقدمة المقدمة(39).
الغريب، أن هذا المنهج الذي أسَّسه ابن خلدون، هو نفسه أول من خانه في كتابته للتاريخ. لقد أخطأ الباحثون بقراءة المُقدمة فقط وحدها كـ برنامج عمل، دون تجاوزها إلى قراءة “تاريخ ابن خلدون”، الذي من المفترض أنه قد طبق فيه مَنهجه. الحقيقة، أن كِتاب “العِبر وديوان المبتدأ والخبر” هو مصنَّف في خيانة مَنهج المُقدمة، فقد روى فيه ابن خلدون بعضًا مما لا يسوغ وصفه بأي وجهٍ بأنه عِلميٌّ. لهذا قال فيه طه حسين، الذي كان ابن خلدون موضوعَ بحثه في الدكتوراة بجامعة السوربون: «إننا نندهش حينما نقارن كتابه في التاريخ (المُسمَّى العِبر) بالمُقدمة. فـفي كتاب التاريخ يبدو لنا ابن خلدون الرَّاوي العربيّ البسيط، الذي يقص كل الأخبار، دون أن يقف لاختبار أمرٍ أو تمحيصه. في حين إذا قرأت المقدمة، اعتقدت أنه سيُحدِث ثورة في مباحث التاريخ»(40). ويُضيف: «يمزج ابن خلدون بعض نُقولاته التاريخيَّة بسذاجةٍ تدعو إلى الضحك، فهو يُكَذِّب مثلًا أن الخليفة هارون الرشيد كان يشرب الخمر، فقط لأنه كان جم الورع ويصلي مئة ركعة في اليوم، وكان يغزو عامًا ويحج عامًا»(41). كما أنه أثبت في المقدمة حادثة تقترب من المُحال، إذ خرجت زوجة عبد الله بن الحسن على عامة الناس -بعد مدة من موته- وهي تحمل ولدًا، فادَّعت بأنه ابن الفقيد، الابن الذي سيصير: المولى إدريس الأول، مؤسِّس الدولة الإدريسيَّة في المغرب. بدل الشَكّ وإعمال العقل والتثبُّت من حقيقة هذا الخبر، الذي يُفيد فِعلةً شائعة في التاريخ الإسلاميّ، ومشهور غرضها الذي هو وراثة الحُكم والرئاسة عن طريق النسب. غضًا للطرف عن كل هذا، يؤكِّد ابن خلدون بدون أي شكلٍ من أشكال المراجعة، أن هذا الخبر صحيح، مبررًا ذلك لا بـ«بحثٍ في أحوال العمران» كما دعا إلى ذلك نظريًّا في المقدمة، بل برَّره بآيةٍ قرآنيَّة تَصف أهل البيت -الذي ينتمي إليهم المولى إدريس- بأنهم منزَّهون عن الرجس من طرف الإله نفسه(42). وهنا يتساءل المرء: أين المنهج؟ أين النقد؟ أين العقل؟ إنه في خبر كان. فجزء كبير من نقولات ابن خلدون في التاريخ، تعكس القاعدة التي تقول: «خيانة في العَمل ما سبق أن أُقِرَّ في النَّظر».
بالتالي فـالرجل لم يُقدم دِراسة عَمليَّة تُترجم ما سطَّره نظريًّا كـمَنهجٍ، كما طبَّق دوركايم مثلًا “قواعد المنهج” حرفيًّا في دراسته الشهيرة عن “الانتحار”. بقي المنهج الخلدونيّ إذن مُجرَّد كلامٍ على وَرق، إذ لم يستحدث جديدًا في كتابة التاريخ، إلا شكليًّا، كما يلاحظ طه حسين، إذ استبدل بالتأريخ السنين المتتابعة وعوضه بتأريخ حسب الأحداث، وهو أمر مسبوق إليه من طرف المسعودي، الذي يعده ابن خلدون أستاذه الأكبر(43). إذن، لا جديد في نظرية المعرفة مع ابن خلدون، ولا في كتابة التاريخ عَمليًّا بتطبيقٍ صارم لقواعد المنهج الذي احتوته المقدمة، ولا في تمحيص المرويات ووزنها بميزان العَقل وطبيعة العُمران. كل هذا يفيد بأن ابن خلدون ينتمي إلى «فكر ما قبل عِلميّ»، ينطلق من نظريةٍ دينيَّة في المعرفة، تستهل التاريخ بالأساطير [بدأ التاريخ مع آدم]، وتبرر أحداث التاريخ دينيًّا [بالآيات والأحاديث]، ما يعني أننا لم ندخل إلى حيز «العِلم» في هذه الحالة إلا على سبيل الادِّعاء. بالمقابل، لم تتأسَّس السوسيولوجيا الحديثة مع أوجست كونت، إلا بعد أن تشكلت ميادينها ومناهجها في انفصالٍ تامٍ عن اللاهوت والأديان والعقائد. ذلك أن وضع مسافة مع «العقل الدِّينيّ» هو أوَّل شروط الخَطوِ نحو «العقل العِلميّ»، كما يوضِّح لنا تاريخ العلوم.
خاتمة.. أو في الشروط غير العِلميَّة لنشوء العلوم
إن الثَّورات العلميَّة الكبرى في التاريخ، لا تظهر حينما تنضج شروطها المَعرفيَّة فقط، بل حينما يحدث تحوُّل عميق في أفق الإنسان الروحيّ [والدينيّ] بشكلٍ خاص، لذلك ليس عبثًا أن يقول أحد أعظم مؤرِّخي العلوم في العصر الحديث، وهو: أليكسندر كوايري Alexandre Koyré، إن: «الثَّورة العلميَّة للقرن السابع عشر، كانت مصدرًا ونتيجةً لتحوُّلٍ روحيٍّ عميق، الذي لم يُغيِّر محتوى تفكيرنا فقط، بل أحدث تغيُّرًا حتى على مستوى إطاره العام أيضًا»(44). وقبله، سبق لـ مارتين هايدجر كذلك أن رأى أن «مُحاورة ثياتيتوس» التي بلورت نظرية المَعرفة عند أفلاطون، تعبِّر في العمق لا عن منظورٍ إبستيمولوجيٍّ، بل عن منظورٍ «أنطولوجيٍّ». أي يحيل إلى كيف كان ينظر اليونان إلى الوجود بشكلٍ عام [وليس فقط إلى موضوع العلم بشكلٍ خاص]، وفي ذلك تصوير لأفقهم الروحيّ الشَّامل(45).
نجد عند ماكس فيبر مغزى الفكرة نفسها أيضًا. فقد وضَّح أن مسار العقلنة الذي ستعرفه الثقافة الغربيَّة، بوصفه «تَحوُّلًا عظيمًا» بتعبير كارل بولاني، سينطلق من «رفعٍ للسحر عن العالم»، كان قد أطلق شرارته أوَّل الأمر «رجال دين يهود»، ثم فيما بعد «رجال دين بروتستانت»، وذلك حينما أعادوا بناء تصوُّرهم بشأن الإله، أي بشأن الواقع بِرُمته(46). هذا ما أدى في نهاية المطاف -كأحد العوامل- إلى ابتكار العِلم الحديث، الذي أصبح هو نفسه أبرز أداة نافية للسحر وناشرة للعقلنة، في الزمن الحديث(47).
إن «مقدمات العلم إذن دائمًا ما تكون أنطولوجيَّة»، وهنا بالضبط تتحصَّن المعتقدات الدينيَّة والروحيَّة للبشريَّة، إذ بتحكُّمها في المنظور العام للوجود في ذهن المؤمنين، تستطيع إما أن تُعسِّر تطوُّر العِلم [بما أن مقدماته هي من تتحكَّم فيها غالبًا]، نظرًا لتجميدها لوعي الإنسان في إدراكٍ أسطوريٍّ للواقع، أو أن تصنع في هذا الإدراك ثَورة، تُتَرْجَم على شكل انبثاق وتطوُّر للمعارف العلميَّة. هذا التحوُّل بالذات هو ما تعرقل في العالم العَربيّ والإسلاميّ منذ زمن ابن خلدون. إذ تعسَّر على المسلمين حتى الآن إعادة ترتيب عَلاقتهم مع مصادر ذواتهم الروحيَّة [الدينيَّة]، بالشكل الذي يحملهم على النَّظر إلى العالم وَفْقًا لرؤية أنطولوجيَّة جديدة، قد تسعفهم في تكوين تصوُّرات عقلانيَّة بشأن الواقع، وهو شرط استئناف أي «عقلانيَّةٍ علميَّة» في العالم الإسلاميّ.
إحالات ومراجع:
(1) عبد الله العروي، مفهوم العقل، الدار اليضاء: المركز الثقافي العربي، 2012، ص 112.
(2) Gaston Bachelard. La Formation de l’esprit scientifique, Paris: Librairie philosophique J. VRIN, (1938) 1996.
(3) يوجد عدد كبير من الكتب التي تتبنى هذه الفكرة، المؤلفات التالية نموذج صغير عنها: السيد فريد العطاس. تطبيق ابن خلدون: إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع، ترجمة أسامة عباس، بيروت لبنان، مركز نهوض للدراسات والأبحاث، 2021. أمزيان، محمد محمد. منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991. عبد الله الشارف. محاضرات في علم الاجتماع، تطوان: مطابع تطوان، 2022.
(4) أبو يعرب المرزوقي. إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أريسطو وأفلاطون إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
(5) ذكره عبد الله العروي في : مفهوم العقل، ص 30.
(6) Ferdinand Tönnies. Communauté et société: Catégories fondamentales de la Sociologie pure, traduction de J. Leif, Paris: PUF, (1887) 2015.
(7) Emile Durkheim. De la division du travail social, Paris: Alcan, 1922.
(8) ابن خلدون عبد الرحمان بن محمد، المقدمة، القاهرة: دار التقوى، 2017، ص 33.
(9) طه حسين، فلسفة ابن خلدون الإجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله، القاهرة: مطبعة الإعتماد، 1925، ص 33-34، و63.
(10) CHEDDADI Abdesselam. Ibn Khaldûn revisité, Edition Toubkal, Casablanca, 1999, p 95-96.
(11) Medjahed Milouda. Les retraductions françaises d’Al Moqqadima d’Ibn Khaldoun : Une étude paratextuelle, Montréal: Université de Montréal, Faculté des arts et des sciences, (Mémoire), 2016, p 10.
(12) Ibidem.
(13) علي الوردي. منطق ابن خلدون، لندن: دار كوفان، 1994، ط2، ص 13.
(14) Seyyed Hossein Nasr. Knowledge and the Sacred, New York : State University of New York Press, 1989. & Seyyed Hossein Nasr. Science and civilization in Islam, New York : ABC International Group, Inc, (2011) 1987, p 21-40.
(15) علي سامي النشار. مناهج البحث عند مفكري الإسلام: اكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، بيروت: دار النهضة العربية، 1984، ص 10-12.
(16) نفسه، ص 9.
(17) علي الوردي. منطق ابن خلدون، م سابق، ص 61-85.
(18) أبو يعرب المرزوقي. إصلاح العقل في الفلسفة العربية، م سابق، ص 35.
(19) طه حسين، فلسفة ابن خلدون الإجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله، القاهرة: مطبعة الإعتماد، 1925، ص 30-49.
(20) Muhsin Mahdi. Ibn Khaldun’s Philosophy Of History: A Study in the Philosophic Foundation of the Science of Culture, Chicago: The University of Chicago Press, 1964, p 286.
(21) العروي، مفهوم العقل، م سابق، ص 221.
(22) Heidegger Martin. Nietzsche, Tome II, Traduction de P. Klowssowski, Paris: Gallimard, 1971, p 103.
(23) Blaise Pascal. Pensées, Paris: édition de Brunschvicg, [1669] 2000, fragment 347.
(24) René Descartes, Lettre au père Mersenne, Fin novembre 1633. Voir: Fabien Chareix. Le mouvement de la Terre chez Galilée et Descartes, in: Dix-septième siècle, Paris: PUF, 2009/1 (n°242), p 107.
(25) René Descartes. Méditations métaphysiques, Paris: Flammarion, (1641) 2011.
(26) العروي، مفهوم العقل، م سابق، ص 179-227.
(27) Karl Popper. La connaissance objective, Trad. J. Rosat, Paris: Flammarion, (1972) 1998, p 39-47.
(28) Alexandre Koyré. Etudes d’histoire de la pensée scientifique, Paris: Gallimard, (1966) 1973, p 198.
(29) Joanne Baker. Les Lois essentielles de la physique pour tous, Paris: Flammarion, 2021, p 23.
(30) ابن خلدون، المقدمة، م سابق، ص 40.
(31) Jean Jacques Rousseau. Du Contrat Social, Paris: Les classiques universels, Espace Art & Culture, 1762, p. 11.
(32) ابن خلدون، المقدمة، م سابق، ص 40-42.
(33) Bernard Lahire. Les structures fondamentales des sociétés humaines, Paris: La Découverte, 2023.
(34) Emmanuel Kant. Critique de la raison pure, trad. de: A. Renaut. Paris: Flammarion, (1781) 2021.
(35) Emile Durkheim. Les règles de la méthode sociologique, Paris: Flammarion, (1895) 2010, p 115.
(36) Herbert Marcuse. Raison et Révolution: Hegel et la naissance de la Théorie Sociale, Paris: Éditions de Minuit, 1969.
(37) Friedrich Hegel. Science de la logique, 3 Tomes, Traduction de: Bernard Bourgeois, Paris: Vrin, (1813-1832) 2018.
(38) Auguste Comte. Cours de philosophie positive: Le complément de la philosophie sociale et les conclusions générales, Tome 6, Paris: HardPress, (1842) 2018.
(39) ) ابن خلدون، المقدمة، م سابق، ص 3.
(40) طه حسين، فلسفة ابن خلدون الإجتماعية، م سابق، ص 35.
(41) نفسه، ص 48.
(42) ابن خلدون، المقدمة، م سابق، ص 24.
(43) ) طه حسين، فلسفة ابن خلدون الإجتماعية، م سابق، ص 35.
(44) Alexandre Koyré. Etudes d’histoire de la pensée scientifique, op.cit, p. 13.
(45) Martin Heidegger. De l’essence de la Vérité : Approche de l’allégorie de la caverne et du Théétète de Platon. Trad. De Alain Boutot, établie par Hermann Morchen. Paris: Gallimard, 2001, p 279.
(46) Max Weber. Sociologie des religions, Traduction de Jean Pierre Grossein. Paris: Gallimard, 1996, p. 482-486.
(47) Max Weber. Le savant et le politique, traduit par Julien Freund, Paris: Librairie Plon, 1959, p. 89-90.