العلاج النفسي الوجودي: مقدمة موجزة

 

“يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميّت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجْزِيٌّ به، واعلم أنّ شرفَ المؤمن قيامُهُ بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس”(حديث نبوي).

لا شكّ أن الوجودية كفلسفةٍ تُعدّ فريدة ومتباينة حدّ التناقض؛ ذلك أنها تؤكد بحق على التنوُّع أكثر من التماثل، وعلى المعضلات أكثر من الإجابات، وعلى الحقائق الذاتية أكثر من النظريات الشاملة. وبينما يؤكّد بعضُهُم على الفردية لأقصى حدّ، مثل “كيركجارد” و”نيتشه“، يؤكد آخرون على حاجتنا للعلاقات، مثل “مارسيل” و”ياسبرز”، وبينما يعتبر بعضهم الوجود بلا معنى، مثل “كامو” و”سارتر“، يفترض بعضُهُم معنى متجاوزًا لحيواتنا، مثل فيكتور فرانكل، وفي حين أن بعضَهم متديّنون بشدّة، مثل “كيركجارد” و”مارسيل”، فإنّ بعضهم ملحدون أيضًا، مثل “نيتشه” و”سارتر” و”كامو”.

إلا أن للوجودية فكرة جامعة تشملهم بمقولتها: “الوجود يسبق الماهية”؛ فليس الإنسان الفرد نسخة لمثال كُلّي أو نموذج قبلي، فهو الطبيعة الإنسانية، وليس التمثال القابع هناك فى أروقة المتاحف، بعد أن كان مجرد فكرة في خيال صاحبه، لا، بل هو الإنسان الموجود الفرد الحر المسؤول، الذي يخلق ماهيته، وينحت هويته بنفسه فى كل لحظةٍ من حياته، ويظل يتحقق على الدوام حتى موته.

ولنضرب مثالًا آخرًا يتّضح به فهمنا للوجودية أكثر، هب أننا افترضنا أن بإمكاني أن أعدِّد كلَّ خصائصك الماهويّة، ومستوى سعادتك وذكائك، وتركيز نواقلك الكيميائية في مخك… إلى آخره، هل عندها سأظل إلّا عاجزًا عن وصفك كما أنت فى الحقيقة؛ ذلك أن شخصك الفعلي العياني الذي أنت عليه في فرديتك أكثر من هذه الخصائص مُجتمِعةً، فضلًا عمّا فيها من انتقاصٍ لكامل إنسانيتك، وتحويلك للاشيء سوى جهاز كمبيوتر أو روبوت عالي التقنية، ومن ثم فإن غاية الفلسفة الوجوديّة هي الإنسان الفرد نفسه، القائم بذاته، والذي لا يمكن اختزاله أبدًا.

انتهج هيدچر المنهج الفيمينولوجي، وأسَّس لفلسفةٍ في الأنطولوجيا تقوم على نفي الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع، تلك الثنائية التي استهلها أفلاطون ورسّخها ديكارت، فبقيت صدعًا في الفكر الغربي، وعائقًا عطَّلَ علم النفس لقرونٍ عدة، فكانت رؤية الإنسان للعالم حوله فى فلسفته -أي هيدجر- ليست إلا أفكارًا بعدية لاحقة بعد حضوره المباشر في هذا العالم، فوجودنا الإنساني ليس راقدًا في العالم رقود الحصي على الشاطئ، ولا كالسمكة في البحر، بل هو المعطي الأول في سياق فهمنا للعالم، أي مخلوطًا به. ولا نعني هنا عالمنا الفيزيائي فحسب، بل الوجود ككل، مجتمعنا، وبيئتنا، ورؤيتنا الكلية للوجود، لذا فليس الإنسان على حقيقته إلّا ممكنات أنّه القادر على أن يعي ذاته بما يمكن أن تكونه، لا بما هي عليه وحسب.

إنّ هذا البعد الوجودي في طبيعتنا هو ما يسميه هيدجر بـ”التجاوز” transcendence، أو كما يعلنه نيتشه على لسان نبيه زرادشت: “ولقد أسرت إلى الحياة نفسها قائلةً: انظر، أنت ذلك الشيء الذي لا بد أن يتخطى ذاته كل حين”.

إعلان

ومن ثم فأن يخلق الإنسان عالمه يعني ما يصوغه ويشكّله ويركّبه من خبراته كما تتمثل له على صفحة وعيه، لذا فهناك من الأزمنة والأمكنة بقدر ما هناك من ذوات، فحتى الماضي كما تستعيده الذاكرة، لا يمكن أن يُستحضَر في صورةٍ كليّة تامّة تُمثّل ما كانه هذا الشخص حقًا وصدقًا؛ ذلك أن الذاكرة نفسها تتّكئ في عملها على الموقف الحاضر وعلى توجهنا واستشرافنا للمستقبل، ومسؤولية الإنسان هنا تقع عليه ناحية ماضيه، كما تقع على كلّ جيلٍ من الأجيال مهمةُ قراءة ماضي أمّته، وإعادة صياغة مستقبله. ومن هنا، فليست مشكلة هذا الإنسان أنه عانى ماضيًا مُمرِضًا كما تقول بعض المدارس النفسية، بقدر ما أن عليه الآن أن يواجه مشكلةً حقيقية أولى من ماضيه وقابلة للحل تحت مسؤليته، وهي أن ينذرَ نفسَه لحاضره ومستقبله.

تهيب المدرسةُ الوجودية بالمعالج النفسي أن يرى مريضه على ما هو عليه فعلًا، لا أن يُسقِطَ عليه ما حفظه من نظرياتٍ وقوالب، كإنسان فرويد المحكوم بالدوافع والغرائز، أو إنسان السلوكية الآلي، لذلك فإنّه ليس للعلاج الوجودي مدخلًا تقنيًا محددًا يقدِّم مجموعةً من القواعد العلاجية، ولكنّه منهجٌ يحث المعالج على أن يشرع في برنامج استكشاف ذاتي، يهدف به إلى تفهيم هذا الإنسان طبيعة الصراع الشعوري واللاشعوري الذي يعانيه، ويكشف له عدم جدوى ميكانيزمات الدفاع النفسية التي قد ينتجها بلا وعي، على أمل أن يتمكّن هذا المعالج من إيقاظ وعيه الذاتي بوجوده ومسؤولياته.

وفق الإطار المرجعي الوجودي، فإن ما يمثّل صراعاتنا الداخلية لا يخرج عن تلك الأربعة هموم النهائية Ultimate Concerns، وما تنتجه من مخاوف ودوافع شعورية ولاشعورية، تشبه إلى حدٍّ ما البنية الدينامية عند فرويد، لولا أنّها تختلف عنها فى منشئِها.
الفرويدية: الدافع> قلق> ميكانيزم دفاع.
الوجودية: الوعي بالهموم النهائية> قلق> ميكانيزم دفاع.
وتلك الهموم النهائية كما يحدّدها “إرفين يالوم” المعالج الوجودي الأمريكي، هي: الموت والحرية والعزلة واللامعنى.

الموت

ما أصعب هذا الصراع المكبوت داخلنا، بين وعينا بالموت من جهةٍ، ورغبتنا بالبقاء من جهةٍ أخرى. وبالتّعامي والإنكار يتخذ الإنسان ميكانيزمات دفاع نفسيّة، على أمل تفادي هذا القلق، إلا أن بعضهم قد يبالغ في دفاعاته تلك، كما نرى فى عددٍ من المتلازمات النفسية -كالنرجسية وإدمان العمل القهري والبحث عن المجد- وقد يُصاب الإنسان بوهنٍ في دفاعاته تلك، مثلما نرى مع حالات المرض الشديد أو عند تعثُّرٍ ما كان يراه تقدُّمًا أبديًّا. إلا أن بعض الناس قد يضعهم قلق الموت في مواجهةٍ مباشرةٍ معه، وهذا ما تسعى إليه العلاجات الوجودية بلا مواربة، فليست غاية المعالج الوجودي استئصال قلق الموت تمامًا؛ فلا يمكن للحياة أن تُعاش ولا الموت أن يُواجَه بلا قلق، فقط مهمة المعالج الوجودي هي أن يخفِّضَه لمستواه المُحتَمَل.

وقد سجَّل “يالوم” عددًا من التغيُّرات الشخصية الكبيرة التي تحدث لحالات مرضى السرطان ممّن يواجهون موتهم، حيث كان بعضهم يصرخ بأنّه تعلَّمَ ببساطةٍ أن الوجود لا يمكن أن يسوف وأن المرء لا يمكنه أن يعيش بحقّ إلّا في الحاضر، فتلك التجارب هي ما جعلت عددًا من قادة العلاج الجماعي يدعون أعضاء جماعتهم لتجربةٍ اجتماعيةٍ مُختَصَرة، تتضَمَّن كتابة نقش ضريحهم الخاص أو نعيهم، واكتفى معالجون آخرون بدعوة مرضاهم لمعاينة مظاهر الفناء والموت في حياتهم اليومية.

الحرية

يحمل التصور الوجودي للحرية متضمناتٍ مرعبة، فإذا صحّ -كما يقول بعضهم كهيدجر وسارتر- أنّنا محكومٌ علينا بالحرية، وأننا نخلق ذواتنا وعالمنا الخاص، فليست هناك إذًا أرض تحتنا، بل مجرّد هاوية وفراغ وعدم. من هنا ينشأ صراعنا الدينامي الداخلي بين وعينا بالحرية والمسؤولية من جهةٍ، وبين حاجتنا العميقة لتناغم الأحداث والمصائر واللا عشوائية من جهةٍ أخرى.

المسؤولية باهظة ثقيلة محاطة بالكرب والقلق “القلق دوار الحرية”، وفي سبيل التنصُّل منها ينتَهِج الإنسان ما يُسمّيه سارتر بسوء النية Mauvaise foi، ويفنده بقوله: “إن الإنسان إذ يتمتع بوعيه الذاتي فإنّ بإمكانه أن يَعِي حتّى أسباب فعله ومحددات سلوكه، وقادر على أن يقف على دوافعه ويتملّك زمامها، ذلك أنّه محكومٌ عليه أن يوجد خارج ماهيته”.

وفي سبيل هذا التنصل، يُنشئ الإنسانُ حيلًا نفسيّة، فالبعضُ مثلًا يضع مسؤولية مرضه على غيره من الناس، أو ينسبها لجيناته، أو لِحَظّه العاثر، والبعض يُحمِّل المعالج مسؤولية شفاءه، أو يَدّعي أنه لا يعرف ما يجب عليه فعله لكسر رهابه الاجتماعيّ مثلًا، وهناك صنف يعجز عن اتّخاذ القرار؛ لأن القرارات الكبرى تكشف له إلى أي درجةٍ يقوم بتشييد عالمه الخاص.

وللمعالجين فنّياتٌ متعددة في وضع أيدي مرضاهم على شواهد تنصلهم، ذلك أن مهمة المعالج ليست خلق القرار، بل تخليصه، فهو لا يصنع للمريض قراره نيابةً عنه أبدًا؛ لأنّه ما من أحدٍ وُلِدَ بعجزٍ خلقيّ على أن يقرّر.

العزلة

في بداية وعينا بأنفسنا يخلق كل منّا ذاتًا أولية متمايزة عن بقية العالم، فيدخل كلٌّ منا الوجود وحيدًا ويرحل عنه وحيدًا، من هنا ينشأ صراعُنا بين وعينا بعزلتنا، ورغبتنا في الانصهار، وأن نكون جزءًا من كلٍّ أكبر. وفي سبيل الهروب من تلك العزلة، قد يجد الإنسان نفسه راغبًا في الانتماء إمّا لقضيةٍ أو جماعةٍ يماثلهم في عاداتهم ومشاعرهم ومنطقهم، أو قد يقرِّر الشروع فى علاقةِ حبٍّ زائفة مع شريكٍ أو صديق كدرعٍ يحميه من العزلة، أمّا الحبّ الصادق كما يقدمه العلاج الوجودي فنفهمه من خلال نظرهم للعالم على أن له ثلاثة أشكال، العالم الأول “Umwelt”؛ وهو العالم المحيط، عالم الحتمية البيولوجية، والثاني “Mitwelt”؛ وهو العالم-مع أو العالم البينشخصي، عالم العلاقات والتعاملات، والثالث “Eigenwelt”؛ ويعني الشخص مع ذاته، فبعيدًا عن الغرائزيّة عند فرويد التي تفسر الحب داخل العالم الأول البيولوجي، أو الحب عند إريك فروم الذي يفسّره على أنّه هروبٌ من الاغتراب، يرى المعالج الوجودي أنّه لا يمكن تفسير الحب الصادق بمعزِلٍ عن العالم الشخصي “Eigenwelt” كشرطٍ لتحقُّقه، كما يؤكِّد كيركجارد: “أنّ الحب يفترض مسبقًا أنّ الفرد قد أصبح فردًا حقيقيًا قائمًا بنفسه مؤتنسًا بها قبل أن يشرع في حبٍ مع ذات أخرى”، ذلك أن الحب لن يكون إلا بين ذواتٍ حقيقيّة تعيش وجودًا أصيلًا، لا مجرد كتل هلاميّة بلا هوية، تلتئم وتتواصل دفعًا للسأم، وهروبًا من الحرية، وخوفًا من العزلة، وتعاميًا عن حقيقة الوجود، عندها لن تكون العلاقة إلّا مجرد إخفاقات أو تشويهًا لما ينبغي أن يكون عليه الحب الحقيقي.

ومن ناحيةٍ أخرى، تشير الدراساتُ النفسيّة أن المراهقين الذين ينشَؤون في أسرٍ تعهّدتهم بالحب والمساندة أقدر على تحمل الانفصال والعزلة في مقتبل شبابهم عن أولئك الذين ينشؤون في أسرٍ مفككةٍ؛ ذلك أن تلك الأسر لم تُحسِن تجهيزهم لتلك العزلة، وبلا وعيٍ منهم يتشبّثون بها هربًا وخوفًا من ألم العزلة والقلق الذي يعانوه، ولعل فيما ينصح به المعالج الوجودي مرضاه في مرحلةٍ ما من العلاج بأن يُلزموا أنفسَهم بفتراتٍ من العزلة يفرضونها على أنفسهم يرصدون فيها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها -مُعِين يُحيي فيهم اسئناسهم بأنفسِهم ويَلفت أنظارهم لأصالةِ وجودهم.

اللامعنى

يرى “فيكتور فرانكل” مؤسّس مدرسة العلاج بالمعنى Logotherapy أنّ سَعي الإنسان للبحث عن معنى في حياته هو قوة دافعة أوليّة وليس تبريرًا ثانويًا لحوافزه الغريزيّة، فهو ليس أمرًا نخلقه ونخترعه كما يقول سارتر، بل هو أمر نكتشفه في أنفسنا. وفي دراسةٍ مسحية قام بها تلامذته وجدوا أن 55% من الأشخاص محل الدراسة يعانون ممّا سمّاه بالفراغ الوجودي Existential vacuum، وآية هذا الفراغ الوجودي هو الملل، حيث يكشف عن نفسه بعيدًا عن المُلهِيَات والمشاغل، ومن تمثُّلاته حالة تعرف بعصاب يوم الأحد Sunday neurosis (في عالمنا العربي قد نسميها بعصاب يوم الجمعة) حيث في نهاية الأسبوع يصير الأفراد واعين بما ينقص حياته من مضمونٍ حينما ينحسر اندفاع الأسبوع المزدحم بالمشاغل ويصبح الفراغ بداخل نفوسهم جليًا.

يذكر إرڤين يالوم مؤسّس مدرسة العلاج النفسي بالوجودية في الولايات المتحدة الأمريكيّة أن علاجَه قلّما كان يفيد ما لم يتمكّن من إقناع مرضاه أن يركزوا حياتهم على شيءٍ يتجاوز أهدافهم المادية، كسؤالهم عن اعتقاداتهم، أو أهدافهم البعيدة، أو مساعيهم الإبداعية، مثلما قالها فرانكل من قبل “السعادة تأتي ولا يؤتَى بها”، بمعنى أنّنا كلّما التمسنا الإشباع الذاتيّ عن عمدٍ وقصد، راودنا وأفلت مِنّا، ولكننا لو عمدنا لمعنى يتجاوز ذاتنا كما يقول، واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر.

ولعلّ من أقوى الانتقادات التي واجهت مدرسة فرانكل هي افتراضه أن الوجود الإنساني في جوهره له معنى، ويرى هؤلاء أن نظرة فرانكل هذه نابعة عن خلفيته الدينية، فقد كان أبواه يهوديَيْن وَرِعَيْن، وربما لتاريخه الشخصي المأساويّ دور في ذلك، فقد كان فرانكل معتقلًا في إحدى معسكرات النازية، وهناك قضى أغلب أهله نحبهم. ورغم أن كتابات فرانكل المبكِّرة قبل اعتقاله تُظهِر نظريته تلك أيضًا، إلا أنّها وبلا شك قد أصقلتها تلك التجربة، حتّى صارت على صورتها الحالية التي تنتشر عياداتها في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا وغيرهما.


ملاحظة:

اعتمدتُ فى كتابة هذا المقال على كتابين، هما: “مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي” ترجمة عادل مصطفى، وتأليف رولو ماي وأرفين يالوم، دار رؤيا، وكتاب “العلاجات النفسية الوجودية” ترجمة طه ربيع عدوي ورانيا شعبان الصايم، وتأليف ميك كوبر، مكتبة الأنجلو المصرية، وهما -على حدِّ علمي- الوحيدان في المكتبة العربية اللذان يتناولان موضوع هذا المقال على وجه الخصوص).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أسعد حمدان

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا