الصورة النَّمَطِيَّة عن الجن في مسلسل نتفليكس الأردني (Jinn): مقاربة إسلامية

تمهيد

خرجتْ علينا شركة نتفليكس بمسلسلٍ أردنيٍّ جديدٍ عام 2019، يتناولُ الجن تناوُلًا عربيًّا إنْ صحَّ التعبير، وبغضِّ النَّظَر عن الاستقبال النقديِّ للمسلسل وجودته الفنِّيَّة؛ فإنني في هذا المقال سأحاول مقاربةَ المسلسل مقاربةً ثقافيَّة مُتَوسِّلًا المُتَخيَّلَ الإسلاميَّ منه قدر الإمكان، ومن جهة أنه يتناول الجنَّ تناوُلًا شعبويًّا في صورته الأكثر نمطيَّةً وتداوُلًا، رغم محاولة صُنَّاعِه -كما أرى- أنْ يظهرَ العملُ مُفَرَّغًا من الثقافة. نشعر بهذا التفريغ الثقافي في الحضور الباهت للثقافة العربية والإسلامية في معظمه مع أنه يدور في سياق عربي ويخلو من قانونه الخاصِّ كما سيأتي في نهاية المقال.

يمكن تلخيص صورة الجن في هذا العمل تلخيصًا يُقاربُ ما جاءَ في النصوص الإسلامية أنَّه “عالَم آخرُ غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتِّصافِ بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويخالفون الإنسان في أمور أهمهما أنَّ أصل الجانِّ مُخَالِف لأصل الإنسان”[1].

إننا ونحن نحاول أن نقارب هذه المقاربة لا بد أن نضع في أذهاننا المكانَ الذي يحتله الجنُّ من النصوصِ الإسلامية المقدَّسة؛ ففي القرآن مثلا “سورة تُسَمَّى الجن أنبأتْ بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن؛ فَلَانَتْ قلوبهم وآمنوا بالله وبرسوله، وعادوا؛ فأنذروا قومهم ودعوهم إلى الدين الجديد.

وهذه السورة تُنبئ أيضًا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع، ثم يهبطون وقد ألمُّوا إلمامًا يختلف قوةً وضعفًا بأسرار الغيب؛ فلما قاربَ زمنُ النبوة حِيلَ بينهم وبين استراق السمع؛ فَرُجِمُوا بهذه الشُّهُبِ وانقطعتْ أخبارُ السماءِ عن الأرضِ حينًا”[2].

الحبْكَة

إعلان

وقبل شروعي في الحديث عن صورة الجنِّ النمطية التي رأيناها على شاشة نتفليكس، عليَّ أن أسردَ الحبكة الدرامية لهذا العمل التلفزيوني سريعًا ودون الدخول في تفاصيله.

يحكي المسلسلُ عن مجموعة من المراهقين في رحلة إلى مدينة البتراء القديمة بالأردنّ، وهناك يتمُّ استدعاء جِنِّيَّيْنِ عن طريق اثنين من هؤلاء المراهقين دون قصد منهما.

ولحسنِ الحظِّ كان أحدُ هذين من الجنِّ الطيب (كيراس) الذي لا يريد إيذاء أحدٍ من البشر، بل يسعى سعيًا حثيثًا في المساعدة، أما الجن الثاني (فيرا)؛ فجاء في صورة فتاةٍ حاقدةٍ تتوق إلى الإيذاء والتَّوَحُّد في جسد إنسانيٍّ ما؛ لتحقيق غاياتِها الشريرة.

وفي ظلِّ هذا الظهورِ الجِنِّيِّ تدور الأحداثُ بين هذه المجموعة المراهقة، وتخضع أحاسيسُهم وصداقتهم تحت مطرقة الاختبار، ويحاول كيراسُ مساعدة البشرِ في إعادة فيرا مرة أخرى إلى عالَمِ الجن للحدِّ من استمرارها في إيذاء النَّاس والحُكمِ عليهم.

والآن، فلنحاول قراءة (Jinn) قراءة تتوسَّلِ الثقافة الإسلامية قدرَ الإمكان، وتحاول أن تضع يدها على الخيوط العريضة للصورة التي جاء الجن عليها في هذا العمل الفني.

الجن موجود؟!

يبدأُ المسلسل بكليشيه مُتَكَرِّر في مثل هذه الأعمالِ الَّتي تُناقش أفكارًا تتعلق بعالم الغيب؛ أنْ تنكر بعض الشخصياتِ الموضوعاتِ الغيبية مع نوع من الاستخاف والسخرية منها، وأن يوجدَ مَن يؤمن بها؛ ليدور بين طرَفَيِ النقيضِ نقاشٌ ينتهي لا شكَّ بإذعانِ المُنْكِرِ إذعانًا تامًّا عندما يرى الشيء الغيبيَّ ملموسًا ومحسوسًا.

عقلُ المُنْكِرِ في هذا السياق يتمُّ عرضُه غالبًا بنوع ساخِرٍ، بل وفي أحايين كثيرة يبدو غبيًّا جدًّا إذا ما رأى ما أنكره شاخصًا أمامه، وهذا ما نراه واضحًا جدًّا عندما تَجَلَّى كيراسُ؛ الجنيُّ الطيب لميرا في المرة الأولى.

أما هذا المؤمن رغم سخريةِ الغالبيةِ منه؛ فإنه يبدو ذكيًّا ذكاءً استثنائيًّا، ويبدو عليه الحماسُ لإيمانِه، رغمَ كونه غريبًا وسطَ المجموع. وأقرب مثال لهذا الشخصيَّة في مسلسلنا هو حَسَن الذي يظهر منذ اللحظة الأولى مُتَحَمِّسًا لوجودِ الجن.

يسأل حسنُ هذا البدويَّ الذي كان يشرَحُ التاريخَ الإنسانيَّ لمدينة البتراء القديمة، مُتَجاوِزًا الإنسانَ القديمَ الذي يلمسُ آثارَه ويراها حوله ويقول: “وأين ذهبَ الجن؟!”؛ فيُجيبُه البدويُّ: “الجنُّ لا يزالُ موجودًا، يعيشون مثلنا، ولكن، هم يروننا ولا نراهم”. يأمرُ البدويُّ حسنًا بعد ذلكَ أنْ يضعَ أذنَه على الصخر إنْ أرادَ تَسَمُّعَ الجنَّ؛ فتمتلكه رعدة لذلك ولا يفعل، في حين تُقْدِمُ ميرا على هذا الأمر ضاحكةً بنوع من الاستهزاء.

إنَّ الجنَّ في المُتَخيَّل الإسلاميّ “خَلْق خلقه الله تعالى كما خلق الإنسان، وكلاهما يعيشان في الأرض بإذنه”[3]، “ولقد ثبت وجودُهم بالدليل القطعيِّ الذي لا احتمالَ فيه”[4]، ومِن “أُسُسِ العقيدة الإسلامية الإيمان بالغيب”[5]، ” والجِنُّ من الغيبِ الذي يجبُ أنْ نؤمنَ به حيثُ تَضَافَرَتِ الأدلَّةُ على وجودِه قرآنًا وسُنَّةً”[6]، ومن ذلك ما جاء في القرآن مثلًا أنَّ الجن يستمعونَ إلى القرآن، وأنهم مخاطبونَ برسالات الرسل والأنبياء، وما جاء في السنة من النهي عن الاستنجاء بالعَظْمِ؛ لأنه طعام إخواننا من الجن[7]!

أقدمُ من الإنسِ خَلْقًا

يذهبُ كيراسُ (الجِنِّيُّ الطَّيِّبُ) إلى المدرسةِ؛ لمساعدة ميرا في إيجاد مُسْتَدْعِي الجِنَّيَّةِ الشريرة، ومن ثم إيقافها عن إيذاء البشرِ، ومنعهِا من الاتِّحادِ بياسين؛ هذا الولدُ الذي يُعانِي من مشكلاتٍ كثيرة في حياته وعلى أتمِّ استعدادٍ لخسران روحه من أجل الانتقام ممن يؤذونه.

يحضرُ كيراسُ درسَ الأحياء، ويسمعُ المدرسَ يشرح نظريَّة التَّطوُّر لداروين التي تقول أنَّ الإنسان تطوَّرَ عن أصلٍ مُشْتَرَكٍ. يسأل حسن الأستاذ عن تَطَوُّرِ الجنِّ، وهنا يُجِيبه كيراس مُتَطَوِّعًا أنَّ الجن لم يَتَطَوَّرْ؛ لأنهم خُلْقُوا قبل كلِّ شيء؛ فالجن من وجهة نظر الجنيِّ الطيِّبِ خَلْق قديم جدًا لا فصيلة له درجةَ استحالةِ أنْ يتَطَوَّرَ عن أصل مشترك مثل سنة الله في باقي الكائنات.

هذه الفكرة توافق تأويل بعضهم لما جاء في القرآن: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾؛ إذ يقول: “وتقديم الجن؛ لأنهم أعرفُ من الإنس، وأكثر عددًا، وأقدم خلقًا”[8]. إنَّ إبليس الذي كان من الجن قد جاء ذكرُه في القرآن، وجاء رفضُه أنْ يسجدَ لآدمَ أولِ إنسانٍ مخلوق؛ “مما يؤيِّدُ أنَّ الجنَّ خَلْق خلقهم الله قبلَ الإنس”[9].

صالحون ودون ذلك

فيرا جنِّيَّة يملؤها الحقد، وتتوق للإيذاء، ولا تجدُ ضَيْرًا أن تَتَلبَّسَ جسد ياسين حتى تبقى في عالمنا، وتُحَقِّقَ مآربَها الإبليسيَّة في الأرض كما يحلو لها.

تحكي فيرا عن نفسها أنها كانتْ تعيش في عالَم ظالم لا تجد لها مكانًا فيه، الكلُّ يظلم الكلَّ، ولا قانون يحكمه إلا القوة. ذلك هو المنطق الوحيد الذي يسير فيه عالَم فيرا مما أنشأ الحقد والأذى في نفسها إنشاءً. قررت فيرا أنْ تقف أمام سطوة هذا العالم لتُحبَسَ نهايةً، وتظل في الحبس مقهورةً حتى يستدعيها ياسينُ؛ فتخرج منه.

إنَّ فيرا في نقاشِها مع كيراس، أخبرها أنَّها لا تملك الحقَّ في الحكمِ على الناس ومعاقبَتِهم، وهنا نجد فيرا تُسَوِّغُ أفعالها الشريرة بأنها جاءت لتُقيم العدلَ في الأرض، وتحاسب الظالمين، ولكن، أين محاسبة الظالمين من أنها أجبرتْ ناصِرًا على ذبح نفسه، وكادت تخنقُ المدرسةَ عُلا خنقًا، وهما لم يرتكبا جُرْمًا يستحق الموت؟!

الجن

في مقابل فيرا نجد كيراس جنِّيًّا طيبًا كما بدا في الموسم الأول من المسلسل، يحاول أن يساعد هذه المجموعة المراهقة منذ اللحظة الأولى، منذ قُتِلَ طارق على يدي فيرا، وألقتْ به من فوق الجبل.

لم يتوقف كيراسُ عند هذا الحدِّ، بل حاول التَّصَدِّيَ لفيرا بنفسه؛ فيظهر لميرا الفتاة التي كانت تنكر وجود الجن، ولا تقتنع إلا برؤيته أمامها. وتدور الأحداثُ بعد ذلك في مساعدتِه إياها في البحث عن مستدعي الجنية الشريرة؛ للتخلص منها، وإيقافها عن إيذاء المزيد من البشر، ولا يبالي في ذلك أن يخسر نفسَه.

إنَّ الجن في المُتَخيَّلِ الإسلامي أمة كبيرة من الأمم منهم الصالح وغيره. جاء في القرآن على لسان الجنِّ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾، ومعنى قوله ﴿ومنا دون ذلك﴾ أي دون الصالحين، ومعنى قوله: ﴿كنا طرائق قددًا﴾ أي جماعات متفرقين وأصنافًا مختلفة. وجاء على لسانهم أيضًا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾[10]. وهذا يدل على أنَّ الجن يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا من جهة الصلاح والفساد.

واعتماد ميرا على كيراسَ في إعادة فيرا إلى عالم الجن نوع من الاستعاذة بالجن، وهو غير جائز إسلاميًّا؛ “فلا يجوز الاستعاذة بالجنِّ؛ فقد ذمَّ اللهُ الكافرينَ على ذلك؛ فقال: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾. قالوا: كانَ الإنسيُّ إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيمِ هذا الوادي من سفهائه؛ فيبيت في أمن وجوار حتى يصيح، ﴿ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾؛ يعني الإنس للجن باستعاذتهم بهم، ورهقًا؛ أي إثمًا وطغيانًا وجراءةً وشرًا، وذلك أنهم قالوا: قدْ سُدْنَا الجنَّ والإنسَ! فالجنُّ تَعَاظم في أنفسها وتزداد كفرًا إذا عاملتْها الإنسُ بهذه المعاملة”[11].

هل يتَلَبَّسُ الجِنِّيُّ بالإنسانِ؟!

أوضحَ لَنا كيراس قانونَ التَّلَبُّسِ هذا؛ أنَّ المُسْتَدْعَى من الجنِّ قد يختارُ التَّوَحُّدَ في مُسْتَدْعِيه الإنسيِّ من أجل الوجود في عالَم الإنسان دائمًا، وقد لا يختارُ ذلك. إنَّ التلبُّسَ إذًا ليس مفروضًا عليهم فعلُه خاصة وأنه يؤذي المُسْتدْعِي إيذاءً شديدًا؛ إذ يفقد روحه إلى الأبد إنْ رضي بذلك.

وهذا هو السبب الذي جعل كيراس وميرا يسعيان في إقناعِ ياسين بعدمِ السماح لفيرا دخولَ جسده مهما كلَّف الأمر. إنَّ تلبُّسَ الجنيِّ للإنسانِ حسب القانون الذي وضعه العملُ لا يكون إلا بإذنٍ مباشرٍ من الإنسيِّ، وهذا ما جعل فيرا تتوسَّل كلَّ الحِيَل المُمْكِنَة من أجل إقناع ياسين بهذا الأمر إلى أنْ تلبَّسَتْ به تمامًا.

إنَّ الآية التي اعتُمِدَتْ أصلًا في إثباتِ مسألة تَلَبُّسِ الجِنِّيِّ بالإنسيِّ ما جاء في القرآن ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾؛ إذْ فسَّرَها جمهرةٌ من المُفَسِّرينَ على ظاهرها وفق ما تقتضيه معاني اللغة وأدوات البيان، ومن ذلك ما قاله القرطبي: “في هذه الآية دليل على فساد إنكارِ من أنكر الصَّرَعَ من جهة الجنِّيِّ، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأنَّ الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مسّ”[12].

ومسُّ الجنيُّ الإنسيَّ له حالات ودرجات، وأقصى هذه الحالات وأشدها خطرًا وضررًا اتصال الجني به وتلبُّسه به تلبُّسًا تامًّا، وهذه الحالة تنطبق تمامًا على آيةِ الرِّبا سابقة الذكر، وقوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، وقوله: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾، ولا تكون المشاركةُ في الأمور المادية إلا مادية[13].

قدرةُ الأذى

لا يتلبسُ الجنيُّ بالإنسان فقط، ولكنه قد يسعى في إيذائه بطرق شتى؛ لأنه سريعُ الحركة ويقدر على كثير من الأعمال التي يعجز عنها الإنسان، ومن ذلك ما كان يفعله كيراسُ من سَلْبِ ميرا حركتها أو إغلاقِه الباب من بعيد، وما كانت تفعله فيرا كذلك في باب الإيذاء بقدرةٍ تفوق القدرةَ الإنسانيَّة كإجبارها ناصرًا أن يذبح نفسه بالسكين دون إرادة منه أو قصد مباشر.

إن الجنيَّ قد “يحلو له العبثَ بالإنسانِ غير القادرِ على كبح جماح نفسِه. وقد يصلُ هذا العبثُ إلى نوع من السخرية، أو إلى نوع من أنواع الانتقام؛ فيؤذونه إيذاءً شديدًا، ويمسونه؛ فيُصَابُ بعِلَّةٍ تمنع أعضاءَه عن القيامِ بحركتها، ويصير ملموسًا أو مصروعًا”[14].

استدعاء

رأينا حسنًا يذهب إلى مدينة البتراء باحثًا عن الجنِّ من أجل إنقاذ أصدقائه، وحتى يصبح مشهورًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحقق صفحتُه مشاهداتٍ وزائرين كُثُر في حالة استطاع إثباتِ وجودِ الجنِّ عن طريق استدعائه.

كانتِ الطريقةُ التي حاولَ بها حسنٌ استدعاءَ الجنِّ هي إثارة الدَّخَنِ وقول الرُّقَى؛ فأشعل الحطبَ نارًا، وجعل يُلقي عليه بعضَ الرمال، ويقولُ رقيةً غريبة مُفَرَّغَةً تمامًا من الثقافة العربية؛ إذ كان يقول: “باسم الجنِّيِّ فَلْتَخْرُجْ”! لعلَّ حسنًا قد تعلَّمَ هذه الطريقة من الكُتُبِ الدينيَّة التي استعارها من مكتبة المدرسة، ويعد مشهد المكتبة هذا من المشاهدِ القليلة التي توسَّلتْ الثقافة الإسلامية بشكل صريح؛ إذ يظهر تفسير الجلالين واضحًا في يديه مع بعض الكتب الدينية الأخرى.

ظهر الجنُّ في المسلسل سهلَ الاستدعاء، مرة عن طريق الدَّخن والرقى كما فعل حسن، ومرة عن طريق مناداتِه كما فعل ياسين وميرا، أو من خلال تَتَبُّعه كما فعلت ميرا أيضًا؛ إذ كان صوتُ الطَّنين والهمس دليلًا على وجود جنيٍّ بالقرب في قانون العمل، ومرة عن طريق استفزازه كما فعلتْ ليلى عندما أنكرتْ وجود الجن؛ ليظهر لها كيراسُ نهايةً لإقناعها بوجوده.

“إنَّ أصحابَ الصَّنْعَةِ، وأربابَ التجربة شاهدوا أنَّ الاتِّصَالَ بهذه الأرواح الأرضيَّة يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدَّخَن”[15].

وَسْوَسَة

إنَّ الوسوسة هي إصدار صوتٍ ناعمٍ، وهي الصوت الخفيِّ من ريح، وهي حديث النفس، والوَسْوَاس هو الشيطان؛ جاء في القرآن: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾؛ أراد ذي الوَسواس الذي يوسوس في صدور الناس[16].

ظهرتِ الوسوسة في (Jinn) على أشكال متعدِّدة أخفاها صوتُ الطَّنين، وحفيف الأشجار والرمال، وأظهرها الوسوسة المباشرة عن طريق ظهور الجنيِّ ظهورًا تامًّا ومخاطبته الإنسيِّ بنوع من الحيلة والمكر.

إنَّ الوسوسة في صورتِها الأتَمِّ قد تجلَّتْ في هذا المشهد الأخير الذي كانت تحاولُ فيه فيرا التَّلبُّسَ بياسين المُعَذَّب؛ ذلك الذي لا يمتلك عائلة حقيقيَّة؛ فتغريه الجنيَّةُ أن تكونَ كلَّ عائلته عن طريق الاتِّحادِ في جسد واحد.

وفي هذا الحين كانتْ تُحَاوِلُ ميرا ومن معها إثناءَ ياسين عن هذا الأمر، وتحذيرَه خسران روحه أبدًا إن فعل ذلك. لما رأتْ فيرا أنَّ كلامَ ميرا يُؤَثِّرُ في قرار ياسين ويكاد يُثْنِيه عمَّا عزم الإقدامَ عليه، توجَّهَتْ نحو ميرا نفسها بوسوسة ماكرة؛ فتلمستْ يدَها وتحدثتْ إليها بصوت خفيضٍ حانٍ؛ أنها تقدر على مساعدتها في العثور على مَنْ قتل أخاها وأمَّها إنْ أرادتِ الانتقام، وهنا تضعفُ ميرا أمامها.

وتتضمَّنُ الوسوسةُ فعلَ الخداعِ أيضًا؛ ففيرا تخدع ياسينَ بأنها تريدُ أن تُخْضِعَ البشريَّة للعدالة مداعبةً أحلامَه في رفع الظلم الواقع عليه عنه؛ فهي تتوسَّل المظلوميَّة لتحقيق مآربِها، وهذا يصادف هوىً عند ياسين. وكذلك فعلتْ ليلى، التي تلبَّسَها الجنيُّ؛ فاستغلَّتْ حبَّ ناصرٍ لها أثناء طلبها التلبُّس به.

إنَّ الوسواس في المُخَيِّلَةِ الإسلاميَّة يحتلُّ مساحة واسعةً جدًّا؛ فالإنسانُ المسلم عليه أن يحصِّنَ نفسَه بالأذكار طول الوقتِ، وأن يدفع وساوسَ الشيطانِ عنه بالاستعاذة منه بالله وحده، وفي القرآن سورة الناس؛ كلها استعاذة من الوَسواس بالله ربِّ الناس.

جاء في القرآن إخبارًا عن إبليس الذي هو من جملة الجنِّ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾؛ فهذا الإتيان من جميع الجهاتِ قصدَ الإغواءِ هو نوع من الوسوسة؛ “فالوسواس معلوم بالمشاهدة، وكل خاطرٍ فله سبب ويفتقر إلى اسم يعرفه؛ فاسمُ سببِهِ الشيطان”[17].

وقد تمتدُّ وسوسة الشيطان ونزغه وغوايته وتأثيره إلى حدود واسعة؛ فإنه يفرق بين الناس، كما جاء في سورة المائدة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ﴾ مثلمَا فعلتْ ليلى لما تلبَّسَها الجِنُ وأوقعتِ العداوة بين فهدٍ وصديقِه، وجلستْ تبتسمُ في خبثٍ سَعَادةً.

لا سلطانَ إلا على الضعفاء

لماذا اختارَتْ فيرا ياسين بالذات؟ يظهرُ ياسين في بدايةِ المسلسل مراهقًا يُعاني من تَنَمُّرِ أصحابِه عليه، ومحاولتهم الحثيثة في إيذائه ومضايقته، وتجري الأحداثُ وتصل المجموعةُ المراهقةُ إلى مدينة البتراء، وهناك يأتون ياسينَ فردًا في تلك الصحراء الواسعة التي لا سلطان فيها إلا للقوي.

يستطيع ياسين الهروب منهم، ولكنه يقع في تلك الحفرةِ ويكتشف زملاؤه ذلك، ولا يحاولون مساعدتَه، وليتهم تركوه وذهبوا، لا لم يفعلوا ذلك، ولكن خلع طارق بنطالَه وتبوَّلَ عليه.

يُعاني ياسين من نبذٍ مجتمعي رغم محاولة ميرا التقرُّب منه والتعامل معه بلُطف، إنه أصبح يكره حتى نظرات العطف التي يرمقه بها البعضُ، لقد تعب ياسينُ من كونه مادة للإيذاء أو العطف ليس إلا. فهو محاط بالأذى من كل اتجاه؛ ففي المدرسة يؤذيه مجموعة من السفهة، وفي البيتِ أبوه السيء الذي يعامله وأمَّه بحقارةٍ شديدة.

الجن

ياسين شخص مناسب جدا للإغواء؛ ولد ضعيف في مجتمع يؤذيه، لا شكَّ سيُرضيه شعورُ القوةِ، وسيغويه إمكانُ الانتقام عن طريق فيرا التي لعبت معه الدور جيدًا؛ فقدمت له قربانًا منذ اللحظة الأولى وألقت طارقًا المُتَبَوِّلَ من فوق الجبل انتقامًا لياسين مُحَرِّرِها وصاحب الفضل عليها، ولا شكَّ كان ياسين يشعر بالرضا أيضًا وهو يشاهد أباه يختنق ولا يستطيع التنفُّسَ بفعل فيرا.

إنَّ اللحظة التي فسَّرَتْ كلَّ الضعفِ الذي تملك ياسين عندما سوَّغ إرادتَه التلبُّس بفيرا قائلًا: “لقد تعبتُ، أريد أن أخسر كل شيء”. ما فائدةُ روحه إذًا وهو في الحقيقة يعيش باهتًا لا قيمةَ له ولا حضور؟!

إنَّ السبب الذي من أجله اختارتْ فيرا ياسينَ، هو نفسه السبب الذي اختار كيراسُ ميرا من أجله؛ ففي الوقتِ الذي كان ياسينُ فيه ضعيفًا روحيًّا، وجاهزًا تمامًا لاستقبال فيرا داخله، كانت ميرا قويةً جدًّا، وجاهزة لمساعدة كيراسَ التَّخَلُّصَ من فيرا وإبعادها عن عالم الإنس.

وقدرة الجنِّ على التأثير في ضعاف النفوس موافق تمامًا لما جاء في القرآن: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾، ومعنى ذلك أنه ليس له “تَسَلُّط وولاية على أولياء الله. يعني أنهم لا يقبلون منه، ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتِّبَاعِ خطواته، وإنما سلطانه على من يتولاه ويطيعه”[18]، من ضعاف النفوس.

خاتمة

الجن

عالجَ المسلسل موضوعَ الجنِّ بسذاجة، كان من الممكن قبولُها لو أنها قد استغلَّتِ الموروث الثقافي والديني. إنَّ المُشَاهد ربما يشعر أن (Jinn) لم يُكْتَب لنا، أنه قد كُتِب في سياق، أو لسياق آخر مغاير تمامًا لسياقِنا، ثم أُقْحِمَ إقحامًا في نطاق عربيٍّ بطريقة تكاد تكون مضحكة في بعض الأحيان.

حاول (Jinn) أنْ يقيم له قانونًا خاصًّا له، ولكنهم -في رأيي- أخفقوا في تحقيق ذلك إخفاقًا كبيرًا. إنَّك تشعر وأنت تشاهدُه -وهو مُفَرَّغ هذا التفريغ الثقافي- أنَّك تشاهد عملًا باردًا لا روح في ولا حياة، خاصة وقانونه الخاص مضظرب جدًّا.

حاول صانعوه استبدال الرمز الديني مثلًا كالآيات القرآنية والصليب بالرمال، وحاولوا تفريغَ الموضوع من الثقافة تفريغًا تامًّا؛ فرأينا ياسين يقولُ قولًا باهتًا يأمر الجنَّ بالخروجَ: “أقسمتُ عليك بالإيمانِ التامِّ أنْ تُغادِرَ هذا الجسد”، أيُّ إيمانٍ تام هذا؟ وإذا كان صناعُ المسلسل أرادوا إقامة قانون عام تسير فيه الأحداث؛ فلماذا لم يفسِّروا معنى هذا الإيمان التام الذي يقسم به ياسين؟! إنها جملة مُبْتَسَرَة، أُقْحِمَتْ إقحامًا على لسانٍ ناطقٍ بالعربية؛ فجاءتْ باهتة المعنى تكاد تخلو منه.

جرتْ بعضُ الأحداث كذلك بطريقة ليستْ مفهومة؛ فلا نعرف مغزى ظهورِ الجني في صورة عقرب، ولا نفهم لماذا لم يحاول صناع المسلسل إقامةَ بناء درامي؛ تمهيدًا لعالم الجن الذي أرادوا إقامتَه إقامةً منفصلة عن الثقافة العربية. ثم ما هذا الجن الذي ظهر في المسلسل؟ إننا لا نعرف أصله، ولا القانون الذي يحكمه، ولا نعرف شيئًا عن عالمه إلا ما ترسَّخ ثقافيًّا ودينيًّا في أذهاننا، وما فهمناه من المسلسل من أنهم أقربُ إلى الأشباح منهم إلى الجنِّ الذي نعرفه.

والسؤال المطروح هنا: لماذا لم تُسْتَخْدَم تلك المادةُ الثريَّة عن الجن في الثقافة الشرقية أثناء صناعة المسلسل؟!

[1] عالَم الجن والشياطين، عمر سليمان الأشقر، قصر الكتاب، ص 11.
[2] في الشعر الجاهلي، طه حسين، دار المعارف، ص 82.
[3] أسرار الجن، مصطفى فهمي الحكيم، المطبعة العصرية بمصر، الطبعة الأولى 1935، ص 11.
[4] كبرى اليقينيات الكونيَّة – وجود الخالق ووظيفة المخلوق، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، الطبعة الثالثة والثلاثون 2013، ص 279.
[5] وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد عبد السلام بالي، مكتبة الصحابة، الطبعة العاشر 1997، ص 21.
[6] وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد عبد السلام بالي، مكتبة الصحابة، الطبعة العاشر 1997، ص 21.
[7] انظر: انظر وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد عبد السلام بالي، مكتبة الصحابة، الطبعة العاشرة 1997، ص 21 : 22.
[8] انظر: الجن - صفاتهم، وسبل الوقاية منهم ، عبد الحميد السحيباني، دار القاسم، ص 8.
[9] أسرار الجن، مصطفى فهمي الحكيم، المطبعة العصرية بمصر، الطبعة الأولى 1935، ص 22.
[10] انظر: الجن - صفاتهم، وسبل الوقاية منهم ، عبد الحميد السحيباني، دار القاسم، ص 13.
[11] شرح العقيدة الطحاوية، حققها وراجعها: جماعة من العلماء، خرج أحاديثها: محمد ناصر الدين الألباني، ص505 : 506 المكتب الإسلامي، الطبعة الثامنة، 1984.
[12] انظر: تحذير الخلق مما في كتاب صيحة الحق، أبو همام محمد بن علي الصومعي البيضاني، ص 30 : 32.
[13] انظر: أسرار الجن، مصطفى فهمي الحكيم، المطبعة العصرية بمصر، الطبعة الأولى 1935، ص 147.
[14] أسرار الجن، مصطفى فهمي الحكيم، المطبعة العصرية بمصر، الطبعة الأولى 1935، ص 114.
[15] الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار، وحيد عبد السلام بالي، مكتبة الصحابة، الطبعة الثالثة 1992، ص 52.
[16] انظر: لسان العرب، ابن منظور، المجلد الثامن، مادة: وسس، ص: 207 : 208، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014، طبعة مصورة عن دار صادر (بيروت) وبالتعاون معها.
[17] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، الجزء الثاني، مكتبة الصفا، الطبعة الأولى 2003، ص 436.
[18] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله الزمخشري، مكتبة مصر، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 2010، ص 46

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

اترك تعليقا