الشر بين الجدارة والتفاهة
في ظل عالم متسارع متغير لا تهدأ صراعاته ولا تزول فواجعه، عالم فسيح جعلته العولمة يضيق بما رحب وحولته مواقع التواصل الاجتماعي إلى سيرك كبير لا تنتهي فقراته، تطل علينا بين الحين والآخر بعض الأخبار التي تثير الفزع في النفوس.
رأينا جميعا أمثلة على ذلك منذ أسابيع قليلة في حادثتين متشابهتين، الأولى حادثة قتل فتاة أمام جامعة المنصورة، والأخرى حادثة قتل لمذيعة ودفنها في فيلا كانت تعيش بها مع زوجها المتهم بقتلها. ربما تختلف الأسباب والدوافع الظاهرية لارتكاب الجرائم وتحديدًا جريمة القتل، لكن من المؤكد وجود العديد من الروابط والدوافع السيكولوجية التي يشترك فيها القتلة عند إرتكابهم لهذه الجريمة، فمنذ بدأ الخليقة وتاريخ الإنسان حافل بسفك الدماء، هذا ما دفع البعض للاعتقاد بوجود الشر متأصلًا في الإنسان أو ما يطلق عليه أصطلاحًا “جذرية الشر”وهو مصطلح فلسفي مأخوذ عن اللاهوت المسيحي والذي يقول بوجود الشر كطبيعة في الإنسان.
وهو يشابه القرآن في قوله تعالى “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي” يوسف (53)
لكن بعيدا عن القضايا اللاهوتية، سنتناول في السطور القادمة بعض وجهات النظر عن طبيعة الشر ودوافع القتل من المنظور السيكولوجي.
ماهية الشر:
لا أستطيع القول عن إنسان أنه طيب، إلا إذا كانت لديه القدرة على فعل الشر ولم يفعل.
أفونسو كروش
يجب أن يكون لديك الخيارات لتعرف حقًا من أنت.
الشر مفهوم ديني وفلسفي طُرح في ساحات البحث وحلقات النقاش مع بداية ظهور الفلسفة اليونانية وما زال إلى اليوم قيد البحث، يصفه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بأنه كل فعل يتسبب في إلحاق الضرر بالغير، شريطة أن يكون ذلك الفعل متعارضًا مع القوانين الأخلاقية، ويطلق عليه في هذه الحالة “الشر الأخلاقي“
ويرى الأساس الذاتي الذي يغذي نزعة الإنسان إلى فعل الشر هي طبيعته، بمعنى وجود الشر كطبيعة متجذرة في الإنسان، لكن رغم طبيعته تلك فإن سلوكه ينطوي على الخير والشر معًا، فيقول: “الإنسان إمَّا خيّر بالطبيعة، وإمَّا شرّير بالطبيعة” أي أنه ليس شرًا مطلقًا وإنما إرادة الأنسان الحرة التي تمثل طبيعته هي التي تملي عليه فهو شر نسبي يعتمد على الإرادة واتفاقها أو اختلافها مع ما أسماه “القانون الأخلاقي”، لذلك فهذا المعنى يختلف عن المثل اللاتيني الذي ذكره لأول مرة الكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس في أحدى مسرحياته وأعاد صياغته توماس هوبز أيضا، ذلك المثل القائل: أنَّ “الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان”. وهي العبارة التي تعني ميل الإنسان إلى التربص بالآخرين والكيد لهم، حتى إذا ما سنحت الفرصة أجهز عليهم، في تجسيد لواقع بشري يسري فيه شريعة الغاب.
الجدارة:
إن الأنسان غالبا يعرف كيف يفعل لكنه لا يعرفُ لأجل ماذا يجب عليه أن يفعل”.
فتحي المسكيني
من المعروف عن الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي أنه أبدى اهتمامًا غير مسبوق بتحليل النفس البشرية والغوص في أعماقها وثبر أغورها لإزالة اللثام عن غموضها وتفسير سلوكها، ونتيجة لتجربته المريرة في السجن شرع دوستويفسكي في صياغة فكرته عن “الشخصية الاستثنائية” التى لا تعير اهتمامًا بالأحكام البشرية وهذا حال العديد من عتاة المجرمين ويقال إنه ربّما استوحها أيضا من خلال محاكمة شاب قام بقتل امرأتين كبيرتين في السن باستخدام فأس في مطلع عام 1865 ثم أخذ المال والأشياء الثمينة وهرب، وهي بالفعل نفس حبكة روايته الجريمة والعقاب، وفيها نجده يطرح أحد أهم الدوافع التي يستند إليها المجرم عند ارتكابه للجريمة، وهي ما نستطيع أن نطلق عليه “الجدارة” فـ راسكولينكوف القاتل بطل الرواية شاب فقير حالم وطموح يسعى لإيجاد السبيل إلى تحقيق ذاته ونيل مراده لكن الفقر يشكل عائقًا في طريقه.
وعلى جانب آخر نجد القتيلة امرأة عجوز مرابية تعيش على آلام الغير واستغلال فقرهم، هنا يجد القاتل المبرر الكافي لإقناع نفسه بارتكاب جريمته وهو قتل من لا تستحق الحياة والانتفاع بأموالها، لكن راسكوالينكوف لم يرتكب تلك الجريمة بقرار لحظي مفاجئ إنما أسس لذلك من خلال تدوين أفكاره كاملة في مقالة، قسم البشر فيها لأشخاص عادين وآخرين استثنائيين ووضع نفسه في زمرة الاستثنائيين أمثال نابليون بونابرت الذي صال وجال في أوروبا وأفريقيا وقتل ما شاء له أن يقتل ومع ذلك صنعت له التماثيل ووضعت على رأسه الأكاليل.
إنَّ رؤية القاتل هنا تمثل إجترارا لتاريخ الإنسانية الدموي، فالجدارة التي منحت لنابليون تكمن في النفوذ والسلطة لكن راسكولينكوف رأى أنها تكمن في الفكرة والطموح فيقول: “إنه ليس مخلوقا بشريا ذلك الذي قتلته. بل هو المبدأ، المبدأ، ولقد قتلته كما يجب”. إنَّ دوستويفسكي بتسليطه الضوء على هذا الدافع وبتحليله لمشاعر القاتل في كل مراحل ارتكابه للجريمة، يريد أن يقول فيما قال وهو كثير بل وكثير جدًا: إن الإنسان قد تغرر به أحيانًا أفكار مجنونة يجترها إجترارا ويصور له غروره أن لديه الأفضلية والجدارة كما كان لغيره، فيرتكب الجرُم لهذا السبب أو ذاك لكنه سرعان ما يرى مبرره واهيا لا يستحق أن يرتكب لأجله هذا الجرم كما الحال مع راسكولينكوف.
تفاهة الشر:
ليسوا أشرارا بل إنّهم أغبياء، الفرق كبير جدا.
فالشرّ يستلزم وجود عمق أخلاقي، وقوة إرادة وذكاء. أمّا الغبي فلا يستعمل عقله للحظة، بل يذعن لغرائزه كأي حيوان في الحظيرة، مقتنعا بأنّه يتفاعل باسم الخير، وبأنه دوما على صواب.
كارلوس زافون
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة الألمان على يد الحلفاء بدأت في مدينة نورنبيرج الألمانية سلسلة من المحاكمات العسكرية لقادة الحزب النازي أُطلق عليها اسم “محاكمات نورنبيرج”، وفي عام 1961 كلّفت جريدة «نيو يوركر – The new yorker» الأمريكية المفكِّرة والفيلسوفة الألمانية حنة آرندت بكتابة تقارير عن المحاكمة التي أجريت لأحد هؤلاء القادة وهو أدولف أيخمان الضابط النازي المسؤول عن تنظيم نقل اليهود وغيرهم إلى معسكرات الاعتقال فيما عرف حينها باسم “الحل الأخير”.
رأت آرندت بعد جمع استنتاجاتها وملاحظاتها -التي دونتها في كتاب عنونته“أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر“ المنشور عام 1963- أن أيخمان كان مجرد شخص بيروقراطي عادي، يقوم بأفعاله دون أي دافع سوى التقدم في وظيفته المهنية في البيروقراطية النازية، ولم يكن شخص سادي أو فاسد أخلاقيًا.
وتساءلت حينها: هل يمكن لأحدهم أن يقوم بفعل شرير دون أن يكون شريرًا؟
كان مجرد التفكير في شيء غير التشنيع من قادة النازية حينها دربًا من دروب الخيال، فالأفعال الفظيعة التي أرتكبتها النازية كانت ما تزال عالقة في الأذهان، لكنها رغم ذلك أتت برأي غير مألوف تمامًا وقالت في أحدى ملاحظتها “لم يدرك أيخمان أبدًا أفعاله، نتيجةً لعدم قدرته على التفكير من منظور شخص آخر، وبسبب افتقاره لهذه القدرة المعرفية الخاصة، فإنه ارتكب جرائمًا في ظروف استحالت عليه في أعقابها أن يعرف أو يشعر بأنه كان يقوم بفعل شرير” وأطلقت على مجموعة الصفات والظروف التي أدت بأيخمان للعبه هذا الدور اسم “تفاهة الشر” فهي لم تكن ترى فيه شخصًا شريرًا يحمل بذور الشر في داخله بل مجرد شخص سطحي وصولي يريد أن يحقق ذاته في منظومة الحزب النازي ويصل لأعلى المراتب.
خاتمة:
من المثالين السابقين نجد العديد من العوامل السيكولوجية المشتركة بينهما وبين الحالات التي حدثت مؤخرًا والتي تتمحور حول فكرة الغرور والحب المبالغ فيه للذات.
أترك للقارئ إمعان النظر فيها وإيجادها بنفسه، لكن الذي لا يخفى على أحد أن لكل تلك المآسي سببًا رئيسًا أدى إلى تلك النتيجة الحتمية، وهو ما أصبحت تتسِّم به مجتمعاتنا من إسرافٍ في النزعة الفردية وقصور غير مسبوق في إدراك الجوانب الوجدانية ونتيجة لما وصل إليه حالنا من تدني حاد في القيم وإهمالٍ للمبادئ.