الشخصية السيكوباتية: رحلة في صناعة الجنون

كنت في منزل أحد أصدقائي الأطباء المهتمين بدراسة الشخصية السيكوباتية ، وكان لديه في مكتبته نسخة من الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات النفسية (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders. ويضم الدليل كافة الأمراض والاضطرابات النفسية كما حددتها الجمعية الأمريكية للطب النفسي، وعدد صفحاته نحو  1000 صفحة. وفي أثناء تصفحي للدليل تساءلت مراتٍ عديدة إذا ما كنت مصابًا بـأحد الأمراض النفسية، واكتشفت تقريبًا أنني مصاب بعشرة أمراض على الأقل: أعاني من اضطراب القلق العام، واضطرابات النوم ، ومشاكل في علاقاتي العاطفية والاجتماعية، واكتئاب ثنائي القطب، وأمراض كثيرة أخرى، هذا الى جانب  أنني أتمتع بمجمل ملامح الشخصية السيكوباتية بامتياز.

ووفقًا للدليل المذكور ، الشخصية السيكوباتية هي باختصار شخصية تعاني من اضطراب نفسي مزمن يُجيد صاحبها تمثيل دور الإنسان الحكيم العاقل وله القدرة التأثير على الآخرين والتلاعب بأفكارهم، ويتلذذ بإلحاق الأذى بمن هم في محيطه، وهو عذب الكلام، يعطي وعودًا كثيرة، ولا يفي منها بشيء، وعند مقابلته ربما تبهرك لطافته وقدرته على استيعاب من أمامه وبمرونته في التعامل وشهامته الظاهرية المؤقتة؛ ولكن حين تعامله لفترة كافية أو تتحرى حوله من أحد مقربيه عن تاريخه تجد حياته شديدة الاضطراب ومليئة بتجارب الفشل والتخبط، وهي شخصية لا يهمها إلا نفسها وملذاتها فقط وتشعر بأنها محور الكون، وينتهي أغلب المتمتعين بها بالعدد الأعلى على قائمة الملامح التي تُشكل الشخصية السيكوباتية في غياهب السجون بعد ارتكاب جرائم بدم بارد.

نحَّيت الدليل جانبًا، وأخبرت صاحبي الطبيب بكل هذه الأعراض، فأخبرني أنني سليم نفسيًا و كل ما في الأمر أن هناك منطقة رمادية تقع بين السلامة النفسية والمرض النفسي، الكثير منَّا اتخذ منها سكنًا، وأن الكثيرين منا يحمل من تلك الصفات، وأعطاني كتابًا لطيفًا في هذا الموضوع، فقرأته وأحببت أن أشارك بعض أفكاره معكم.

كتاب: اختبار الشخصية السيكوباتية

ولقد وجدت هذا الكتاب و عنوانه The psychopath Test: A journey through the madness Industry كتابًا شيقًا للغاية، كأنك تقرأ قصة مثيرة تدور حول رحلة صحفية قام بها الصحفي الإنجليزي الشهير ومخرج الأفلام الوثائقية جون رونسون Jon Ronson داخل مستشفيات الأمراض العقلية وفي دوائر النفوذ السياسية والاقتصادية في أمريكا وإنجلترا ليلقي الضوء على المنطقة الرمادية بين الجنون والعقل، وخاصةً فيما يتعلق بالشخصيات السيكوباتية.

رحلة مع الشخصية السيكوباتية

بدأت رحلة المؤلف أو القصة لو أحببت، بزيارته لمصحة برودمور بنيويورك، وهي مستشفىً للمجرمين الذين ارتكبوا جرائمهم تحت تأثير أمراض عقلية، للقاء “توني” أحد نزلائها، وأخبره توني أنه ادعى أعراض الجنون ليهرب من حكمٍ بسجنه، ولكنه أصبح أسيرًا في هذا المكان بعدما فشل بكل الطرق في إثبات أنه عاقل.

إعلان

واكتشف المؤلف أن إقناع الناس بأنك عاقل أصعب بكثير من إقناعهم بأنك مجنون، حيث أخبره ”توني“ أنه عجز عن الحصول على تصريح بخروجه من المستشفى لأن لجنة أطباء الطب النفسي ترفض دائمًا الإفراج عنه بسبب ارتفاع نسبة الأعراض السيكوباتية عنده بشكل كبير، ووجود أعراض اضطرابات عقلية أخرى، ويمثل هذا خطورة على المجتمع. وكان توني يحاول أن يبدو طبيعيًا عن طريق التحدث إلى الناس والممرضات بشكل طبيعي عن مواضيع عادية مثل كرة القدم أو برامج التليفزيون، وفي إحدى المرات قرأ مقالاً في مجلة “New Scientist“ الأمريكية حول أن الجيش الأمريكي يدرب النحل الطنَّان ليشم المتفجرات، وأخبر الممرضة “هل تعلمين أن الجيش الأمريكي يدرب النحل الطنَّان ليتشمم المتفجرات؟” وبالصدفة اكتشف بعد ذلك عندما قرأ الملاحظات الطبية المكتوبة عنه، أنهم كتبوا: “يتوهم أن النحل يستطيع أن يتشمم المتفجرات.”

كانت كل الدلائل تشير إلى أنه عاقل، إلا أن أحد الأطباء النفسيين أخبر جون أنهم مقتنعون فعلاً بأنه ادعى الجنون لكن الفحوصات كشفت عن أنه شخصية سيكوباتية، وفقًا  لقائمة قياس انحراف الشخصية السيكوباتية PCL التي تضم ٢٠ بندًا، والتي اخترعها عالم النفس الكندي الشهير Robert Hare في السبعينات لتقييم حالات الشخصية السيكوباتية حسب درجات تحدد لكل بند .scoring . وحصل ”توني“ من خلال المحكمة وبعد 14 عامًا على الإفراج، وأشار الحكم في حيثياته إلى أنه ليس من المفترض أن يحتجز شخص إلى الأبد لأن درجاته عالية على قائمة الأعراض السيكوباتية أو أي قائمة نفسية أخرى.

محاضرة جون رونسون على تيد

قرر جون دراسة هذه القائمة الخاصة للأعراض السيكوباتية ليكتسب المهارات اللازمة للتعرف على الشخصيات السيكوباتية، وبدأ خطوته الثانية في رحلته مسلحًا بالتأهيل الكافي والعلم اللازم للكشف عن تلك الأشخاص في عالم الأعمال والسياسة، حيث أخبره علماء النفس أن الكثير من المشاهير هناك يتمتعون بكافة سمات الشخصية السيكوباتية وتغيب عن قلوبهم أية رحمة أو تعاطف تجاه إخوانهم من البشر. ولقد قابل جون شخصياتٍ كثيرة كشفت جميعها عن سمات الشخصية السيكوباتية، لكنه لاحظ بعد فترة أنه أصبح يرصد ملامح هذه الشخصية بين أصدقائه وزملائه وأهله وفي كل مكان.

وهنا استيقظ جون من هول الحقيقة، ليكتشف أنه والعديد من الصحفيين والأطباء النفسانيين وشركات الأدوية ووسائل الإعلام أصبحوا يحبون بل يعشقون أن يروا المرض النفسي في كل الأشخاص حولهم، أصبحوا جميعًا يتوسعون في وصف الأمراض النفسية وإدراجها، لدرجة أن دليل الأمراض النفسية DSM للجمعية الأمريكية للأمراض النفسية تضاعف حجمه أربع مرات من الخمسينيات من القرن حتى الألفين ليصل إلى ٨٠٠ صفحة وليشمل حوالي ٣٧٤ اضطرابًا نفسيًا، وبات الأطباء يشخصون حتى الأطفال في سن ٤ سنوات بأنهم يعانون من اضطراب المزاج الثنائي bipolar.

الخلاصة

الحقيقة المؤلمة كما استنتج جون رونسون هي أن الطب النفسي وصناعته قد توسع ليضم الأشخاص الذين تظهر شخصياتهم اختلافات بسيطة عن السلوك الطبيعي، بل ويمكن القول أن هناك منطقة رمادية بين الجنون والعقل قد نمر بها جميعًا استولى عليها الطب النفسي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا