السادية والمازوخيَّة … عودٌ على بدء
انتهينا في المقال السابق إلى تحليل نفسية ودوافع الشخصية السادية ، وكيف أنه يعاني ويتألَّم إذا ما هو فقد من يمارس بحقهم ساديَّته وعدوانيَّته، ونكمل في هذا الجزء المتمم شرح وتشريح للشخصية المقابلة والقطب الآخر في تلك العلاقة المتشابكة والغامضة؛ ألا وهي الشخصية المازوخية.
قد نفهم أو قل نتفهَّم شخصية السادي الذي يحاول إيذاء الآخرين بأنَّه شيء غير جيِّد بالمرة؛ ولكنه في كل الأحوال قد يبدو أمرًا طبيعيًّا كما قال (توماس هوبز).
فكيف نُفسِّر ذلك اللغز المُحيِّر للمازوخي الذي يقبل بالإهانة والتوبيخ والألم والإيذاء، بل ويستمتع بذلك أيضًا؟
كيف نفهم ذلك على الرغم من معرفتنا التامة بأن النفس البشرية تميل دائمًا نحو الاعتزاز بالنفس والافتخار بالذات والظهور بين الناس وسماع المديح والثناء، ومع ذلك قد تقبل تلك النفس أن تُهان أو تُذَل أو يقع عليها الإيذاء والألم؟ فكيف يكون ذلك؟
يقول (توماس هوبز): “كل المطلوب في هذه الحالة أن يكون المرء ضعيفًا أخلاقيًّا وذلك بأن يعامل معاملة الطفل أو أن يخاطب على هذا النحو، وأن يوبخ بعنف أو أن يذل بطرق مختلفة”.
المازوخيَّة وفقًا لفرويد
ويفسِّر (فرويد) هذا السلوك بأنه نتيجة لما أسماه “غريزة الموت”؛ في حين ينحو ألفريد أدلر نحو توصيفها بأنها “الشعور بالدونية”، ثم يأتي فلهلم رايخ (1900-1957)، وكارن هورني (1885-1952)، وأريك فروم (1900-1980)؛ الذي قام بأهم تلك الدراسات جميعًا وعرضها في كتابه “الهروب من الحرية”، وقام بتحليل الشخصية المازوخية التي تقوم أساسًا على الخوف ويملؤها الرعب من الوحدة وعدم القيمة الذاتية، حيث يقول: “إن الفرد الخائف والمذعور يبحث دائمًا عن شخصٍ ما أو شيئًا ما يرب به ذاته، فهو لم يعد يطيق أن يكون ذاتًا فردية، فيحاول وهو في حالة هياج شديد أن يتخلص منها وأن يشعر بالأمان من جديد بالتخلص من هذا العبء أعني من الذات”
وهنا يأتي دور المازوخية التي تخلص ذلك الفرد الخائف والمذعور من عبء ذاته وفرديته وعبء حريته.
فيبحث عن شخصٍ ما أو سلطة أو قوة يشعر بأنها تحتويه أو “تبتلعه” وتغمره بقوَّتها وقد تكون تلك القوة أو السلطة قوية بالفعل أو أنها قوية نتيجة عجز وضعف ذلك المازوخي تجاهها، ذلك أن المازوخي يعاني صراعًا وعذابًا كبيرًا داخل ذاته، إذ يعاني بين رغبته في أن يكون مستقلًا وقويًّا وبين شعوره بالعجز والتفاهة حتى يصل إلى مرحلة تحقير ذاته الفردية وتحويلها إلى لاشيء ثم ينقذ نفسه بالخضوع والذوبان في قوة أخرى تسيطر عليه، كشخصٍ مفرد أو رئيس في عمل أو زعيم أو قائد أو ربما حزب أو جماعة، حيث يشعر هنا بالأمان والراحة والطمأنينة ويرتاح من عذاب النفس وعذاب ذلك الصراع آنف الذِّكر، وربما يشعر بالقوة وبالذات وهو وسط ملايين مثله يشاركونه نفس المشاعر ويشاطرونه نفس الدونية والضعف والاستسلام.
لعلك تذكر ملايين الألمان الخاضعين المبهورين أمام هتلر، المسحورين بكلماته، ولعلك تذكر أيضا آلاف المصريين الذين خرجوا يتوسلون للقائد المهزوم ألَّا يتنحى ويتركهم أو حين خرجوا بالملايين يشيعونه ويبكون هذا الحاكم حين موته، وكأنهم صاروا أيتامًا بلا أب أو حملان بلا راع.
إذًا هو الشعور العام بالعجز والضياع دون الطرف الآخر، حيث كانوا في حلٍّ وراحة من عبء تحمل المسؤولية واتخاذ القرار وحل المشكلات، فكل ما كان يواجهه من مشاكل وصعوبات كان يقوم القائد والزعيم بحلها نيابةً عنه، وهنا يحدِّد معنى ذاته وحياته وهويته، فهو جزءٌ من كل، وظِلٌّ لكيان، ومذياعٌ لصوت، وانعكاسٌ لصورة.
قاهرٌ ومقهور، قويٌّ وضعيف، سيِّدٌ وعبد، طاغيةٌ وخاضع.
ثنائية جدليَّة تهيمن على كلِّ علاقاتنا ونتقلَّب فيها جميعًا بدرجةٍ أو بأخرى، فتارة نكون ساديين وتارة أخرى مازوخيين.
تتسلم على مرؤوسيك وتتنمَّر عليهم ثم تقف منكمشًا خاضعًا أمام رؤساءك أنت، تقهر أبناءك ويقهرك رجل الشرطة، تحتقر المتسوِّل ويستخف بك المسؤول، تؤذي طلابك وتعنفهم ويؤذيك مديرك ورئيسك في العمل.
سالب وموجب، قامع ومقموع هو أنت أيها الإنسان، أيها الإنسان عمومًا وأيها العربي خصوصًا.
يرى (إريك فورم) أن العلاقة بين هذين الطرفين موضع الحديث هي علاقة “تكافل”؛ أي إشتراك شخصين في معيشة واحدة لفائدة كل منهما، ويقول موضِّحًا ذلك: “إن التكافل بالمعنى السيكولوجي الذي نقصده هو اتحاد ذات الفرد مع ذاتٍ أخرى بطريقةٍ تجعل كل منهما يفقد تكامل ذاته أو استقلالها ويعتمد على الآخر اعتمادًا كليًّا، وهكذا يحتاج الشخص السادي إلى الشخص المازوخي بقدر ما يحتاج إليه الشخص المازوخي تمامًا”
وهنا يجتمع الضدَّان ويأتلف المختلفان ويلتحم ما يبدو أنهما متنافران.
هنا نصل لختام الرحلة ونهاية المطاف مع وقفة أمام السادومازوخية في مجال الفلسفة السياسية، ولعلها تكون وقفة قصيرة مختصرة ولكني أرجو أن تكون وافية كافية لما نريد إيصاله ونروم شرحه وتفسيره.
في السياسة تتحول الشخصية السادية إلى شخصية استبدادية طاغية، لا تعترف بالمساواة بين الناس لأن تلك المساواة تتعارض مع الفلسفة التي تقوم عليها، فالعالم عند هذا الطاغية ينقسم إلى نوعين من البشر؛ أقوياء مميزون وضعاف لا حول لهم ولا قوة ولا ملامح ولا تمييز.
القائد والمقاد، الزعيم والجماهير، المبعوث الإلهي والشعب المتلهف، المهدي المنتظر والمؤمنون المنتظرون، لذلك يجب أن يخضع الجميع ويسمع الجميع ويطأطئ رأسه الجميع ويصمت الجميع وينفذ دون مناقشة الكل والجميع، فأنا (الطاغية) الوحيد الذي له الحق في السيادة والحكم والكلام والهيمنة والسيطرة فلا أحد يفهم غيري ولا أحد يعلم سواي ولا أحد يقدر ويستطيع إلا أنا ولا أحد يملك الحق والمعرفة والحكمة والنبوغ والذكاء إلا أنا، وأنا فقط.
يقول هتلر في كتابه الشهير كفاحي: “إن ما تريده الجماهير هو انتصار الأقوى وسحق الأضعف واستسلامه من غير شروط”، ويقول كذلك: “إن الجماهير كالمرأة تريد أن تخضع لرجلٍ قوي لا أن يسيطر عليها رجل ضعيف، ولهذا فإنها تحب الحاكم القوي، لا الحاكم المتضرع المتوسل وهي في أعماقها تكون أكثر استمتاعًا بالنظرية التي لا تتسامح مع الخصوم، لا النظرية التي تمنحها حرية ليبرالية، إنها تشعر بالضياع مع هذه الحرية، بل قد تشعر بسهولةٍ بأنها وحيدة مهجورة”
وكان النظام النازي يطبق هذه النظرية في تربية الشبيبة الهتلرية، فكان يغرس فيهم الخضوع والطاعة المطلقة والصمت، فهدف التربية “ألا يؤكد الفرد ذاته، والطفل في المدرسة ينبغي أن يتعلم الصمت وأن يكون صامتًا وليس فحسب عندما يوجه إليه اللوم؛ بل عليه أن يتعلم أيضًا إذا دعت الضرورة أن يتحمل الظلم في صمت”.
ومع ذلك لا تنسى التربية النازية إلى جانب خلق تلك الشخصية المازوخية الضعيفة أن تضيف إليها جانبًا ساديًّا تواصل ما تقوم به الصفوة من السيطرة على الآخرين.
يقول هتلر: “إن تطور التلميذ وتربيته بأسرها يجب أن يتجه إلى أن نغرس فيه الاقتناع بأنه متميز ومتفوق على غيره تفوقًا مطلقًا ،كما ينبغي على الطفل أن يتعلم من ناحية أخرى كيف يعاني من الظلم دون أن يتمرد”
وهذه هي أبرز سمات العلاقة السادومازوخية؛ ازدواجية الشخصية، قوي هنا وضعيف هناك، مسيطر هنا ومستسلم هناك، الرغبة في السيطرة والرغبة في الخضوع، امتنان واحتقار، وهي ذات العلاقة التي تربط بين كل مستبد طاغية بالشعب والجماهير؛ رغبة في السيطرة والقوة من صفات القادة تقابلها رغبة في الخضوع والخنوع من الجماهير.
ويرى هتلر نفسه أن “فكرة السلام البشري ربما كانت فكرة طيبة، كلما كان الإنسان ذا مستوى أعلى وبعد أن يكون قد قهر العالم بالفعل وأخضعه لسيطرته، لدرجةٍ تجعله السيد الوحيد على هذه الأرض”.
وهكذا يفسر نزعته للسيطرة على العالم كله على أنها لمصلحة هذه الشعوب بل لمصلحة الحضارة والإنسانية جمعاء، فالسيطرة المطلقة من السيد على الضعفاء رحمة بهم، وهي قوانين أزلية كل ما فعله هذا الطاغية هو أنه تعرف عليها وأعاد اكتشافها؛ لذلك فهو لا ينفذ مشيئته هو بل ينفذ مشيئة علوية هي الله أو القدر أو صيرورة التاريخ، كل حسب موقعه وإيمانه.
كلنا يذكر الفنان الراحل حسن عابدين في دوره بفيلم “درب الهوى” حينما قام بتشخيص شخصية الباشا الكبير الشديد قوي الشكيمة الحازم الذي كان شعاره (ف – ش) أي فضيلة وشرف، ونذكره هو شخصيًّا -نفس الباشا- وهو في غرفة النوم مع إحدى بائعات الهوى وهو يرقص في منظرٍ مُزرٍ ومُخزٍ، ويقول لها جملته الشهيرة: “أنا عايز واحدة تهزأني تهزأني تهزأني”