رؤى في عالم النفس

رجوعاً لنهايـة القرن السـادس عشـر وَ لفلسفـة رائـد الثورة العلميـة على وجـه التحديـد الأنگليـزي ( فرانسيـس بيكـون . Francis Bacon ) وَ التـي ركـزت فلسفتـهُ على علاقـة الإنسان بالمـادة أفرغ كل المفهُـومات المُجـردة إلى العالـم المادي بحيـث أعتبـر أن ( الذات ) يجـب أن تفـرغ نفسهـا من ذاكرتهـا التي هي أوهام ( أي من مفهوماتهـا السابقـة ) لمعـرفة وحيـدة وَ هي معرفة الطبيعـة التي أمامنا عبر التجربـة العلميـة التي هي الحقيقـة الوحيـدة فغايـة الإنسان لديـه معرفة الطبيعـة التي هي من توصـل لمعرفـة الله لذلك فسـر الكتاب المُقدس وَ الأساطير الشعريـة المُرمزه أنها كُتبت لفهم الطبيعـة بل أن خطيئـة آدم هي أهمالهُ لفهم الطبيعـة بصورة عمليـة وَ ركونـهُ للفكر المُجـرد بذلك أفرغ المعنى الشعـري النفسي للأساطيـر ليجعلهـا أنها محاولة فهم الطبيعـة لذلك يعتقـد البعـض أن الأساطير هي فهم خاطـئ للطبيعـة لكن علماء مجـال علم نفس الأعماق يرون الأساطير بمفهُـوم مغايـر سأتحدث عنهُ بعد هذه الفقـره.

بيكـون يعتبـر من الناقديـن الشرسيـن للفلسفـة اليونانيـة كونهـا فكرية مُجـردة وَ أنتقـد مثاليات أفلاطـون وَ علل أرسطـو وَ هنا أقف على مفهُوم ستتضـح أهميتـهُ خلال البحث وَ هُـو ( الصـورة . Form ) التـي كان أرسطـو يوكـل إليها هي الصـورة التي توُجد العدم إلى الظهُور المـادي بمعنـى هي علة المحسـوس وَ هي لا ماديـة كالنفـس وَ هُـو ما صـار موضع نقـد لدى بيكـون حيـث صيـّر ( الصـورة . Form ) لعلـها قابلـة للتجربـة أي أصبحت علـه ماديـة بذلك أسقطت ( الصورة . Form ) من عالم المُثـل الأفلاطونـي إلى العالم الطبيعانـي الأرسطي لكنهُ مع بيكـون أصبحت الصورة قابلة للتجربة وَ هي موجـودة في المادة قابلة للعيـان ! “1”

عالم النفس سيغمونـد فرويـد

بعـد ثلاثـة قرون من بيكـون ظهر علم التحليـل النفسـي مع طبيب الأعصاب النمساوي ( سيغمونـد فرويـد . Sigmund Freud ) وَ تحدث عن مفهُـوم ( اللاوعـي . Unconscious ) أو ( اللاشعُوري . Subliminal ) وُهو عالم أعمق من قشرة طبقة الوعي في الإنسان وَ تظهر بحريـة في أحلامهُ وَ هي مشاعـر مكبوته في الإنسان تعبر عن نفسهـا بصورة رمزيـة كالأساطير وَ قصص الفلكـور الشعبـي لذلك أسمى هذه الصُـور ( البقايا البدائيـة . Archic Remnants ) وَ مايشكل هذه الصُـور من اللاوعي لـ الوعي في الأحلام دعاها ( الرقيب . Censor ) حيث تجعل الحلم غير منتظم لتخفي عـن الحالم المعنى الخفي للمكبـوت وَ بالإضافه هي المسؤولة عن نسيان الحلم عند اليقظـة .

فضائل فرويـد هُـو أول من طابق بين رموز اللاوعي وَ الأسطورة بذلك ساعد بسحـب الأسطورة الي منبعها الداخلي لكـن فرويـد جعلها كلها صُـور للمكبوتات الجنسيـة فقط فسـر رموز العصا ، القلم ، العلم ، القبعه وَ الأشياء الظاهرة أنها رموز للعضو الجنسي الذكري وَ الوعاء ، المزهريه ، الكهف ، البيت العضو الجنسي الأنثوي وَ السلم رمز الفعل الجنسي وَ طبعاً يتبع أغلب باحثين الميثولوجيـا وَ التحليل النفسي هذه التقسيم لصور الحُلم لكن أفرغوها من أختزالها بالرغبة الجنسيـة المكبوتـة كما قال فرويـد .”2″

مدرسـة التحليل النفسي ( اليونغيـة )

لاحقاً أنشقت عن الفروديـة مدرسـة التحليل النفسي ( اليونغيـة ) مؤسسها ( كارل غوستـاف يونغ . Carl Gustav Jung ) وَ الـذي طور مصطلحـات فرويـد متأثراً بالخيميـاء وَ الفلسفات الشرق آسيويـه وَ المعتقدات الغنوصيـة ، حيث إذ كان فرويد يرى اللاوعـي هُو مجرد مخزن للمكبوتات الجنسيـة يراهُ يونغ أنهُ عالم مستقـل حي تتخزن فيـه الصُـور لا كصُور شخصية خاصـة بنا فقط بل تنحـدر لـ( صُـور Forms ) سحيقـة ترجـع الى الأسلاف حتى تتصاعد منتميـه للكـون . Cosmos وَ رفض يونـغ أن تكون ( النفـس . Psyche ) منتميـة للجسـد دون استقلال حي لها أو أن النفس تحتكـر فقـط بـ ( الوعي ) بذلك تُعرف النفس على أنها فارغه وَ لا تكتـسب إلا من التجـارب الشخصيـة !

إعلان

عموماً أطلق أسـم ( الصُـور الجمعيـة . Collective Images ) على الصُـور المُخزنه في اللاوعـي وَ لقدمهـا وَ جهل منبعهـا يرى أنها مصدر الأحلام وَ الأساطير وَ الديانات وَ الآلهه وَ لغتهـا هي الرموز وَ التي سماها كما المحلل النفسـي ( اريك فـروم . Erich Fromm ) بـ ( اللغه المنسيـه ) وَ التي درسهـا هُو الأخر بأنها لغة الأحلام وَ الأساطير وَ الحكايات الشعبيـة حيـث تتولد بالليل بصُور شبحيـة عندما يُعطل النوم الوعي الخارجي للإنسـان .

وَ هذه الصُور تتخـد نمط بدائـي أسماها يونـغ ( النمـوذج البدئي . Archetype ) حيـث لعمقهـا وَ للغتها الخاصـه فهي تعبر عن نفسهـا بالرموز فمن الأمثلة على أعلى صـورها الألوهـه العليا التي من الصعب إعطاء لغة واضحة عن معناها فيرمز لها بالحضـارات القديمـة برمز ( عجله . Wheel ) أو نجمـة ثمانيـة كما لدى السومرييـن وَ بالفعل سأتحدث في نفس المقال لاحقاً كيـف أن الغنوصييـن لم يعطـو لله إسم إلا كرمز عن المعنى أما ذات الله مجهولـة التعريف وَ كلمات كالأب لدى الغنوصييـن أو الله لدى الإسلاميـن الباطنيـن هي حروف مُرمزه وَ ليس إسم معنى طبقاً للمسمى ..!

أيضاً يونغ وسـع دراستـهُ لدراسـة أعماق الإنسان ليس فقط عبر تحليـل الحلم بل عبر اللوحات الفنيـه ، أو التأمل بشيء معيـن حيث الإنسان يستطيـع أن يتكشف نفسـُه بأشياء خارجيـة يكون لها معنى خاص بالنسبـه لهُ وَ من الأدوات التي أستعملها لتحليـل النفسي هي ( ماندالا . Mandala ) وَ هي صورة مرسومـة دائرياً تستعمـل في فلسفة اليوغـا وَ البوذيـة تحتوي على عدة دوائر في مركزها نقطه أو وردة لوتس أو أتحاد صوفـي بين شاكتـي الأنوثه وَ شيفا الذكـوره حيـث تستعمـل ليقظة الإنسان على مركـز وجودهُ حيث مركزهـا لدى يونغ هُو منبـع الـصوُر الـ ( archetype ) حيـث منها تتدفق قـوة ( المانا . Mana ) الروحيـة.

وَ الإنسان لدى يونغ يتأثر بدايـه بالمجتمـع الذي يُكون شخصيتـهُ التي هي نسخة المجتمـع لكن رأى أن الصدمات التي تصيب الإنسان تخل بقناع الإنسان ( Persona ) الذي يبـدأ يشكك ما بالخارج وَ هنا تبدأ الشخصيـة تهتز في حالة معاناة وَ ضياع وَ الحزن وَ العزله وَ سمى هذه المرحله ( تجربة الظل ) يقابلها بالخيمياء ( nigredo ) مرحلة معاناة الماده وَ موتها وَ يقابلها بالغنوصية مرحلة موت الجسد وَ تعذبهُ .

وَ أعطى مثال للصدمة ماحصـل للفيلسـوف وَ اللاهوتـي الغنوصي من القرن الثالث عشـر ( رامون لـول . Ramon Lol ) الذي أصيب بصدمة غيـرت حياتهُ حيث نجح بلقاء معشوقتـهُ في أحد اللقاءات فتحت لهُ ردائها لتريـه صدرها الفاسـد الذي أفسدهُ السرطان ومن هذه الصدمات العاطفيـة لدى يونغ يبدأ صوت نبع للحياة وسط الظلام ينبـع من اللاوعي وَ هو ماسماهُ ( الأنيما . Anima ) تقابل النفس وَ هي الجانب الأنثوي المخبئ في الإنسان وَ هي توازي الإنسان بمرحلة الأنهيارات لتعطي لهُ معنى جديد وَ هي أصل الأبداعات في الإنسان وَ هي من تشكل الصُور الخيالية لدى الإنسان وَ تحول الخيال من عبثي الى ما أسمـاهُ ( الخيـال النشط أو الفعّال . Active Imagination ) و هذهَ المرحلـة تسمـى ( albedo ) ( البياض ) في الخيميـاء حيـث المعدن أو الجسـد لدى الغنوصيـن تحول إلى روح نورانيـه بعدها يدخـل الإنسان بحالة الوعـي بالذات ( ego consciousness ) حيث الوعـي ( أنيمـوس . Animus ) يتحد وَ يتوافق مع اللاوعـي ( انيما ) وَ هي مرحلة الزواج الخيميـائي بيـن الأنوثه وَ الذكـوره بين الماء وَ النار وَ الأرض وَ السماء المسماة ( Coniunctio ) وَ هنا تتولـد ( ذات . Self ) جديدة .

وَ قد صـورت الأساطير هذه العمليـه اليونغيـه بالبطـل الذي يقتل الثعبـان أو الوحش رمز العماء ( الذي يقابل ماسماه تجربة الظل ) وَ بأغلب الأساطير يظهر هذا الثعبان أو الوحش يحمي كنزاً أو أميرة وَ التي إذا حازها البطل عرف نفسـهُ ..!

عالم النفس روبيـر دزوال

من أشهـر من تأثروا بنظريـة يونغ لتحليـل الفلسفي المختلط بالغنوصيـة وَ الخيمياء المعالـج النفسـي الفرنسـي ( روبيـر دزوال . Robert Desoille ) وَ الذي كان يعالـج مرضاه بأحلام اليقظـة حيث يوضـع مرضاه على أريكه في غرفة شبه معتمـة مُبعداً عن أي فوضى بذلك يسترخـي المُعالج لتتسلسـل الصُور من مخيلتـهُ بذلك يُمكن المعالِج من أستحضار الصُور لفهم عمق مشاعر المريض العصـابي . neurosis حيث يبتدأ بإعطاء المريض صورة إذا كان ذكر ( سيـف ) أو إذ كانت أنثى ( وعاء أو مزهريه ) أو بالأحرى يستحضر مخيلة المريض عن مفهومهُ عن السيـف أو الوعاء بذلك يتكشـف المعالج عبر وصفها رأي المريض في ذاتهُ ثم بالمخيلـه يطلب منـهُ خوض مغامرات أقرب للخيال مثلاً عند العوائق عند تخيـل صعود جبل يطلب منهُ تخيل شخص يطلب منـهُ المساعدة و الشخص الذي يظهر بالمخيلـهُ هُو صورة الأخر الذي يمثل معنى التسامي في مخيلة الإنسان كأن يتخيل حبيـب أو ملاك أو آله أيضاً يطلب منهُ أن يغوص بأعماق بحر أو هبوط كهف وَ من مخيلة المريض يتكشـف عن مخاوفهُ وَ بذلك عبر الصُور الخيالية التي تتشكـل بصورة أسطورية تكشـف مشاعـر الإنسان من أعمقها الى أكثرها تسامياً وَ أسمى طريقة علاجهُ The Directed Daydream .

تأثر بـ ( كارل يونغ ) وَ ( روبيـر دزوال ) الشاعري الفينومينولجي الفرنسي ( غاستـون باشلار . Gaston Bachelard ) الذي أهتم بدراسـة أحلام اليقظـة ( reverie ) حيث طبـق درساتـهُ عن صور يقظتـهُ في حزنهُ وَ عزلتهُ وَ على القصص الأدبيـه وَ الأشعار التي رأى أنها كالأسطورة وَ الحلم من منبـع واحد تنبـع من ( أنيما . anima ) أي لاوعي الإنسان حيث الصُور الشعرية هي الأخرى بدائيـة وَ من تجليات لغة الروح لا لدراسات الأكاديميـة وَ العقليـة

حيـث رأى أن أحلام اليقظة تمثـل اللاوعي الأنثوي بصـورة كهف أو قبو أو مأوى رمز عزلتها وَ التي لا يهبط أليها ألا بصـورة بدائيـة بمصباح أو شعلـة حيث ربط بين الشعله وَ النار وَ التسامـي وَ التصاعد وَ اليقظه وَ مثل هذه الوحـده وَ العزله تجدد الروح وَ تنميها بذلك تنمي الحـس الشعري وَ العاطفي وَ الوجداني لدى الإنسان فيبتلع العالم كلهُ وَ يؤولهُ شاعرياً فالعالم بذلك يتحدث معهُ كما هُو يتحدث إليه وَ هذا ما أسماه بـ ( الإنسان المتأمل ) وَ التي رؤيتهُ للوجود تختلف عن الإنسان العقلاني المُفكـر وَ الرؤيـة الحلميـه لديـه تفتح لـهُ عوالم شبـه أثيريـه لعالم خيالي مفقود بلا وجود زماني وَ مكاني بذلك لغة الشعر تعطي للذات وَ الوجود صبغة بدائيـة

لذلك يقول باشلار ( الروح لا تعيـش مع الزمـن ) وَ هذه الروح هي ماتنتمي لها الصُـور الكونيـه وَ يقـول بكوجيتو التأملات ( أنا أحلم العالم إذاً العالم موجوداً كما أحلمهُ ) . باشلار كان من الناقدييـن للمحلليـن النفسيـن الذي هم يسعون لإخراج الإنسان عن ذاتهُ ليتوافق مع المجتمـع فرؤيـة باشلار عكسيـة يرى أن الإنسان لا يتكشـف نفسـهُ ألا بذاتـهُ وَ عبر ذاتـهُ الى ذاتهُ الأخرى الكونيـه وَ هذه رحلة الأنيميا لديه ..!

 

المراجع

“1” عن فلسفة بيكـون ( فلسفـة فرانسيس بيكون . حبيـب الشارونـي ) ، نقد الأصنام الذهنيـه الأربعه لبيكـون راجع كتاب ( داريـوش شايغان . الأصنام الذهنيـه و الذاكرة الأزليـة )

“2” من فلسفة فرويد ( تفسير الأحلام لسغموند فرويد )

“3” فلسفة يونـغ من كتبهُ ( جدلية الأنا وَ اللاوعي ) ( Man and his Symbols ) وَ عن فلسفتهُ الخيمائية ( An Esoteric Tradition of Mystical Visions and Union . Dan Merkur ) و عن روبير دزوال (The Directed Daydream ) و عن غاستون باشلار كتبهُ ( جماليات المكان ) ( شعلة قنديل ) ( النار في التحليل النفسي ) ( شاعرية أحلام اليقظه )

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك:

علي الحفناوي يكتب للمحطة القتل بإسم الدين

محمد شحرور نظرة تجديدية أم تحريفية

العقلانية والدين عند كانط

إعلان

اترك تعليقا