العالم في يوتوبيا صغيرة
اليوتوبيا VS الديستوبيا
اليوتوبيا. لفظة منذ ولادتها تقع وقوع اللاشيء في بحر المصطلحات المتداولة، فحتى عندما تبحر في طيّاتها كل ما تجده بعضٌ من الأحرف اليونانيّة “أو توپوس” والتي تعني “اللامكان.”
حتى أتى أفلاطون عالمنا، جاعلًا له وقعًا عذبًا في نفوسنا، حلمًا جميلًا في جمهورية أفلاطون، يُدعى “المدينة الفاضلة“.. والتي إن لم تكن سمعت عنها كما ناقشها هو ذاته أو توماس مور أو سانت أوغسطين أو فرانسيس بيكون أو ويلز، فحتمًا سيكون عرّاب الأدب المصري الدكتور أحمد خالد توفيق أول ما يربطك بهذه المدينة بكل خصالها، أو كما صوّر لنا نقيضها تمامًا.. الديستوبيا.
تلك المصطلحات ليست نبع ثقافةٍ ما أو مشتقة من مكانٍ ما كما يزعم البعض، لكن الأمر وما فيه يعود لأم كل المصطلحات التي عرفتها البشرية: “العقل البشري”.
وأقرب تصوير ومثال لهذا التطوُّر حكايات حيّ بن يقظان لابن طفيل، والتي بدأ ابن سينا قبله سردها، وهي تحكي عن حيّ بن يقظان الطفل الذي ترعرع على يد ظبية حسبته ابنًا لها، ورعته سبع سنواتٍ حتى ماتت، وهنا تبدأ رحلة العقل البشري التي تتمثّل في حيّ بن يقظان بالنمو عن طريق تجربة الحزن والألم، ومحاربة جهله لسبب الوفاة، فحتى عندما شقّ جسدها لم يجد ما قد يعيدها له، فتفهّم أنّ شيئًا أسمى وراء تلك الأعضاء هو الذي غاب. وحتى لا نستفيض في طيّات الحكايات، فهنا تبدأ رحلة حيٍّ بالنضوج، حيث يبحث عمّا وراء المرئيّات، يرى الخبيث من الطيِّب، وهو ما يُميِّزه كإنسان، فيستطيع تكوين نظرته الفلسفيّة عن الكون، لم يحتج حيٌّ إلى لغةٍ أو نقاشٍ ليرى الكمال في هذا الكون، لم يلزمه سوى الإنصات للفراغ ذاته، لرؤية الكمال.
وعلى نفس الوتيرة أنشأت البشريّة كلّ ما هو مشابه لليوتوبيا، فالعقل البشري كلما تعمّق في الخلق رأى أسوأه، وتمنّى له أفضله. فاليوتوبيا ليست إلا انعكاسًا خياليًّا للديستوبيا التي رآها البشر، تضادًا مؤلمًا بالطبع، لكنه ولّد جمالًا أنبت بطبعه العديد من الأعمال الفنية والأدبية على مر التاريخ. ولكن، أئن تمكّنّا من سرد هذا التصوُّر في أعمال أدبية، أيمكننا إذًا سرده واقعًا؟
هنا نقف جميعًا متعجبين ملامين ملومين، فكأننا نهوى ما نكتب فنسرده خيوطًا ذهبيّة، لكن لا نملك منه في واقعنا شيء. وكما رُوي لنا عن حيّ بن يقظان، الذي هوى في أعماق تصوُّفه، ورأى أن بالحياة ما هو أسمى من المرئيّ منها، فلم يستطع أن يُري أحدًا آخر معه شيئًا، فترك الكل في دينه وشعائره التي لم تكن بكافيةٍ له بتاتًا، وسعى في مسعاه حتى انقضى زمانه. وهذا ما يفعله المستنيرون منّا، يرون الفضيلة والقيم كما يجب أن يكونوا، فيسردونها قصصًا، يرون الحق واضحًا، فيُصوِّرونه لوحاتٍ متروكة لغبار التاريخ. لم أستهزئ بدور الفن يومًا، لكن ما قد يكونه المصطلح إن لم يكن له وجود؟ لماذا يكتب التاريخ أسماءً إن لم يولد أصحابها؟ عَجبٌ عُجاب!
قد يكون الأمر مستحيلًا أن نحيا في جمهورية أفلاطون يومًا ما -أو بالأحرى يتوجّب عليّ حذف “قد”-، لكن لم يكن هناك عائقٌ بين الفضيلة والفرد يومًا، فقولك الحق في وجه الباطل ليس بعمليّةٍ انتحاريّةٍ كما يحسبها البعض، بل يُفترض به أن يكون هو الأمر الطبيعي ومناصرة الباطل هو الشاذ. كما أن كونك إنسانًا ذا مبادئ تدعوك لاحترام الأكبر سنًا أو مساعدة من هو أقل منك حيلةً أو رفض عملٍ ليس لأحدٍ منه صالحٌ إلا نشر الفساد ليست أعمالًا تشي بكونك هائمًا في ظلال العالم القديم ولم تتحضّر بعد، بل يتوجّب لذلك أن يكون هو أصل التحضُّر.
أتعجّب لقومٍ ينشرون الفساد وينعتون المبادئ بالخرافات ويستهوون الكذب ويناصرون الباطل ويُثبِّطون كل حالمٍ ويعرقلون كل مستنير.. ثم ينتقلون لمواقع التواصل الاجتماعي للكتابة عن يأسهم من هذه الديستوبيا وحلمهم الذي لن يفارقهم عن اليوتوبيا خاصتهم. يفترض بهذا أن يكون قد تمّ وصفه وصفًا دقيقًا كحالةٍ حرجةٍ في أحد كتب الطب النفسي.
وختامًا، لن تقوم اليوتوبيا يومًا ما دام هناك هذا الذي تُنبت أحلامه أموالًا في الغرب وآخر تنبت أحلامه آلامًا في الشرق.. كما أن تلك الفروق لن تسقط يومًا مهما عزمنا على إسقاطها، لكن، اليوتوبيا بمعناها المرن، القابل للتحقيق، هو أن تكون بشرًا ليس إلا، أن تُعلي شأن كل ما هو إنساني وتُثبِّط كل ما هو خارق لإنسانيتك، وهنا لن نجدها مفهومًا نروي عن شبيهه أحد القصص لبيانه، فالإنسانيّة لا توجد اصطلاحًا إلا في أصل كل ابنٍ لآدم، وطالما آمنت أن الساعي في أعماق ذاته قد ينال يومًا شرف اليقين من كونه إنسانًا فاهمًا لما يعنيه لقبه.