الخلية الماكرة ودهاء عقل الإنسان “لمن الغلبة” جزء 3
بعد فهمنا المبسط لبعض الركائز التي تعتمد عليها الخلية السرطانية لمواصلة العيش رغم ”المعيقات” التي تواجهها، سنتطرّق اليوم لردّة الفعل الناتجة من العقل البشري الذي لم يستسلم لحظة واحدة في مواجهتها ومحاولة القضاء عليها مرارًا وتكرارًا .كما أنّنا أوضحنا بصورة صغيرة ”الذكاء” الذي تمتاز به هذه الخلية، لكن ليس علينا الاعتقاد بأنّ ذلك يعني أنّ كلّ محاولة من العلماء سيكون مصيرها الفشل أمام هذا الكائن .
بل العكس، فإنّه بعد كل مواجهة سواءً كانت انتصارًا أو خسارة، يخرج فيها الطبيب بأفكار وفرضيات تفيد في بناء أسس جديدة للخطوة القادمة، إضافةً للأمر المهم، ألا وهو اتّضاح مفاهيم أكثر للخلية العادية أيضًا، لأنّ العقل البشري يفهم أكثر عندما يظهر المعنى و”نقيضه”، النعمة والنقمة ، الخير والشرّ، فما معنى كلمة خير لو لم تكن هناك أشياء شرّيرة؟ أو في الأصل هل سيتشكل هذا المعنى؟ كذلك يتّضح فهم أعمق للخلية العادية عبر دراسة نقيضتها ومحاولة كشف اختلافاتها، وهكذا يستخلص العالم الآلية التي يعمل بها النوعين العادي وغير العادي، ويعد ذلك سبيلًا في الفهم.
كشف الخطة التمويهيّة التي تقوم بها الخلية السرطانية:
في الجزء الثاني شرحنا الطريقة التي تقوم بها الخلية السرطانية في محاولة لتفادي الاحتكاك بالخلية المناعية، وهي طريقة تعتمد على تعبير بعض البروتينات على الجدار الخلوي كي ترتبط بمستقبلاتها على الخلية المناعية وبذلك تمتنع هذه الأخيرة عن الهجوم والقتل .
بعد إدراك العقل لهذه الآلية الحيوية الماكرة وبتطبيقه للقاعدة العقلية التي تقول أن إبعاد العلة يعني نفي إمكانية وجود أثرها، قام العلماء بالتفكير في حلّ، وذلك عبر استهداف علّة ”التمويه” ألا وهي البروتينات CD47 كمثال لذلك، هذه البروتينات المستعملة من طرف الخلية السرطانية بداية استهدفها العلماء افتراضًا أنّ لها تدخّلاً ، وذلك عبر علاج فئران بمضاد الأجسام مضاد CD47 , والنتيجة كانت ارتفاعًا لقدرة الخلية البلعمية على قتل الخلايا السرطانية بل وفي حالات أخرى أدّى العلاج لشفاء الفئران .
إضافة إلى أن العلماء أيضًا ركزوا على الناحية الأخرى التي تستعملها الخلية السرطانية ( وضحناها في المقال الثاني) حيث قامو بكبح البروتين LILRB1 الذي يرتبط ببروتين MHC1 الموجود بالخلية السرطانية , فلوحظ أنّ هاتين العمليتين أوقفتا نمو الأورام السرطانية لدى الفئران، كما أنّ ذلك أدّى إلى رفع معدل احتكاك الورم السرطاني بالخلايا المناعية وتكون النتيجة صِغرًا في الورم ، وهذا كان تدريبًا في المختبر من أجل تطبيق هذه المهارة الجديدة على العدوّ الموجود في الجسم ، بعد أن تمر بالمراحل المتعددة إلى أن تصبح معتمدة.
كيفية مواجهة المقاومة السرطانية:
أعطينا مثالا ” لمقاومة ” الدواء أو الجزيئة المضادة من طرف الخلية ، والكيفية التي تعتمدها ، أما في هذا المقال فسنعطي مثالا لطريقة رجح العلماء أنها فعالة لتعطيل هذه المقاومة ” الماكرة ”.
ذكرنا في الفقرة الماضية كيف أن الخلايا المناعية تقوم بعمل جيد عندما تستهدف بعض بروتيناتها و كذا بروتينات جدار الخلية السرطانية، مما يتسبب في صغر الأورام وهذا ناتج عن الفعالية ، هذا يجعلنا نستنتج أن بعض الخلايا المناعية تذهب في سبات أو إجازة عن عملها فيفقد الجسم أثرًا مهما في الدفاع عن نفسه ، وفي هذه النقطة بالضبط تساءل العلماء حول المنهجية التي ستوقظ الخلايا الدفاعية المناعية من سباتها وذلك عبر معرفة العلل ( مثل التمويه الذي أشرنا إليه) ، فوجدوا أنّ هناك جزيئة تتدخل كثيرًا عندما يحدث التفاعل المناعي مسببة بذلك تراجعًا للخلايا المناعية ، تسمى هذه الجزيئة بالأدينوزين (التي لها عدة أدوار أخرى) فتقوم هذه الجزيئة بخفض نشاط بروتين جداري يسمى KCa3.1 وهذا جعلهم يصلون لاستنتاج أن رفع نشاط هذا البروتين الجداري يعني رفع قدرة الخلايا المناعية “تي” القاتلة على الهجوم و نسف الخلايا السرطانية رغم تواجد المركب ، وبإدماج الجزيئات المنشطة لهذه البروتينات مع مثبطات مناعية أخرى، سيتم تشكيل مركب فعال ضد الأورام.
كشف المزيد من حيل الخلية الماكرة:
من الواضح أن القوة التي تعرف بها الخلية السرطانية في الوسط العلمي دليل على أن لها الكثير من الحيل ، وبالتالي، نجد العقل البشري ينمى تساؤلاته ما أمكن كي يضع احتمالات ويتأكد منها ، ويكشف أمورًا جديدة، وهنا سنورد حيلة تستعملها الخلية السرطانية لتقاوم هجمات ( العلاج الكيميائي ) العقل البشري .
ففي مرحلة الورم الخبيث ( الورم الذي بدأت خلاياه تنتشر في أعضاء الجسم) لسرطان الثدي، تقوم الأورام بالتواصل مع الخلايا الآكلة osteaclasts للعظم هذا التواصل يجعلها تقوم بتدمير العظام بشكل أكبر( يشكل وضع خلل في التوازن بين الخلايا البناءة للعظم والآكلة)، كما يجعل الخلايا البناءة للعظم osteaoblasts تقوم بحماية الخلايا السرطانية من العلاج الكيميائي بل بتعبير حرفي، تقوم بالاختباء، وهذا كان من أكبر التحديات للعلماء، لكن اكتشافهم لجزيئة الدرع Jagged1 بين الخلايا السرطانية وخلايا العظم أدى لخطوة عظيمة، لأننا كما أشرنا ( أن اكتشاف العلة ونزعها يعني نفي تواجد أثرها ) في الفقرات السابقة، اكتشاف العلة ( جزيئة الحماية) سيمكن من ايجاد منهجية لنفي ”الأثر ”، والمقصود هنا نفي ”عملية الإختباء ” .
وتمت تجربة مضاد الأجسام15D11، لفصل شبكة الحماية بين الخلية الماكرة والخلايا السليمة ، فكانت النتائج جيدة ,إضافة إلى أنّ لمضادّ الأجسام هذا تأثيرًا على الخلايا التي لها تعبير مرتفع لجزيئة الحماية أو الخلايا ذات التعبير المنخفض على سواء، وهذه نقطة إيجابية مضافة، كما قام العلماء بتجربة العلاج الكيميائي مع الجزيئة على الفئران، فأظهرت النتائج فرقًا كبير مع نتائج العلاج الكيميائي وحده، وصغر الورم في العظم ب 100 مرة، حيث كانت هذه النتائج مذهلة .
عندما ندرس عمل هذه الخلية ومجهودات العلماء، نشعر أنها معركة حقيقة ، و كلمة معركة هي وصف لشيء مهم سنبرزه في الأسطر القادمة.
لا بد أنك كقارئ لاحظتَ كيف تطرقنا لهذا الموضوع العلمي لكن بشكلٍ مبسّط كثيرًا ، مبتعدين قليلاً عن مصطلحات أهل الاختصاص وذلك لنصل معًا لاستخلاصات عديدة بسهولة كبيرة، وكان استخلاصنا الأول، أنّ حلول العقل البشري معظمها حلول نسبية، تحاول معالجة الظاهرة بأكبر قدر ممكن من الفعالية ،ويرجع ذلك للورقة الأخيرة أو المصطلح الأخير الذي وددنا الكشف عنه في آخر جزء، ألا وهو ” التعقيد ” فتعاطي العقل البشري للمشكلة أو للظاهرة من زاوية واحدة ، يعطي نسبيًّا غير كاملًا ، لأن النظر منها وحدها يعني اكتشاف حيّز من الإشكال فقط، وهذا يدفعنا للإستخلاص الثاني، أنّ الإنسان بمعرفته لعدم كماليته ، يكون هذا دافعًا للبحث أكثر للوصول للدقّة التي يتمنّى أن يطلق عليها دقّة متكاملة ، ومن ملاحظتنا للجهود المبذولة نجد أنّ العالم يريد أن يصل للصورة الكاملة ، فلو بقينا في موضوع السرطان لوجدت عدة اختصاصات في العلوم الطبية والبيولوجية وأغلبها يعطي أسبابًا مختلفة لظهور الخلية السرطانية، وذلك من أجل الفهم التامّ لها، وبالتالي وجبت تنويع زوايا البحث .
إذن فقد خرجنا بخلاصة ثالثة ألا وهي أن الحلول المتواجدة لحد الآن ربما ليست فعالة 100% كما أن الخلايا السرطانية لها نقاط ضعف قاتلة لاحصر لها ، وهكذا من واجبنا النظر لهذا الكائن الحيّ على أنّه عدوّ ذو استراتيجيات ، والتحدي ضده عبارة عن معركة جدًا معقّدة.
وهنا نؤشّر لشيء مهم ، من هذه اللحظة من المفروض عليك أن تكثر من الأسباب التي تمنع التنقل من الزمن أ إلى الزمن ب ، فكما وضحنا ، تهييء الظروف والمتفاعلات ( الأسباب ) في الزمن 1 سيؤدي إلى ظهور النواتج ( الخلايا الماكرة ) في الزمن 2 ، لذلك على كلّ فردٍ منّا أن يحدّد منهاجًا و طريقة حياة يعتاد عليها 100% تجعل جسمه دائمًا متيقظًا لهزم هذه الخلية إن ظهرت، لأنّ عمل الّخلايا أيضًا ليس متقنًا 100% وتتواجد دائمًا احتمالية أخطاء قد تؤدي لهذه النواتج ، لذلك فلتحرص ولنحرص جميعًا على الإنتباه لهذه الأسباب وعدم ترك التفاعل يمضي فيما يريد ، بل أن نمنعه ما أمكننا ، وأن نواجهه بمناعة جسمية إن وقع أحيانًا.
لذلك ادرس استراتيجيتك من تغذية صحية تمامًا ، و تمارين رياضية مستمرة، راحة نفسية دائمة، تفاؤل ، بحث دائم عن جديد العلماء.. إضافةً للعديد من الأشياء التي عليك من الآن إدراكها، ولا بدّ أنّك الآن أدركت أنّ التعذية الصحية ليست كلمتين سهلتين اعتدنا السماع لها وبالتالي نتخلى عن تطبيقها ، هذا خطأ بل علينا في كل مرة تجديد الشعور بمسؤلية ذلك .
كما أنّ الناس الذين الآن في الزمن ب أو ج، وجب عليهم أن يدركو أنّ المواجهة ليست معتمدةً على العلاج الكيميائي فقط، أو على علاج من نوع واحد فقط، وإنما إلى جوٍّ كاملٍ وتفاصيل حياتية مغايرة تمامًا، وهذا كي تنفع هذه الحلول النسبية بفعالية تامّة قد تصل للشفاء في كثير من الحالات إن شاء الله ، وهذا منطق المعارك والحروب ، إذ لا يتواجد سلاح واحد فقط من يفصل في المعركة وإنما خطط وأسلحة نسبية متعددة إضافة للإرادة والعزيمة والإصرار والمثابرة ، فإذا ما تحققت هذه الشروط يتحقق النصر، كذلك التعافي ، وكان هذا ختامنا للجزء الأخير ، لنقول إنّ الجواب عن سؤال العنوان هو جواب متعلق بالشخص بشكل كبير .
تدقيق راغب بكريش