الجميلة روزيتا

من تكون روزيتّا؟

في نوفمبر من عام 1993، تمّت الموافقة على بعثة روزيتّا الدولية (The International Rosetta Mission) واعتبارها مشروعًا مهمًّا في برنامج آفاق 2000 للعلوم، التابع لوكالة الفضاء الأوروبية (ESA). ومنذ ذلك الحين، قام العلماء والمهندسون من جميع أنحاء أوروبا وأمريكا بجمع مواهبهم وخبراتهم لبناء مدار ومهبط لهذه البعثة الفريدة من نوعها، وذلك لسبر أغوار عوالم الثلج الصغيرة الغامضة وهي المذنّبات (Comets).

وفي مارس من عام 2004، أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية المركبة الفضائية روزيتا لاستكشاف المذنّب شوريموف غيرازيمنكو (Comet Churyumov–Gerasimenko)؛ والمعروف اختصارًا بالمذنب تشوري (Chury) أو(67P/T-G). وكان مقرّرًا في البداية أن يتمّ الإطلاق في يناير 2003، ولكن تمّ التأجيل إلى مارس 2004 بسبب فشل صاروخ أريان 5 في ديسمبر 2002. وبدأت المغامرة بتحليق صاروخ أريان 5 من كورو (Kouro) في غيانا الفرنسية.

وعلى مدى 10 سنوات سارت المركبة روزيتا عبر النظام الشمسي لمسافة تصل إلى أكبر من خمسة أضعاف المسافة بين الأرض والشمس، للوصول إلى المذنّب تشوري.

والجدير بالذّكر أنّ المركبة روزيتا تسمّى أيضًا “رشيد”؛ نسبة إلى حجر رشيد المُكتشف في مصر ودوره في فكّ طلاسم اللغة الهيروغليفية القديمة، أملًا منهم أن تكون روزيتّا سببًا في فكّ وفهم ماهية المذنبات ونظامنا الشمسي.

تاريخ البعثات الفضائية إلى المذنبات

وقبل الخوض في تفاصيل الرحلة، إليك ملخّص عن البعثات السابقة إلى المذنبات.

إعلان

1- المسبار(International Cometary Explorer): وتمّ إطلاقه في 12 أغسطس عام 1978، وكانت أوّل مركبة فضائية وصولًا إلى مذنب في الفضاء. وتعود هذه المركبة الفضائية لوكالة ناسا، وكانت في الأصل تعرف باسم ISEE-3 المستكشف الدولي للشمس والأرض، وبعد أن أكملت مهمّتها، جرت إعادة تنشيطها وتحويلها لتمرّ قرب ذيل المذنب Giacobini-Zinner، في 11 سبتمبر/أيلول عام 1985، وكانت أقرب نقطة اقتربت هذه المركبة فيها من المذنب تقع على مسافة 7860 كيلومترًا.

2- المسباران فيغا-1 وفيغا-2 (Vega-1 & Vega-2): أُطلق المسباران يومي 15 و21 ديسمبر الأول عام 1984، وترك كلا المسبارين الروسيين مركبة على سطح كوكب الزهرة، بعد مرورهما عليه في يونيو/حزيران عام 1985، وذلك من أجل فحص المذنّب هالي والتقاط صور له. وحققت “فيغا-1” الوصول إلى أقرب نقطة من المذنّب يوم 6 مارس/آذار عام 1986، حيث كانت على مسافة 8890 كيلومترًا منه. أما “فيغا-2” فقد اقتربت من نواة المذنّب إلى مسافة 8030 كيلومترًا يوم مارس 1986.

3- المسباران ساكيجاك وسويسي (Sakigake & Suisei): أُطلقا في 7 يناير و18 أغسطس عام 1985، ويمثّل هذان المسباران أولى بعثات الفضاء السحيق لليابان، وكانا يهدفان لاستكشاف المذنّب هالي في رحلته إلى النظام الشمسي الداخلي، عام 1986. واقترب المسبار Suisei إلى مسافة 151 ألف كيلومتر من المذنب هالي في 8 مارس عام 1986، لمراقبة تفاعله مع الرياح الشمسية؛ أما المسبار Sakigake فقد اقترب إلى مسافة 7 ملايين كيلومتر من المذنّب، في 11 مارس عام 1986.

4- المسبار جيوتو (Giotto): أطلق يوم 2 يوليو عام 1985، ويعدّ أوّل بعثة لوكالة الفضاء الأوروبية في الفضاء السحيق، وحصلت هذه المركبة الفضائية على أقرب الصور التي التقطت  لمذنّب من قبل. وحلّق المسبار جيوتو بالقرب من نواة مذنّب هالي على مسافة أقلّ من 600 كيلومتر، في 13 مارس عام 1986.

5- المسبار ديب سبيس-1 (Deep Space-1): كان هذا أّول مسبار لناسا في برنامجها للألفية الجديدة. وأطلق في 24 أكتوبر الأول عام 1998، وكانت مهمّته الأساسية اختبار 12 تكنولوجيا متقدمة جديدة. وفي مهمّة طويلة في أعماق الفضاء، واجه المسبار المذنّب “Borrelly” في 22 سبتمبر عام 2001، وحصل على كثير من الصّور والبيانات العلمية الأخرى، وتقاعد هذا المسبار في 18 ديسمبر الأول عام 2001.

6- المسبار ستارداست (Stardust): أُطلق في 7 فبراير 1999، وساهم هذا المسبار التابع لناسا في سحب كميات الثلج والغبار التي تحيط بنواة المذنّب “وايلد 2″، واقترب منه لمسافة 240 كيلومترًا في 2 يناير الثاني عام 2004، وقام المسبار بتجميع جزيئات من غبار المذنّب وسلّمها للأرض في عام 2006. وفي مهمّة طويلة، زار المسبارُ المذنّبَ “تمبل 1” في عام 2011، المذنّب الذي كان هدفًا لبعثة “ديب إمباكت”.

7- المسبار كونتور (Contour): أُطلق يوم 3 يوليو عام 2002، وكانت مهمّة المسبار كونتور التابع لناسا تحسين فهم العلماء لنواة المذنّبات، وكان مخططًا للقائه اثنين من المذنّبات. ظلّ المسبار في مدار حول الأرض حتى 15 أغسطس عام 2002، عندما بدأ في عمل مناورة للتحرّك في الصّعود إلى مدار مذنب لمطاردته، إلا أنّ وحدات التحكّم في ناسا أصبحت فجأة غير قادرة على إعادة الاتّصال بالمسبار بعد ذلك، وخلصت من ذلك الوكالة إلى أنّ كونتور قد فُقد في الفضاء.

8- المسبار ديب إمباكت (Deep Impact): أُطلق هذا المسبار التابع لوكالة ناسا في 12 يناير/كانون الثاني عام 2005، وكان يتألّف من مركبتين، المركبة الرئيسيّة نفّذت تحليقًا حول المذنب “تمبل 1” وسجّلت الصور والبيانات له. أما المركبة الثانية فتمّ الدفع بها إلى موقع على المذنّب في يوليو/تموز عام 2005. واستخلصت المركبة عينات من سطح المذنّب، ما سمح للمركبة الرئيسية بتحليل تركيبات سطح المذنّب ومكوّناته الداخليّة.

ما هي المذنّبات؟

تُعتبر المذنبات الأجسام الأكثر بدائية في النّظام الشمسيّ، ويعتقد العلماء أنّ المذنّبات احتفظت بسجلّ للعمليات الفيزيائية والكيميائية التي حدثت في المراحل المبكرة من تطوّر شمسنا ونظامنا الشمسي.
إنّ وفرة المواد العضوية في المذنّبات تجعلها مميّزة بشكل خاصّ، وتُعطي لها الأولوية عن باقي الأجرام السماوية. وتوضّح هذه الخاصيّة أنّ المذنّبات تشكّلت بعيدًا عن الشّمس وتمّ الحفاظ عليها في درجات حرارة منخفضة منذ تشكيلها؛ وبالتالي تمثّل الموادّ الموجودة على المذنّبات أفضل ما يمكّننا من الوصول إلى الظروف التي حدثت عند مولد الشمس ونظامنا الشمسي.
وتحمل المذنبات ، بالإضافة إلى ذلك، الكثير من الموادّ المتطايرة (Volatile Components). وتشكّل عمليّات الرّصد بالتليسكوبات، من الأرض أو من المدار الأرضيّ، الأساس لفهم هذه العوالم الصغيرة. ومن هذه الثروة من المعلومات الجديدة التي حصلنا عليها من تليسكوبات ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية وتليسكوب هابل، أصبح من الواضح أنّه لا توجد فروق بين الكويكبات والمذنّبات. إذ في الواقع، تُظهر الكويكبات البعيدة عن الشمس تشابهًا مع نُوى المذنّبات البعيدة، ويُعتبر تشيرون (Chiron) الكويكب الأكثر بعدًا، ويقع مداره خارج مدار كوكب زحل- عبارة عن نواة مذنب عملاق. وعلاوة على ذلك فإنّ المذنّبات قصيرة الأمد (ذات المدارات الأصغر والأسرع) ينبغي أن تتحوّل في نهاية المطاف إلى مذنّبات بعد استنفاد مكوّناتها المتطايرة. لذلك، فإنّ الفهم الأفضل للكويكبات والمذنّبات في جميع أنحاء نظامنا الشمسي هو خطوة أساسية للكشف عن المراحل الأولى من تشكّل الشمس وما يجاورها.

وقد تمّ تصميم بعثة روزيتا خصّيصًا لإجراء تحقيقات فعليّة عن المذنّب تشوري وما يجاوره، وسوف يوفّر الهبوط على منطقة مختارة من المذنّب معلومات عن الخصائص الكيميائية والفيزيائية لتلك المنطقة.

أهمية دراسة المذنّبات

يعتقد البعض أنّ المذنّبات هي التي أحضرت المياه إلى سطح الأرض بالإضافة إلى بعض الموادّ العضوية، كما يعتقد البعض الآخر أنّ المذنّبات جلبت اللبِنات الأساسيّة للحياة على الأرض منذ حوالي 3.9 مليار سنة.

وتتمثل أهمية دراسة المذنّبات في:

  1. تُقدّم المذنبات أدلة عن تكوين وعمليّات تشكُّل الكواكب العملاقة في نظامنا الشمسي.
  2. ولمّا كان من المعتقد أنّ المذنّبات جلبت الحياة إلى الأرض فإنّ من أهمّ أهداف دراستها هو التعرّف على مدى تواجد هذه المواد والمياه على المذنّبات ومدى مماثلتها للتي على الأرض. وهذا الاعتقاد يقودنا إلى التساؤل؛ هل نحن عبارة عن بقايا مذنّبات؟
  3. اعتبار المذنّبات مأوى للموادّ الخامّ المعدنيّة اللازمة لبناء الهياكل في الفضاء، وهي غنية بالهيدروجين السائل والأكسجين؛ وهما من المكوّنات الأساسية في وقود الصواريخ.

وفي يوم من الأيام ستكون المذنّبات بمثابة محطّات تزويد المركبات الفضائية بالوقود.

وبدأت الرحلة

وانطلقت المركبة في مارس 2004، من فرنسا صوب هدفها المنشود، وستشمل رحلة روزيتّا فترات طويلة من الخمول تتخلّلها فترات من النشاط المُكثّف، ولذلك فإنّ ضمان أمن المركبات الفضائية من مخاطر السّفر عبر الفضاء السحيق لأكثر من عشر سنوات هو أحد التحدّيات الكُبرى التي تواجه بعثة روزيتّا.

وبما أنّه لا توجد وسيلة لإرسال المركبة مباشرة إلى المذنّب المطلوب بالسرعة المطلوبة، يستغلّ العلماء قوى جاذبية كلّ من كوكبَي الأرض والمرّيخ لتقوم بدفع المركبة وزيادة سرعتها.

قد يعجبك أيضًا

وكانت روزيتّا أوّل بعثة فضائية تتخطى حزام الكويكبات اعتمادًا فقط على الخلايا الشمسيّة لتوليد الطاقة بدلًا من المولّدات الحراريّة التقليدية، وتسمح تكنولوجيا الخلايا الشمسيّة الجديدة، المستخدمة على لوحتَي الطاقة الشمسية، والعملاقة التي يبلغ طولها 14 مترًا، بالتقاط ما تستطيع من أشعّة الشمس لتوليد الطاقة، وبسبب بعدها الكبير فإنّ شدّة الضوء القادم يكاد ينعدم، حيث تبلغ شدّته 4% من شدّته على الأرض، ولذلك قرّرت  وكالة الفضاء الأوروبية إيقافها مؤقتًا، ودخلت روزيتا في مرحلة سبات عميق.

مرحلة السبات

في مطلع يونيو من عام 2011 بدأ المشرفون على مهمّة روزيتّا الاستعداد لوضع المركبة في حالة السّبات من خلال سلسلة من الأوامر تؤدّي إلى إطفاء جميع الأجهزة على متن المسبار بما في ذلك وحدة قيادة المركبة والتي تتضمّن أنظمة التواصل وتحديد الموقع، باستثناء أجهزة الاستقبال اللاسلكية وأجهزة فكّ تشفير الأوامر وإمدادات الطاقة، من أجل الحدّ من استهلاك الطاقة والوقود وتقليل تكاليف التشغيل، وفي مثل هذه الحالات تدور المركبة الفضائية دورة واحدة في الدقيقة.

إيقاظ روزيتا

وبعد سبات دام 31 شهرًا، فقدت خلاله الاتّصال مع الأرض.. وعادت روزيتّا إلى الحياة مرّة ثانية في يوم 20 يناير عام 2014، حيث التقطت وكالة الفضاء الأوروبية إشارتها على بعد أكثر من 800 مليون كيلومتر عن الأرض.

وقال مات تيلور- أحد علماء المشروع- :نحن سنواجه تحدّيات كثيرة خلال هذا العام، فنحن نستكشف منطقة مجهولة حيث أنّني واثق أنّ هنالك الكثير من المفاجئات ستكون بانتظارنا، لكن اليوم نحن سعداء فقط بعودة المركبة والتحدّث معنا.”

موعد مع المذنب

وبعد ملاحقة لمدة عشر سنوات، استطاعت المركبة روزيتّا لقاء المذنّب تشوري، وتُعتبَر بذلك، أوّل مركبة فضائية في التاريخ ترافق مذنّبًا خلال دورته المدارية حول الشمس، حيث كانا يبتعدان عن الأرض مسافة قدرها 4.5 مليون كيلومتر، ويقتربان من الشمس بسرعة 55 ألف كيلومتر في الساعة. وقد قامت روزيتّا بعدّة مناورات في الفضاء للإبطاء من سرعتها قبل اللقاء مع المذنّب. وقد صرّح مدير عام وكالة الفضاء الأوروبية “جين جاكوي” بمناسبة هذا الإنجاز قائلًا: “بعد تسع سنين وأربعة أشهر وأربعة أيّام من السّفر باتجاه هدفنا، والدّوران أربع مرات حول الشمس وقطع 6.4 مليار كيلومتر؛ نحن سعداء بأن نعلن أخيرًا: نحن هناك! “

 وبيدأ هنا دور المسبار الفضائي فيلي(Philae) الذي احتضنته المركبة روزيتّا طوال هذه الرحلة.

المسبار فيلي (Philae)

انفصل مسبار الهبوط فيلي عن المركبة الأم روزيتا يوم 12 نوفمبر 2014 في تمام الساعة 08.35 طبقًا للتوقيت المنسَّق، وكانت روزيتا على ارتفاع 5،22 كيلومتر من نواة المذنب بي 67. وبعد الانفصال، كان المسبار فيلي يقترب من المذنّب بسرعة 1 متر/الثانية، ولمس سطحه بعد نحو 7 ساعات، في تمام السّاعة 15:34.

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2 مصدر 3
اترك تعليقا