تلسكوب جيمس ويب الفضائي: آلة السفر عبر الزمن

حين يجتمع الفضول والخيال والعلم والفن وهمّة العمل لسبر أغوار الزمن السحيق.

منذ لحظة ولادتنا نتأمّلُ العالمَ والأشياءَ من حولنا في دهشةٍ وفضول. تدبَّرَ الإنسانُ القديم في السماءِ، والأسئلةُ تتوارد في عقلِه فيما وراء ذلك السقف البديع، وسعى لسبرِ أغوار الفضاء، يدفعه في ذلك حبُّ تطلعه، ومعرفة أصول الحياةِ ومكاننا في هذا الكون، فما كان إلا أن تمكَّنَ من اختراع عيونٍ تراقب الفضاء، وترسل الصورَ للأرض لجمع البيانات وتحليلها؛ لتساعدنا على الوصول إلى كلِّ ما وصلنا إليه اليوم، وما زال الطريقُ أمامَنا طويلًا.
التلسكوب هو أداةُ الرصدِ التي مكَّنت البشرية من تحديد مكانها في الفضاء السحيق، ومراقبة ما يحدث حولنا على مستوى المجرة، لكن هذه الأداة ظلَّت ضمن حدود الإمكانيَّات العلمية والتكنولوجية التي وصل إليها البشر في زمنٍ معين. وفي حين أننا مدينون لمقرابِ هابل بجُلِّ ما نعرفه اليوم، غير أن الطموحَ البشريّ والتطورَ التكنولوجي المستمر يتجاوز إمكانيات هابل؛ لذلك تستعد ناسا لإطلاق أقوى تلسكوب على الإطلاق، والأكثر تطورًا، وهو تلسكوب “جيمس ويب” الفضائيّ، والذي سيمكننا من السفر في الزمن إلى الوراء، وتحديدًا إلى المراحل الأولى من الانفجار العظيم؛ لكي نتمكّن من تعقُّب لحظة تكوُّن وتطوُّر أولى المجرات.

تلسكوب جيمس ويب هو مشروع تعاونٍ بين الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية، وقد بدأ إنجازه منذ قرابة 30 سنة، بكلفةٍ تجاوزت قرابة 10 أضعاف ما تمَّ التخطيط له. تم تعطيل إطلاق هذا المقراب في العديد من المناسبات؛ وذلك نظرًا لارتفاع تكلفته، وبعض المشاكل السياسية والصعوبات التقنية. وقد تم أخيرًا تأجيل موعد إطلاقه من مارس (آذار) إلى 31 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري.

من هو جيمس إدوين ويب؟

جيمس إدوين ويب (1906-1992) مدير وكالة ناسا لفترة الممتدة من 1961 إلى 1968.
جيمس إدوين ويب (1906م-1992م) مدير وكالة ناسا لفترةٍ ممتدّة من 1961م إلى 1968م.

تبدأ الفكرة بحلمٍ يُجسَّد على أرض الواقع. واعترافًا بالجميل لعلماء خدموا العلم وقدموا الكثير للبشرية؛ سُمِّيَ مقراب جيمس ويب الفضائيّ نسبةً إلى “جيمس إدوين ويب”، الذي تولي رئاسة إدارة الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) خلال برنامج أبولو (1961م-1968م). ساعدت مهارات وخبرات جيمس أدوين ويب السياسية والإدارية على دعم برنامج أبولو، بعد أن تعهَّدَ الرئيسُ الأمريكيّ جون كيندي بإرسال رجلٍ إلى القمر قبل حلول عام 1970م فيما يعرف بالسباق الفضائي مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. لم يتوانَ إصرارُ جيمس إدوين ويب على نجاح المهمة وتحقيق الحلم الأمريكي، خصوصًا بعد الفشل الكارثي لأبولو1 (1967م)، والتي أدَّت إلى حتفِ ثلاثة رواد فضاء، والعراقيل التي واجهت أبولو11، لتنجحَ الولايات المتحدة الأمريكية أخيرًا، ويصبح نيل أرمسترونغ أول رجل تطأ أقدامه القمر، وتنقل القنوات الإخبارية مقولته الشهيرة: “إنها خطوة إنسان صغيرة، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية”. ويُعتَبَر مقرابُ جيمس ويب الفضائي قفزةً أخرى عملاقة في تاريخ التلسكوبات والبشريّة.

ما الذي يميز تلسكوب جيمس ويب الفضائي عن سابقيه؟

خلافًا لمقراب هابل والمقراب سبيتزر والمقراب تشاندرا، يُعتَبَر تلسكوب جيمس ويب الفضائي ثورةً تكنولوجية؛ نظرًا لتميُّزِه بمجموعةٍ من الخصائص التي تُعتبَر الأولى من نوعها في مجال صناعة التلسكوبات. المقراب مزوّد بمِرآةٍ مكوّنة من 18 جزءًا، تظهَرُ كخليةِ النحل، قطرها الإجمالي 6.5 متر، كما أنها مطليّة بطبقةٍ رقيقةٍ من الذهب؛ لعكس أكبر قدر ممكن من الأشعة تحت الحمراء، وهي سابقة من نوعها أن يُطلَقَ تلسكوبٌ إلى الفضاءِ يحمل مِرآةً بهذا الحجم. ترتبط نجاعة التلسكوب وقدرته على التقاطِ تفاصيل المنطقة المُسلَّط عليها بحجم الضوء المُجمَّع، والذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحجم المرآة، كما أن ويب سيكون أول تلسكوب عملاق يتموقع بعيدًا عن مدار الأرض فيما يعرف بنقطة نقطة لاجرانج 2 بمسافة 1500.000.00 كيلومتر، وهو مزود بشراعٍ بحجم ملعب تنس ومتعدد الطبقات، تم تصميمه لحماية أجهزته العلمية من أشعة الشمس.

مقراب جيمس ويب

إعلان

بفضل رؤيته للأشعة تحت الحمراء؛ سيُكمِل مقراب ويب مهمة هابل ويوسِّع مجالَ اكتشافاتنا العلمية. وبفضل تغطيته لطولٍ موجي أعلى وحاسيسته الدقيقة؛ سيمكِّننا هذا التلسكوب من العودة بالزمن، وبإلقاءِ نظرة عن كثب لبداية الكون. ترتكز مهمة تلسكوب جيمس ويب على أربع نقاطٍ أساسيّة:

  1. دراسة نشأة أولى الكواكب والنجوم في الفترة التي تلي مباشرةً عصر الظلمات.
  2. تحصيل فهم أعمق عن ولادة أولى المجرات وتطوُّرها.
  3. البحث في تكوين النجوم وأنظمة الكواكب.
  4. استكشاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية، ومحاولة تعقُّب أي أثرٍ لبصمة حيوية لحياة خارج كوكبنا.

"صورة

ما هي الأشعة تحت الحمراء؟

الأشعة تحت الحمراء هي نوع من الطاقة الإشعاعية التي تنبعث من جميع الأجسام في هذا الكون، تصدر هذه الطاقة في صورة حرارة بدرجاتٍ متفاوتة، ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. كمثالٍ حيّ، يعمل جهاز التحكم بالتلفاز بالأشعة تحت الحمراء التي تشكِّل جزءًا من الطيف الكهرومغناطيسي، ويشمل بدءًا من الأقل إلى الأعلى تردُّدًا: موجات الراديو، وأشعة الميكروويف، والأشعة تحت الحمراء، والضوء المرئي، والأشعة فوق البنفسجيّة، والأشعة السينية، وأشعة غاما.

هناك العديد من الأسباب العلمية التي تجعلنا في حاجةٍ إلى تلسكوب يمكنه رصد الأشعة تحت الحمراء، منها دراسة نشأة أول النجوم والمجرّات البعيدة جدًا، والتي نشأت نحو 200 مليون سنة بعد الانفجار العظيم، لدرجة أن الضوءَ المنبعث منها تَمدَّدَ إلى الأشعة تحت الحمراء فيما يُعرف بظاهرة “الانزياح نحو الأحمر”، كما أنه يُمكِّنُنا من اختراق سحب الغاز والغبار الكونيّ لرؤية ولادة الكواكب والنجوم داخلها ورصد الأهداف الأكثر برودة، بالإضافة إلى دراسة العناصر الكيميائية والجزئيات في الغلاف الجوي للكواكب خارج المجموعة الشمسية.

صورة هابل لجبال سديم كارينا من خلال الرصد بالأشعة تحت الحمراء (يمين الصورة)، ورؤية الضوء المرئي (يسار الصورة).

مقارنة بين مقراب هابل وتلسكوب جيمس ويب:

تلسكوب جيمس ويب

نحن ممتنُّون إلى مقراب هابل في كلِّ ما نعرفه اليوم، لكن الطموح البشري والتطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه يتجاوز إمكانيته؛ لذلك يُعتَبر مقرابُ ويب ثورةً تكنولوجيَّة، وربما يعتقد البعض أنه التلسكوب البديل، لكن الأصحّ قوله هو أنه خليفة هابل، والفضل كله يعود إلى تلسكوب هابل الذي يُعَد المحفز الأساسي لأسسِ المهمّةِ العلمية التي تم إنشاء خليفته من أجلها. وتكمُن الاختلافات الرئيسية بين المقرابين في النقاط التالية:

الحجم
ويب مزود بمرآةٍ قطرها الإجمالي 6.5 متر؛ ممّا يعطيه أكبرَ مساحة لتجميع الضوء من أيِّ تلسكوبٍ موجود حاليًا، بينما قطر مرآة هابل 2.4 متر، وحجمه 13.2 متر، أي ما يعادل تقريبًا حجم شاحنة مقطورة كبيرة. لجيمس ويب واقي شمسي يُشبِه الشراع بطول 22 متر وعرض 12 متر، أي تقريبًا بحجم ملعب تنس، وهذا الشراع مصمّم لحمايته من درجات الحرارة القاسية والظروف المتطرفة للفضاء. سيكون لويب مجالُ رؤيةٍ أكبرَ بكثير من كاميرا هابل الحالية التي ستغطي ما يقارب أكثر من 15 مرة من المساحة، ودقةٌ تفوق نظيره مقراب سبيتزر الفضائي الراصد بالأشعة تحت الحمراء.

مقارنة تقريبية لحجم المرآتين الأوليتين لتلسكوب جيمس ويب الفضائي وتلسكوب هابل بالنسبة لحجم الإنسان.

المدار

يدور تلسكوب هابل الفضائي حول مدار الأرض، على ارتفاع 570 كم تقريبًا، بينما لن يكون جيمس ويب في مدار الأرض، بل فيما يُعرَف بنقطة لاجرانج2، والتي تبعد عن كوكبنا بحوالي 1.5 مليون كيلومترًا. ويأتي هنا دور الواقي الشمسي الذي سيحمي ويب من الضوء المنبعث من الأرض والقمر والشمس، ويعمل على تعديل درجة الحرارة، والذي يُعتَبر أمر هام بالنسبة للتلسكوبات التي ترصد الأشعة تحت الحمراء. وبما أن هابل متمركزٌ في مدارِ الأرض فقط؛ فقد تم إطلاقه لأولِّ مرة على متن مركبة فضائية، كما تمَّ إدخال بعض الإصلاحات في خمسِ مهماتٍ من قِبَل مهندسي ناسا، أما ويب سيكون بعيدًا جدًا عنَّا بحيث أن إمكانية إرسال مهندسين لإصلاح أي عطبٍ فنيّ تُعَدُ أمرًا مستحيلًا -حاليًا-، وسيتم إطلاقه على متن صاروخ أريان 5.

تلسكوب جيمس ويب
تتميز نقاط لاجرانج الخمسة بقدرتها على الحفاظ على تموقع التلسكوبات دون استهلاك الكثير من الطاقة؛ لأن واحدة منها هي نقاط توازن بين قوتي جذب لكتلتين.
المسافة بين كوكب الأرض وكوكب الشمس 150 مليون كم؛ مما يستغرق ضوء الشمس للوصول لكوكبنا حوالي 8 د و17ث.
تمركُز هابل حول مدار الأرض بمسافة تعادل 570 كم، أما نقطة لاجرانج 2 حيث سيوضع ويب فهي موجودة على بعد 1.5 مليون كم؛ مما سيستغرقه حوالي 30 يوم للصول إلى نقطته المنشودة.

رصد الضوء

تركيز هابل الأساسي هو رصد الطيف المرئي والأشعة فوق البنفسجية، كما يمتلك القدرة على رؤية الأشعة تحت الحمراء القريبة على مستوى ضعيف، على عكس جيمس ويب الذي صُمِّمَ خصيصًا لرصد الأشعة تحت الحمراء التي تنبعث من المجرّاتِ البعيدة جدًا، مما يعني أنه لا يمتلك خاصية رؤية الأشعة فوق البنفسجية والضوء المرئي.

رصد المسافة

نعم، التلسوكوبات هي آلات سفر عبر الزمن، إذ أنه كلما كان الجسمُ بعيدًا في الفضاء، كلما نظرنا إلى الماضي؛ وذلك لأن الضوء من الأجسام يستغرق وقتًا للسفر. هذا مذهل صحيح؟ وما يُعدُّ رائعًا ومحمِّسًا حقًا هو أن جيمس ويب سيسافر بنا في الزمن، تحديدًا إلى لحظة نشأة أولى المجرات، وهذا يعود إلى قدرة مقراب جيمس ويب على رصد الأشعة تحت الحمراء. ولفَهمٍ أعمق يمكننا التحدُّث عن النظرية العامة لآينشتاين، التي تُفيد بأنّ توسع الكون ما هو إلا تمدُّد المسافة بين الأجسام (المجرات)، وأن هذا التوسُّع هو المسؤول الأساسي عن تباعد هذه الأجسام، وبالتالي ينجم عن هذا تمدُّد الطول الموجي للضوء، مما يمكِّننا من رؤية الأجسام البعيدة جدًا رؤيةً باهتةً أو شبه مستحيلة على قِصَر الطول الموجي للضوء المرئي؛ إذ يصل إلينا ضوء نشأة المجرات الأولى في شكلِ أشعةٍ تحت حمراء، ولهذا يُعتَبَر تلسكوب جيمس ويب التلسكوب المثالي لرصد أولى المجرات.

مقارنة بين تلسكوب جيمس ويب ومرصد هرشل الفضائي:

تلسكوب هرشل الفضائي هو تلسكوب فضائي لوكالة الفضاء الأوروبية، ويرصد الأشعة تحت الحمراء والأشعة الكهرومغناطيسية دون الميليمتر، وهو متمركز كذلك في نقطة لاجرانج2. تمَّ إطلاقه في 14 ماي (أيار/مايو) 2009م، ليكون أكبر تلسكوب راصد للأشعة تحت الحمراء في الفضاء حتى الآن (قبل إطلاق جيمس ويب). ويكمُن الفرق الأساسي بين تلسكوب ويب وتلسكوب هرشل في رصد الطول الموجيّ للأشعة تحت الحمراء، إذ أن ويب ينتقل من 0.6 إلى 28.5 ميكرون، بينما ينتقل هرشل من 60 إلى 500 ميكرون.

تلسكوب جيمس ويب ومرصد هرشل

بفضل حساسيته الدقيقة للمجال القريب من الأشعة تحت الحمراء، سيمكِّنُنا ويب من اكتشاف حياة أولى المجرات التي تشكَّلت قريبًا من الانفجار العظيم وبداية الكون، في حين يركِّز هرشل في مهمّتِه على المجرات التي تشهد عملية تشكُّل نجمي نشطة جدًا، والتي تنبعث معظم طاقتها من خلال الأشعة تحت الحمراء البعيدة، كما أن مرآة ويب أكبر (6.5 متر) من مرآة هرشل التي يبلغ قطرها 3.5 متر.

تُعتَبر التلسكوبات عين الإنسان على الكون وآلة سفره عبر الزمن، ليفكّ أسرارَ هذا الوجود، ويسخِّر معارفه واكتشافاته لطموحٍ إنسانيّ وشغفٍ لا ينضب، وليحلّ ألغازَ الحياة حوله. كما أنها جسرُ مدٍّ بين ما نعرفه وما نطمح لمعرفته. ربما للإنسان حدود فيزيولوجية، لكن لا حدود لفضوله وطموحه وخياله وإنجازاته، ولا حدود لدهشته التي تجعله في سعيٍ دؤوبٍ لينهل من نهر العلم المزيد، وهذا ما يجعلُ الإنسانَ كائنًا صغيرًا بخطواتٍ عملاقة.

المصادر:

https://www.franceculture.fr/emissions/la-methode-scientifique/james-webb-space-telescope-le-nouvel-observateur
https://www.jwst.nasa.gov/content/about/comparisonWebbVsHubble.html

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ألفه المناعي

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا