التناص في ديوان “أول العرفان” للشاعر مرسي عواد
مرسي عواد هو شاعر مصري ومترجم ومدرّسُ الأدب المقارن بجامعة بورسعيد. تجمعُ أشعاره بين الموهبة والدّراسة الأكاديمية حيث إنه حاصل على دكتوراه في موسيقى الشِّعر الإنجليزيّ والعربيّ. إذن الدكتور مرسي ليس بشاعر هاوٍ بل يكتبُ الشّعر عن معرفةٍ عميقةٍ بقواعدِ نظم الشعر.
ويجمع عواد في ديوانه بين ألفاظٍ قرآنيّة ومفاهيمَ إنجيليّة، أو نظرياتٍ فلسفيّة ومصطلحاتٍ أدبيّة وعلميّة، ولكونه مدرِّسًا للأدب المقارن، فهو يجمع بين الثقافتين العربيّة والإنجليزيّة، وهذا يظهر جليًا في ديوانه “أوّل العرفان”.
التناصُّ هو الإشارة إلى حقيقيّ أو متخيَّل، سواءٌ أكانَ شخصا أو حدثًا أو عملًا أدبيًّا، أو مصطلحًّا، يَرد صراحةً أو ضمنًا؛ لإيصال معانٍ عديدة ولإظهارِ التأثير المتبادلِ في مُختلفِ النصوص. النَّاقد الفرنسيّ -رولان بارت- يرى أن:”كلَّ نصٍ هو نسيجٌ من الاقتباسات والمرجعيّات والأصداء”(أحمد الزغبي, التناص نظريا وتطبيقيا, ص. 9). والتناصَّ يجعلُ السطور شائقة، ويوحي بسعة إطلاع الشاعر، ويفسح للقارئ مجالًا واسعًا للتنقل بين أروقة أفكار الآخرين.
يفتتح الشاعر”مرسي عواد” كلَّ قصيدةٍ بمقولةِ/ إبيجرافيا وهذا تناص مباشر يضيف مرجعيّة لكلِّ قصيدة ويزينها.
يظهر التناص في عنوان أوّل قصيدةٍ في ديوانه بعنوان:”تفاحةُ المعنى”، والتي يشيرُ فيها إلى التّفاحة التي أكلها آدم. وتنعكس ثقافة الشاعرِ الإسلامية، فنجده متأثرًا بالألفاظ والأفكار القرآنيّة،يقول:
هَوْنًا على الأرضِ (ص9)
هذا السطر مستوحى من آية في سورة “الفُرقان” معنى ولفظًا :
“وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا”الآية 63.
يبدو أن مرسي عواد يؤكد تواضعه؛ حتى لا يحدثَ التباسٌ عند افتخاره بنفسه في بقيّة القصيدة
تظهر روعة التواشج التناصي حين يشبّه “عواد” نفسه بالنبي، تلميحًا للفكرة الأنثروبولوجيّة/ الرومانتيكية للشاعر باعتباره نبيًّا، وهذه الإشارة منسوجةٌ بأسلوبٍ قرآنيّ. لذا يمكن أنْ نطلقَ على هذا النوع من التناصّ؛ التناص المزدوج، حيث يعكس الشقُّ الأول منه أسلوبا يقرب إلى أسلوب الآية القرآنية، أمّا شقه الثاني فهو فكرة أنثروبولوجيّة، يقول:
أنا النَّبيُّ الَّذي
ما آمنتْ معَه إلا
الحروفُ الَّتي
والألسنُ الَّلائي
(ص9)
في سورة هود:
“وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ”، آية 40
وهذا التناصّ القرآنيّ عن قصد، وليس مجرّد تأثر بالأسلوبِ اللغويّ، ولا سيّما افتتاحُ هذا البيت بكلمة”النبيّ”، فالشاعر يشير ضمنيًّا إلى النبي نوح، وبالنسبة للشق الآخر يوظف “عوّاد” فكرةَ أنّ الشاعرَ نبيّ، ورسالته هي الشعر. والعلاقة النبويّة-الشعريّة قديمةٌ قدم البشريّة نفسها. لكنّها أخذتْ شُهرتها منذُ العصر الرومانسيّ بأوروبا في آواخرِ القرنِ الثامنِ عشر حيثُ اعتبرَ عدة شّعراء وقتئذ أنفسَهم أنبياءً.
في العصور الغابرة دُعي الشعراءُ أنبياءً.
-شيلي
شاعر إنجليزي رومانسي
والشاعر هنا نبيّ من طرازٍ فريد، فليسَ له أتباعٌ من البشر، بل أتباعه الكلمات والمعاني، فهو نبي المعنى.
يستخدم الشاعر ألفاظًا دينية مثل “كفرت” “ابتدعتْ” “أؤمن“؛ ليعبّر عن النهجِ الذي اتخذه لحياته، فهذه المصطلحاتُ توحي بأنّ “المعنى” الذي يسعى إليه في حياته بمثابةِ عقيدةِ مُخلص لها. أي أنّ “عوّاد” يبحث عن شيءٍ آخر لم يعرفه أبآئه، قائلًا:
كفرتُ أمسِ بيومي
فابتدعتُ غدي
وجئتُ أؤمنُ بي…
بي.. لا بآبائي
(ص10)
يقول الشاعر أنه “آدم” الوحيد، وهو “أوَّلُ الدُّنيا وآخرُها” مظهرًا افتخاره بنفسه، وتجرّأه على ارتكابِ الخطيئة، ولكنها خطيئة محمودة، وهي قطفِ “تفاحة المَعنى“. إذن هو”آدمٌ من غيرِ أخطاءِ” .
في قصيدة ومن أوّل الشّوق
نجوتُ من كل طوفانٍ نُذِرتُ لهُ
إلَّا عيونكِ
…
نزلتُ من جبلٍ يستعصمونَ به
وجئتُ وحدي
بلا (نُوحٍ) ولا فُلْكِ
(ص78)
يؤكد الشّاعر تفرّده، وهنا ذكرٌ صريحٌ للنبيّ نوح والفلك مما يعطي تناغمًا مع الإشارة الضمنية لنوح في “تفاحة المعنى“.
تفرُّد وشجاعة الشاعر تعتبر فكرةً رئيسةً ظاهرةً في أكثر من قصيدة فهو الوحيد الذي نجا من الطوفان، ومن هلاك سدوم ونزل من الجبل، وهو الذي قطف التفاحة و الأخير الذي صار أولهم.
تأثُّر “عوّاد” بسورةِ مريم واضح في قصيدة “4/15″، فعلى غرار دعاء النبي زكريا ليهبه الله ابنًا، يحكي الشاعر كيف كانت تدعو أمُّه إلى الله حتى يهبها ابنًا نبيًّا، يقول:
أمي
تُؤذّنُ للحياةِ الآنَ
(حَيَّ عليَّ حَيّ)
يا رَب، هَبْ لي مِن لَدُنْكَ
نداؤنا أبدًا خَفِيّ
(ص. 108)
في سورة مريم:
“هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ”، آية 38
ووالدة الشاعر تدعو في الخفاء:
“نداؤنا أبدًا خَفِيّ”
الدعاء خفي في حالة النبي زكريّا أيضًا:
“إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا”،آية 30
ويقول الشاعر:
السلام على أبي
وعلى ملايين الجياع
وعليَّ يومَ وُلِدتُ…ويومَ أموتُ
وفي سورة مريم:
“وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا”، آية ١٤
هذه التعالقات النصيّة توحي بالفكرة الأنثروبولوجيّة وهي ربطُ الشّعر بالنبّوة التي كرّرها “عواد” في قصائدٍ عدّة.
راجع كتاب ( Poetry and Prophecy by Chadwick ).
تظهر براعةُ الدكتور مرسي عواد في كيفيّة تنقّله من الجو الإسلامي إلى الجو المسيحي الذي تجلّى واضحًا ليخلق تمازُجًا من كلا الثقافتين في روح القصيدة وكما سنرى أيضا هنا يشبّه تضحيته ورضاه ببرجه بتضحية السيّد المسيح على الصليب ليفدي البشرية “حبًّا”. وبرج الشاعر هو ” الحمل” لذا يرمز إلى المسيح
قالتْ ليَ الأبراجُ
كن حَمَلًا
….
قالتْ
كما ضحَّى المسيحُ الحيُّ حُبًّا
فاستحَيتْ
وعلى صليبِ الحب
أرضَيتُ المشيئةَ
(ص. 109)
إنجيل يوحنا
“وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ”
1:29
توجد قصيدة معنونة “آية من سفر رؤيا” وهنا إشارة صريحة لأحد أسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس. واختيارٌ مُوفقٌ للمقولة التي يفتتح عوّاد بها هذه القصيدة؛ لأنّ لهذا السّفر مسمًّى آخر وهو أبوكاليبسيس التي يعني حرفيًّا كشفُ الحِجاب
“مَن عرفَ الحجابَ، أشرفَ على الكشف”
النفري
واختيار الدكتور مرسي لهذه المقولة يعني تعمُّقًا في فهمِ ما يكتبه وانتقاءه له بحصافة، مما يعطي قدرًا أعلى لكلماته، ورونقًا لها
في قصيدة نافذة لصباحٍ يتنفس، يستحضرُ قصيدةَ فتاةِ الخدرِ للشاعرِ الجاهليّ “منخّل اليشكري”:
ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير
ويكتب عوّاد:
دخلتُ الخِدْرَ
أكشِف(للمُنَخَّلِ)
عن (فتاةِ الخِدْرْ)
(ص.19)
أجواءٌ صوفيّة تعمّ أروقة قصيدة ناقذة لصباح يتنفس، كما يستحضرُ الشاعر القصّة القرآنية للنبيّ موسى والخضر والعلم الّلدني، يقول:
كجَدي الخِضْرِ
لم يَصبِرْ لهُ موسى
كجَدي الخِضرْ
(ص. 20)
لم يذكرْ الشّاعر صراحةً العلم اللدني لكنْ في السّطر التالي يشير إلى الماء، ومن المعروف أنّ الماء هو رمزُ العلم الإلهي/ اللدني عند الصوفيّة، يقول:
بماءِ الرَّمزِ
عَمَّدْنا مُريدينا
(ص. 20)
هذا التناصّ ينمّ عنْ حذقِ الشاعر فهو ينتقلُ بسلاسةٍ من تناصٍ إسلاميّ وصوفيّ إلى تناصٍ مسيحيّ وإنجيليّ في إشارته إلى المعموديّة وهي طقسٌ مسيحيٌّ أساسيّ،
الشق الأول من التناص مستوحى من سورة الكهف:
“فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا”
الشق الثاني مستوحى من:
أنا أعمدكم بماء للتوبة
متى 11:3
عنوان قصيدة عوّاد “الخروج من تنويمة الجياع”، يُعد تنويعة من عنوان قصيدة محمد مهدي الجواهري تنويمة الجياع ويبدأُ عواد قصيدته بوضع أوّل بيتٍ في قصيدةِ الجواهريّ على هيئةِ إبيجرافيا، وهذا تناصٌ مباشرٌ كما ذكرنا آنفًا. هذه القصيدة هي إضافةٌ لما قاله “الجواهري” تبعًا لما قاله إليوت إنّ التراث الأدبي نهر متدفق حيث الحديث يؤثر في القديم والعكس صحيح.
يوظّف الشاعر صورتين من التناصّ واحدا تلوَ الآخر: إنجيلي وعلميّ
كانَ ”مِلحُ الأرضِ“ مِن أسمائهم
واحتباسٌ ما حراري
أذابا
(ص. 122)
فهو يشير إلى التعبير المذكور في الإنجيل على لسان السيد المسيح
“أَنْتُمْ مِلْحُ ٱلْأَرْضِ، وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لَا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلَّا لِأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ ٱلنَّاسِ”.
متى 13:5
“ملح الأرض” فسدَ حقًّا بفعلِ “الاحتباسِ الحراريّ”، وذكْره لهذا المصطلح يُعتبر تناصًّا علميًّا. إذن تعبير ديني قديم يتناغم مع مصطلح علميّ حديث؛ لرسم صورةٍ رائعة مترابطةٍ تعبّر عن حال الجياع.
يستحضر “عواد” قصة هلاك سدوم وعمورة ليظهر نجاته وتفرّده عن الجمع. وهنا استخدم اللفظ التوراتي”السدوميين”، لا القرآني “قوم لوط”.
ما زالَ فُحشُ (السَّدُومِيين) يمكُرُ بي
حتَّى خرجتُ ب (لوط) الطُّهرِ
فانسحَقوا
(ص. 172)
الدكتور مرسي عواد يثري ديوانه أيضًا بإحالات من التراث العربي. تارة يكتب قصيدة تدورُ حولَ “الحلاج” وتارةً أخرى يذكرً كتابَ الطبقاتِ لابن سلام الجمحي ويلمّح إلى رابعةَ العدويّة.
ولا تقفُ سعةُ إطّلاع الدكتور مرسي عند التراث الديني والعربيّ بل تشملُ المفاهيم والنظريات الأدبيّة المعاصرة
ما زال العالَمُ متَّسعًا
لقصيدةِ حب خالصةٍ
لا يعرفُ شاعرُها (فاليري) و”الشعرَ الخالصَ
والفارقَ بينَ حداثةِ (رامبو) النَّابضةِ
وطَنْطَنَةِ النَّاقدِ وجُمودِ النَّقدْ
ً(ص. 181)
يشير عواد إلى الشاعر الفرنسي “بول فاليري” ونظريته الشعر الخالص/ النقي وتأثيرِ الشاعرِ الفرنسيّ “أرثر رامبو” على أدبِ الحداثة ليوضح أن الشّعر يمكن أنْ يعبّر عن الحبّ بكل بساطةٍ بعيدًا عن حذلقة المُفسّرين وتكلّف المُنظرين.
يستمد من مقولة للكاتبِ الإسبانيّ “لوركا” عنوانًا لقصيدته “في شرفة لوركا“، ويضع المقولة نفسها على هيئة مقولة افتتاحيّة/ إبيجرافيا لنفسِ القصيدة
يشير عواد أيضًا إلى مصطلحات فلسفيّة معاصرة، يقول:
خطفتْ (آدمَ) أُولى الدَّهَشاتْ
نخلةُ الإيبستمولوجي يا التي
طرحتْ تفَّاحةً
لا بَلَحاتْ
(قصيدة كان يا ما كان، ص. 99)
استخدام الشاعر مرسي عواد لمصطلح الإبستمولوجيّ في حديثه عن آدم وخطيئته، حيث يجعل السّطور كأنها قراءةٌ لقصة الخلقِ الإبراهيميّة من منظورٍ فلسفي غربيّ حديث. و”الإبيستمولوجيا” هو فرعٌ فلسفيّ يدرس كل ما له علاقة بالمعرفة. لكن ما علاقةُ الإبيستمولوجيا “/المعرفة بآدم؟ استعاضَ الشاعر بعبارةِ معرفة الخير والشّر بهذا المصطلحِ الفلسفيّ، وهذا المصطلح يناسب المنهجَ الحديث لقراءة قصّة الخلقِ الذي يلمّح إليه الشاعر. هذا أيضًا “تناصُّ مزدوج” كما أطلقنا على هذا النوع المكرر كما ظهر في قصائده؛ أي أن توظيفَ عوّاد لهذا المصطلح هو تناصٌّ مباشر، يشير إلى فرعٍ فلسفي وتناصٍ غيرِ مباشرٍ يشيرُ إلى التوراة التي تصف هذه الشّجرة “بشجرةِ معرفة الخير والشر.
عُنوان قصيدة “الكتابة من تحت درجة الصفر”، مستوحى من عُنوان كتاب الناقد الأدبي “رولان بارت” وهو الكتابة في درجة الصفر، ويفتتح هذه القصيدة باقتباس من هذا الكتاب. ونجد إشارةً سريعةً لسفرِ التكوين (أوّل سفرٍ في التوراة) في قصيدة “سيرةٌ ليليّة لقط” حيثُ يشبّه الشاعر خلق الكون بخلقه شخصيًّا، فهو له سفرُ تكوينٍ خاص فهو مميز كما ذكرنا، ويشير إلى شخصيّات من العهد الجديد مثل يهوذا وهو التلميذ/ الحواريّ الذي خان السيّد المسيح. ويقتبس أيضًا نصًّا من إنجيل لوقا في قصيدة “قربان لقيامةٍ أخرى” والعنوان نفسه فيه إحالات مسيحية. ويوجد ذكر عابر لحواء في كان ياما كان والنبي يونس في شرفة لوركا.