التعلّم السياسي (مترجم)

بقلم: خوسه أنتونيو مارينا

السياسة هي النشاط المتوجِّه إلى حل المشكلات الناجمة عن التعايش بين بشر مختلفين ذوي رغبات مختلفة. فهي في جوهرها، إذن، تنازعية.

يوفر لنا التاريخ مخزونًا كبيرًا من الحلول الجيدة والسيئة. وتتحدث “نظرية الألعاب” عن ألعاب ذات محصلة صفرية (الفائز يحصل على كل شيء)، وألعاب ذات محصلة سلبية (المتنازعان خاسران)، وألعاب ذات محصلة إيجابية (الطرفان فائزان). وهذا الأخير هو ما ينبغي أن تسعى إليه السياسة، بشرط: على التطلعات المتواجهة أن تكون شرعية. وكما أن علينا دراسة الرياضيات من أجل حل المشكلات الرياضية، فإن علينا أن نطور ذكاءنا السياسي بغية حل المشكلات السياسية. عادةً ما تكون “المشكلات السياسية” معقدة وتتطلب فهمًا جيدًا لها، والترجيح بين المطالبات العادلة، وضبط النزاع، والبحث عن الحل الأفضل، الذي يجب أن يكون ذا محصلة إيجابية. وهذا هدف من أهداف هذا المقال.

من مرصد خارجي، يُرى التاريخُ بوصفه تسلسلاً من المشكلات ومحاولات حلها. ويضطلع علم تطور الثقافات بتوضيح  نتائج هذه الملاحظة. أحاول، بحماسة أكثر منه أملاً، أن يُدْرَجَ بوصفه مادة أساسية في نظامنا التعليمي. في كتابي Biografía de la humanidad، أظهرتُ أنه كان علمًا ممكنًا. وستتضمن هذه المادة تاريخ المشكلات الفلسفية والدينية والعلمية والفنية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والحلول التي وُجدت لها. وستكون ذاتَ فعالية تعليمية عالية لأنها ستستغل الوقت جيدًا بدمجها لمناهج عدة، وذاتَ فائدة عظيمة لأنها ستنمي الكفاءة الاجتماعية والتفكير النقدي. المشكلات مشتركة لدى البشرية جمعاء، لكن كل ثقافة قامت بحلها على طريقتها. والأطروحة التي تدافع عنها هذه المقالة هي أن المقارنة بين هذه الحلول المختلفة يمكن أن تحسّنَ من قدرتنا على مواجهة النزاعات وجعل المستقبل أكثر إشراقًا.

لقد سرني أن أرى توماس بيكيتي Thomas Piketty يصل إلى النتيجة نفسها في كتابه الأخير: «رأس المال والأيديولوجيا – Capital and Ideology»، حيث يقوم بتحليل عميق للديناميات السياسية.  إنه كتاب أوصيكم به، محذرًا من عقبة كأداء: 1233 صفحة من القراءة المكثفة. يعتبر بيكيتي أن تاريخ المجتمعات البشرية هو “تجربة جماعية واسعة”، ويكتب: “أنا مقتنع  أن من الممكن المساهمة في فهم أفضل للتغيرات الاجتماعية وذلك بالمقارنة الدقيقة لتجارب تاريخية آتية من بلدان ومناطق ثقافية مختلفة”. المهم هو الاستفادة من التجربة، الأمر الذي يتطلب عملًا ومنهجًا. أهلًا بكم في النادي.

تُعْنَى السياسة بالمشكلات التي تؤثر على المدينة la polis. أما غايتها فهي -باستخدام عبارة تنويرية جليلة-  بلوغ  “السعادة العامة”، أي تلك الحالة التي يكون فيها جميع المواطنين في ظروف جيدة للعمل على مشاريع السعادة الخاصة بهم. إحدى تلك المشكلات، بلا شك، هي الوصول إلى السلطة وحدودها والتداول السلمي لها.  وذلك ما تقوم الديموقراطية بحله، وهذا كاف. لكنّ نظامًا ديمواقراطيًا لا يستطيع أن يضمن وحده ما يكفي من البصيرة والمعلومات والموهبة من أجل حل جميع المشكلات الباقية. من أجل هذا ينبغي أن تتمتع بسلسلة من الخصائص التي تحولها إلى “ديموقراطية حكيمة”. إن الولايات المتحدة الأمريكية هي، من دون شك، بلد ديموقراطي لكن بعض الأشياء التي نراها تسمح لنا بالشك بحكمتها السياسية. فهل لدينا في إسبانيا “ديموقرطية حكيمة”؟

إعلان

لزيادة القدرة على حل المشكلات -بلوغ الحكمة- على المجتمع بأكمله أن يتعلم فعل ذلك. على السياسيين أن يتعلموا وعلى المواطنين أن يقوموا بذلك أيضاً. لدى دراسة الثورة الفرنسية، يلفت الانتباهَ القدرة على التعلُّم عند أعضاء الجمعية الوطنية. فإبان الدعوة إلى مجلس طبقات الأمة في 1789، ذهب الأعضاء الممثِّلون إلى باريس من أجل اتخاذ قرار بشأن الضرائب فقط. وبدون إخطار مسبق وجدوا أنفسهم يضعون دستوراً حمل معه، إضافة إلى ذلك، إعلان حقوق الإنسان والمواطن مقدمةً له. كان عليهم أن يتعلموا على طول الطريق. كتب برتراند بارر Barère Bertrand في صحيفته Le Point du Jour -: “إن أحد المشاهد الأكثر إثارة لاهتمام فيلسوف هو ملاحظة التقدم السريع للحقيقة والعقل في الجمعية الوطنية“. وفي الرسائل التي أرسلها الأعضاء الممثلون إلى أُسَرِهم أو إلى ناخبيهم أكدوا على مدى حاجتهم آنئذٍ إلى مواجهة المشكلات النظرية والعملية ذوات التعقيد الكبير، التي لم يفكروا بها قط.

الانتقال الإسباني إلى الديموقراطية كان مثالًا للـ”الديموقراطية الحكيمة”. كان معلومًا ما كان يُرادُ الوصولُ إليه، وكانت معلومةً المخاطرُ والعقبات، وجرت المناورةُ في سبيل بلوغ الهدف، وهو الديموقراطية.

إن جزءًا من اضطراب اللحظة الراهنة يتمثّل في عدم امتلاكنا لهدف مشترك. والحديث عن “الصالح العام” هو تجريد قليل الجدوى عمليًا. في الواقع، إن الليبراليين الليبرتاريين libertarian liberals  ينكرون أن يكون لهذه الفكرة معنى. ووفقًا لنظرية الاستحالة لكينيث ارو Kenneth Arrow، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، عندما توجد  ثلاثة أو أربعة بدائل في التصويت، فلن يكون ممكنًا تصميم نظام للتصويت يمكنه الوصول إلى فكرة مشتركة عن “الصالح العام”. الأنظمة “الإجماعية” أو الشمولية فقط هي التي يمكنها الحصول عليه. هل يحكم ذلك علينا بـ “سياسة أهون الشرين”؟ سأكون أقل تشاؤمًا: إن ذلك يجعلنا مهيئين للقبول بالمُفَضَّل الثاني “second best”.

في علاقتنا بالمشكلات توجد ثلاث حالات محتملة:

  1.  توجد حلول فعالة وما ينبغي هو تطبيقها فقط.
  2. لا توجد أجوبة جاهزة والمجتمع يطبق واحداً من مرجعيته، وتكون فعاليته على المدى القصير فحسب. على سبيل المثال، إن حل مشكلة القوميات بوسائل قسرية يؤجل المشكلة فقط.
  3. على المجتمع أن يتعلم مواجهة التحدي الجديد. في هذا الوقت نواجه الكثير من المشكلات المتعلقة بالتقلب، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض. لا أحد يستطيع اختيار مشكلاته، وجميعنا ينبغي أن يواجه ما يمسه منها. علينا، نحن المواطنين، أن نتعلم ونتربى على ثقافة “الحل الذكي للنزاعات“.

تتحسن القدرة على التعلم في مجتمع ما عندما يكون لديه قادة مناسبون. يعتقد رون هايفز Ron Heifetz من كلية كينيدي هارفارد Kennedy Harvard School، أن القائد السياسي الحقيقي  يكون ضرورةً عندما لا تكون هناك وصفات للمشكلة المطروحة، ولا يعتقد أن على القائد أن يحل المشكلة، وإنما تكمن موهبته في تعبئة المجتمع للبحث عن حل لها. يشير إلى بعض الخطوات:

  1. تحديد التحدي الذي تتعين الاستجابة له.
  2. عدم التسرع: الحفاظ على الاستياء ضمن مستوى يمكن تحمله وبما يتيح العمل على الحل.
  3. تركيز الانتباه على عملية النضج وليس على تخفيف الضغط.
  4. دفع الناس إلى العمل، لكن بوتيرة يمكنهم تحملها.
  5. إسماع صوت من يطرحون التساؤلات ويشتكون من التناقضات الداخلية.

في كتابه قيادة بلا إجابات سهلة  Leadership without Easy Answers، يدرس حالات من هذا النوع من القيادة. إحداها هي الطريقة التي عالج فيها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قضية الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد سعى إلى تعليم الأشخاص على التعاون، واحترام كل واحد منهم لأهداف الآخرين. “أردتُ -قال جونسون- أن يشارك الأشخاص  ذوو الصلة في إدارتي بعدد كبير من الطرائق المختلفة. كانت كلمة السر هي التمكن من جعل الناس من جماعات مختلفة ملتزمين تجاه بعضهم البعض في لجان ومفوضيات كثيرة كانت تغطي مسائل عديدة، وأن لا يكون ممكنًا لأحد أن يكون خِلْواً من الالتزامات بشأن أية مسألة مفردة”.

أعود إلى بداية المقال. نحتاج إلى تطوير تعلمنا السياسي. لذا، من الضروري أن نفهم أن الحكمة السياسية تتمثل في معرفة أن الواقع الاجتماعي  تنازعي، لكن المشكلات يمكن حلها على نحو جيد أو سيء. إن للمادة التي حدثتكم عنها، أي علم تطور الثقافات، منهاجًا قائمًا على التعرف على المشكلات التي واجهتها البشرية، وتحليل الحلول، وتقييمها، ورفض السيء منها، والمضيّ في انتقاء الاستجابات ذوات المحصلة الإيجابية والاستراتيجيات التي يكسب فيها جميع الأطراف  win-win strategies.


نرشح لك: نعم، السياسة تجعلنا أغبياء.. لكن ربما هناك استثناءٌ لذلك

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: زياد الأتاسي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا