التسويق العصبي: رسالة إلى السحلية في رؤوسنا (علم النفس وأثره على الاقتصاد)
تدفع شركات مثل فودافون وأورانج المليارات لتجعلنا نختار “منتَجها” دون المنتَج المنافِس، كما لا يبخل السياسيون بملايينهم على حملاتٍ إنتخابية تسعى لجذب الناخبين تأييدًا لأحد المرشَّحين ضد المرشّح المنافس.
ولكي يتحقَّق الهدف، يعمل مُخطِّطوا حملات التسويق والدعاية على التأثير بشكلٍ فعَّال على اختياراتِ الجمهور المستهدف سواء كانوا مشترين أم ناخبين. ومن هنا تنبع أهمية علم التسويق العصبي الذي ساهم في الكشف عن الآليات العقلية غير الشعورية التي تسبِّب إقبالنا على الشراء (أو عدمه)، وقبولنا مرشَّح رئاسي أو رفضه، فالجميع في النهاية سلعة.
و لقد أثبتت بحوث التسويق وتحليلات نتائج الإنتخابات أنَّ أسلوب مخاطبة المنطق والعقلانية فقط لدى جمهور المشترين والناخبين يفشل في تحقيق هذا الهدف، وأنَّ النجاح الحقيقي لا يتحقَّق إلا بالتأثير على الأفكار والدوافع اللاشعورية التي تؤثِّر على قرار المشتري أو الناخب، وذلك من خلالِ مخاطبة “السحلية” في رؤوسنا أو كما يسمونَّه “المخ الزواحفي” (Reptilian Brain)، وسوف سنتحدَّث عنه تفصيلًا ضمن استعراضنا لجوانب علم التسويق السلوكي كما يلي:
ما هو التسويق العصبي؟
التسويق العصبي، هو تطبيقٌ لآخرِ ما توصَّل إليه الطب في دراسته للمخ البشري وأنظمته العصبية (neuroscience) على علم التسويق، لوضع نمطٍ جديد من الأساليب التسويقية للسلع والخدمات بما يحقٌِق مبيعاتًا أعلى من أساليب التسويق التقليديَّة.
لماذا التسويق العصبي؟
لأنَّ التسويق العادي قد أخفق في مهمته، ففي التسويق التقليدي، نحن نأتي إلى المستهلك ونسأله: ماذا تريد؟ وبناءًا على إجابته، نبني المنتج، و نبني استراتيجية لبيع هذه المنتج. ولكن بهذا الأسلوب عيب خطير فهو وبكلِّ بساطة يتمثَّل في أنَّ المستهلِك لا يعرف ماذا يريد. ولذلك يفشل التسويق التقليدي.
وفي التسويق العصبي، فإنَّنا بالفعل نسألهم ماذا يريدون، و لكننا لن نثق في إجابتهم، لأنَّنا نعلم بأنَّهم لا يعلمون، غير أنَّنا سنفحص أثناء إجابتهم التغيُّرات الفيزيولوجية التي تحدث داخل أجسامهم وأدمغتهم ، ونحدِّد تلك النقاط العصبية التي تتأثَّر بطبيعة المنتَج وسبل عرضه.
ما هي الأساليب التي يعتمد عليها التسويق العصبي ؟ :
يعتمد على أساليب “علم الأعصاب” (neuroscience) وهي القياسات العصبيَّة، والحيويَّة، والقياس النفسي لفهم السلوك الإنساني في كيفية إتخاذ القرار، مثل إختبار تحليل تعبيرات الوجه ، و”إختبار تتبع العين” و”إختبار التحليل الصوتي وكذلك إختبار كشف الكذب” وتحليل الـ”EEG” وهي ما يُعرف بـ”فحص التخطيط الكهربي للدماغ”.
هذا إلى جانب تقنيات متقدِّمة جدًا مثل إختبارات الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI.
ما الذي يدفع المستهلك إلى الشراء؟ وما الذي يجذب انتباهه في البداية ؟
طبقا لنظريتين من أهم نظريات التسويق العصبي (sales brain and triune theory)، فإنَّ “الجزء الزواحفي (reptilian brain) من المخ هو بوابة الإنتباه، وصانع القرار، ولو نجحت في جذب انتباه “السحلية ” التي بدماغ المشتري بإعلانك أو صفحتك ، فلقد نجحت -باحتمالات كبيرة -في بيع المنتج.
ووفقا لأبحاث علماء الأعصاب, فإنَّ المخ ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الأوَّل هو النيوكورتكس neocortex ، و هو الجزء الأحدث في المخ وفقًا لنظرية التطور حيث ظهر منذ 50 ألف سنة، و هو الجزء العاقل الذي يميِّزنا كبشر، و الثاني هو المخ الأوسط أو الجزء العاطفي الذي نشترك فيه تطوُّريًا مع الثدييات، و الثالث، في العمق إلى الأسفل يأتي المخ الزواحفي، و هو الجزء الغريزيّ الأقدم عند البشر حيث ظهر تطوُّريًا منذ 250 مليون سنة عندما كنّا نزحف على بطوننا كالزواحف.
يقول علماء الأعصاب أنَّ الجزء الثالث هو الأكثر قدرةً على التحكُّم في قراراتنا ، من الجزء العقلي، وأنَّ الشق الزواحفي هو المنتصر دائما، وأنَّ الـ amygdala وهي جزءٌ من المخ الزواحفي لها تأثيرّ كبير. وكما قال الدكتور دانيال كانمان الفائز بجائزة نوبل في الإقتصاد لعام 2002 أنَّه على الرغم من أنَّ الجزء العقلاني ( كما يسميه كانمان النظام 2)، وهو الـ neocortex يظن نفسه هو الكلّ في الكلّ، فإنَّ البطل الحقيقي هو ( النظام 1) ، أي المدعو بـ مخ الزواحف الذي هو بطل الرواية، وأغلب اختيارات الناس تتأثَّر به.
كيف نصل إلى العقل الزواحفي ونؤثِّر عليه؟
بالتأكيد لا نحتاج إلى تهديدِ حياة عملائنا لجذب انتباه “السحلية” بداخلنا، فهناك أساليبٌ تسويقية معيٌَنة يمكن إستخدامها لشدِّ انتباه هذا الجزء من المخ، والتي تتضمَّن مخاطبة مراكز الألم (pain points)، وأنانية الشخص وحُبِّه لذاته، والتركيز على نهايات وبدايات الإعلان، وإستخدام الصورة واللعب على الوتر العاطفي.
ولعلَّ أفضل شرح لهذه الأساليب يكون بالتطبيق العملي من خلال الأمثلة التالية:
1- الحياة كلها تحب الأطفال : ضع صورة طفل
يتصُّل العصب البصري مباشرةً بالعقل الزواحفي، ويعكس هذا قوَّة إثر المدخلات البصرية لأنَّها جزءٌ مهم من آلية بقاءنا أحياء. فالسحلية بداخل عقولنا تدرك وجود الخطر، ذئب على سبيل المثال، قبل الأجزاء الأخرى من المخ بفارقٍ أقل من جزء من الثانية، ومن ثم يتيح هروبنا قبل أن يتدبَّر الجزء الأمامي فيما نفعله. وعلى هذا فإنَّ الإعتماد على المؤثِّرات البصرية يمثِّل أسرع رسالةٍ تصل إلى عقل المشتري أو العميل، فأنتَ تخاطب السحلية قبل أيّ جزء آخر، وهي التي تلفت نظر بقيةِ أجزاء المخ بعد ذلك.
و يعرف العاملون في مجال إعلانات الشركات أنَّ الصورة الجيدة تساوي آلاف الكلمات، وأفضل الصور التي يمكن وضعها في إعلاناتك، هي على سبيل المثال، صورة طفل بأيِّ شكلٍ تريد. ويأتي ذلك وفقًا لكافة مسوحات المخ بالأشعة MRI، والتي تظهر نشاطًا غير عادي في مقدِّمة المخ وبالتحديد منطقة الـ cortex عند رؤية الأطفال، وهذا أحد ما ورثناه عبر مسيرة التطوُّر لحماية الأطفال، حيث تبدو وجوه الأطفال من كافة الكائنات محبَّبة لجميع الثدييات بما فيها الإنسان. ولكي تنجح الصورة يمكنك جعل الطفل ينظر إلى “المنتج الذي تعلن عنه”.
2-تخفيف حدة آلام الشراء
يشعر قطاع كبير من الناس عادة بنوعٍ من الألم النفسي عند الشراء، وينتابهم شعورٌ بالندم خشيةَ أن يكونوا خسروا أموالهم مقابل شيءٍ لا يستحق أو يمكن الاستغناء عنه، أو أنَّهم تسرعوا وكان من الممكن أن يحصلوا على أسعار أقَّل.
ولكي تتخطَّى هذه العقبة النفسية، على المسوِّق أن يجعل الأسعار تبدو أرخص، فـ على سبيل المثال بدلًا من بيع إشتراكٍ سنوي لأحد الصالات الرياضية (gym) بمبلغ 7200 جنيه، يمكنك تقديمه في صورة إشتراك شهري 600 جنيه ، أو الأفضل 20 جنيه يوميًا.
3- جذب حاسة الشم
نظرًا لأهمية حاسَّة الشم تطوُّريًا في استشعار المخاطر، فإنَّ التأثير على هذه الحاسَّة يؤدي إلى نتائج سريعة، ولقد بيَّنت التجارب التي أجريت على أحد محلات بيع أحذية “نايكي” أنَّ المبيعات زادت في المحلات ذات الرائحة الزهرية مقارنةً بالأماكن الخالية من الرائحة أو الرائحة الرديئة. ومن ثم يجب أن يتسِّم مكان البيع بطيب الرائحة دون الإخلال بالرائحة المميَّزة لطبيعة العمل نفسه مثل محلات بيع القهوة. أي يجب أن يكون هناك نوعًا من الإتسَّاق في الروائحِ مع طبيعةِ النشاط التجاري.
وتجسِّد شركة الطيران السنغافوري نموذجًا رائعًا للإتساق أمام جميع الحواس، فملابس المضيفات مثل علم سنغافورة، وحيث يضعن جميعًا نفس النوع من العطر مما يقضي على أيِّ تنافرٌ نظري أو شمي.
ختامًا، فإذا كان علينا ادراك أنَّ العقل بأكمله (بالأجزاء الثلاثة التي أشرنا إليها بعاليه) يلعب دورًا في قرارات المستهلك، فإنَّ المخ الزواحفي هو القوة الأكبر خلف كل قرار.
يجب على صناع حملات التسويق للسلع أو الخدمات، أو مدراء الحملات الإنتخابية مخاطبة هذا الجزء أولًا للتأثير بفاعليةٍ على الجمهور.
—————————————-
المراجع :
Neuromarketing: Is There a ‘Buy Button’ in the Brain? Selling to the Old Brain for Instant Success
Brainfluence: 100 Ways to Persuade and Convince Consumers with Neuromarketing