التجريد في التشكيل.. استجلاء (من الترنسندنتالي إلى البصري)
-الواقع حجاب دون الحقيقة، والفن فَتْقُه وهَتْكُه-
قبل حدث اللوحة، كان البياض. والبياض صمت وبوح في آن؛ سديم للبدء والنهاية. والبياض مجمع الكلم، فما بعده ما يقال. وهكذا هو حال صِنوه السواد. ومفتاحهما -حتمًا- البصيرة/العقل، لا العين. والبياض سليلٌ من السواد، كما السواد من البياض. وبالسواد صار النور نورًا. والبياض من السواد كالشجرة من البذرة/النواة، أو كالضوء من الطاقة. والضوء –بعد نفاده– يتحول راجعًا إلى أصله: “ظلمة الكون”. وفي نفس الآن: الضوء استجلاء للسواد؛ لما فيه، أو لبعض مما فيه. وفي البدء كان العماء؛ سواد ظلمة مع نواة، شكلت نطفة الانفجار وانقذاف النور. ثم انبلج العقل.
وبهذا يكون الأصل البصري للوحة البياض، وهي ممتلئة به باستفاضة. والبياض فراغ توهمي، فبفرط أفياض النورانية الغزيرة فيه، والوهج الكثيف، تحول إلى حجاب/ستار أبيض. “فكما ضوء الشمس في العين يعميها وينتزع منها خاصية الرؤية”، هكذا هو البياض. والبياض كالسواد؛ هما كذلك “غشاء بصري” مطبق، تتحجب خلفهما الحقيقة والجواهر وماهيات الوجود، والعدم والكون والذات. فالظلام -مثلًا- يتستر على كون/ وجود الأشياء ويخفيها عن الرؤية، فوجودها فيه لا يُدرك سوى عبر لمسها، أو بروائحها وبأصواتها. والفن توسل العقل والوجدان لاستجلاء هذه الحقيقة وسبر أغوارها بمعول العقل والفكر والتدبر، عبر الشكل واللون والتقنيات في فعل الإبداع/ التشكيل. فاللوحة/ المُبدَعة هي مسرح التجربة، والمغامرة الجمالية الكبرى للفن في خرق هذا البياض/السواد الأصلي المعتم، توقًا لفتق المبهم فيه وهتك أستار المتخفي المتواري الجواني، والمتستر المنفلت…إلخ. وبالتالي ما يلف اللوحة بصريًّا وتتسربل به من أشكال وألوان وحركات وخامات، ليس إلا ذاك الطموح الجامح، والتشوف الغريزي الأبدي للإنسان لاستكشاف واستشراف حقيقة ذاك المجهول، المجهول فيه؛ ذاك الذي يولد معه، يؤرق حياته تنغيصًا، ثم أخيرًا، يحمله معه هذا “الإنسان العقل” إلى الأبد… إلى المجهول المطلق، مجهول الذات “ذاته هو” ومجهول المآل…
الفنانون، من جهة، هم “لاهوتيو الأهواء”، “كهنوتيون”، “دجالون”؛ اشتغالهم في “السحر والغواية والتفتين”. في “سحر الوهم والتوهيم”. يصنعون ويصوغون وهمَ الأشياء ووهم الحقيقة. يخرجون اللامرئي إلى حيز المشاهدة، أو بالأحرى إلى حيز “وهم المشاهدة/ الرؤية”. “تواجديو” الطقوس والأحوال؛ منهم الليليون لا يتلألؤون سوى في العتمة والظلمة. متنسكون في خلواتهم عند محراب ذواتهم، يساءلون ويتساءلون ويستفسرون. متميزون، عبقريون، إشراقيون، ألمعيون. هم كالآلهة الميثولوجيين: “أبولو، وأفروديت، وإيروس”، خلاقون مستحدثون بطبعهم. وحدهم الفنانون –ومعهم الفلاسفة بالتجوز ومع الفارق- لهم الإمكان والقوة لخرق الواقع واستشفافه، وولوج المستعصيات، وغواية الوجدان. هم حلقة وصل بين “الغائب والحاضر”، وبين “المجهول والمعلوم”، و”اللامرئي والمرئي”؛ يشكلون “لغة مستقلة متنفذة” تشتغل بالتشفير والترميز والإحالة والتمثيل، تُفكُّ بها الألغاز وطلاسيم الأشياء والواقع. وتُستفرغ عبرها مطويات وخفايا الأسرار والحقائق. الفنانون تراجمة وخدام للحقيقة وللجمال واللذة والمتعة، هم المقتفون أثرهما والباحثون عنهما. لا فتور عن/في ذلك أبدًا. لذلك تكرسوا، فهم “لاهوتيو وكهنوتيو السجية “. يبدعون الجميل والفاتن، ويشعلون شمعة الأمل والحلم، والخيال والارتحال. يفتلون أواصر الإنسان بذاكرته الأزلية وكينونته. إنهم هائمون في الذات (ذاتهم)، يفكرون ويستفسرون ويجترئون ولا يتورعون. ذاك ديدنهم، فللحقيقة جذب مع فتنة، ومنع وتحير وحيرة، وغيبة بلا رجعة؛ “الفنانون دوما يمدون الحياة بالماء، لتعيش”. لذا قال نيتشه: “إننا لا نستطيع أن ننقذ أنفسنا من الفناء إلا عن طريق الفن”.
“الواقع حجاب دون الحقيقة، والفن فَتْقُه وهَتْكُه”
الفن ترجمة. والترجمة تحول ذات إلى أخرى، أي استبدال ذات أخرى بالذات “الأصلية”؛ لذا، ليس في الفن محاكاة بمعنى “الاستنساخ التمثيلي” الصرف، فذلك غير ممكن البتة، إذ الفن شأنه “الخلق الفني” لا المحاكاة، فليس له ذلك حتى لو أراد؛ إن إبداعه متخلل وممزوج بكثير من الإرادة والإضافة والتصويب والاستكمال، فضلًا عن العشق والفتنة، والتسامي (الترنسندنتالية) والاستدراج، والأمل والحلم. كما فيه حيز هائل وغائر من المكبوت والألم، والقلق الوجودي.. إلخ؛ فما تراه العين تابع مفتول بما نظنه ونتوهمه أنه هو كذلك. فإن “الأصل” واحد متوحد، له “الواحدية”، له وحده، لا مشاركة لغيره فيها. فالفن هو انبعاث الأشياء من “اللاموجود” إلى “الموجود” أي من ”اللاكون” إلى “الكون”. والفن توهيم وإيهام واستيهام، وقد أشار إلى هذا المعنى -وببلاغة نادرة- الفنان بول كلي في قوله: ” الفن لا ينتج المرئي (أي”المنظور/ الواقع” بمعنى “النسخ والمحاكاة”)، وإنما يحول “اللامرئي” إلى “مرئي” (أي يخرجه من الخفاء إلى عين المشاهدة والمعاينة)”. فقيمة الفن وقوته ليست في محاكاة الواقع الملحوظ -حتى لو تمظهر بمظهر “المحاكاة”، وهو أمر توهمي- وإنما في استخراجه واستدعاء ما خلفه، وخلف أحداثه وما يختزنه من أسرار. كما أورد ذلك المفكر والفيلسوف برجسون ضمن مؤلفه “الضحك” بقوله: “… إلى ماذا يهدف الفن سوى أن يظهر لنا -في الطبيعة وفي أنفسنا، خارجنا وفينا- الأشياء التي تضرب/ تصدم -ضمنيًّا- حواسنا ووعينا…”. وكل ذلك مصوغ بشكل بديع ممتنع ومثير حد المستحيل، يُفتتن بجماله وعبقريته “الفكر/العقل والوجدان” ويَشُد إليه رائيه شدًّا.
وفق المعجم اللغوي: التجريد معناه: تقشير، وتعرية، وتحييد، وإماطة، وإزالة…
و”شخَّص”: عيَّن وميَّز، حدَّد وتعرَّف على الشيء، ومَثّل المجرّدَ -الشّيءَ الجامد/الفكرةَ- في صورة حِسِّيَّة ملحوظة…
و”الكون” من معناه: الوجودُ المطلق، ما يحدُث دَفْعةً. وهو كذلك “الفَلك/ العالم”: أي جملة الموجودات مع الزمن..
التجريد كنه ذهني فكري خالص، وهو سابق لــ”اللاتجريد” أي سابق لــ”المُعرف والمعروف والمُعيَّن…إلخ”. والحال نفسه بالنسبة لــ”اللاكون”، إذ هو سابق للكون.
وهكذا، في البدء، كانت الأشياء لذاتها دونما أسماء وتسميات، إلى أن ظهر اللسان الإنساني/ العقل ليُصَيِّر الكون ويحوله برمته إلى أسماء، وتعيينات، وإحالات، ورموز، وإشارات، إلى غير ذلك… فأسبغ عليها وجودًا ثانيًا/ إضافيًّا/ أُنطولوجيًّا، فضلًا عن وجودها المادي العياني، أي وجود أسماء لا وجود أشياء. ويمكن التلميح في سياق فكرتنا هذه إلى ثنائية ”ذات اسم/ ذات مسمى” على أساس أن هناك وجودين: الأول لذات “الاسم”، والآخر لذات “المسمى” وهو الشيء المادي بعينه؛ وبالتالي هذا “الكون الانطولوجي” الإضافي قائم بــ”ذات الإسمية”، كما أنه واحد/ فريد لا نظير له، وهو كثرة في نفس الآن، إذ هو واحد/ فريد من حيث ”الشيئية والكنهية”، وكثرة من حيث التعيين “التسمية التعيينية والعينية”. فباعتبارنا لــ”الكون/l’être” كذات لذاتها، بمعنى الذات الشيئية والكنهية أي الجنس والنوع، فبالفرد نحكم عليه؛ أما إذا ما اعتبرناه على أساس ما يعطينا بتعدده وتضاعفه كـــ”واحد” أي ” كفرد وكوحدة جنسية “، وجعلنا لكل فرد مُحصَّل -ناتج عن هذا التعدد- اسمًا معينًا يخصه هو وحده، ليس لغيره من نظرائه ومماثليه، فحكمنا ههنا سيكون حكم كثرة. والأمر كمثل من له خمس نسخ من كراسيّ ملونة بخمسة ألوان مختلفة، فإن قال عنهم باسم “الذات الشيئية والكنهية ”، بمعنى ذات النوع/الشيء، أي “الكرسي”، وهو الاسم الشيئي “الإنّي”، فهنا قد حكم بالواحد/الفرد/الفردية؛ فأما إن قال عنهم بالتسميات/الأسماء التعيينية /” العينية”، وحدد كل كرسي بلونه الخاص، أي الكرسي الأحمر والكرسي الأخضر…إلخ، فيكون قد حكم هنا بالكثرة وذلك بتعداده خمسة كراسي، لا أشياء.
لذا، يمكن القول إن التجريد قد سبق التعيين، وبه يكون سابقًا للتشخيص والتحديد/ المشخص والمحدد (سبقت الإشارة إلى ذلك في متن السواد والبياض).
والتجريد -كذلك- هو كون بدئي، وجوهره قوة، له سلطة وسطوة فعلية، وله فاعلية التحييد والتجريد المسلطتان على “اللامجرد”؛ أي سلْخ المعين من تعيينه، وبالتالي تحييد وعيه بذاته، أي تلك المترتبة على “الوجود والكون المضافين إليه بقوة التعيين -كما أسلفا ذكره-“، ليتحول إلى “مجرد”، لا ارتباط/ مرجعية له البتة، حر طليق. واللامجرد/ المعين هويته وتدُه، وهو مرتبط باسميته التعيينية ربطًا وثيقًا أبديًّا لا فكاك منه؛ هي محبسه وسجانه، وهو عرضة لأنياب “اللاحرية/ الأسر”، كما أن فيه حيزًا وقدرًا من العوز والعجز عن الخلق المطلق، الحي واللامتناهي، فيغدو كونًا عالقًا/ أسيرًا بين دفتي الوجود واللاوجود. واللاوجود غير العدم طبعًا. و”اللامجرد/ المعين” يحمل ذاته وذات غيره، أي ذات “اسميته الشيئية” وذات “اسميته التعيينية” (مثال: كرسي/ كرسي أخضر، شجرة/شجرة تفاح)، فضلًا عما يجترانه من حيثيات وتوابع. و”اللامجرد/ المعين” يناظر، في وضعه هذا، المشخص في “الفن/التشكيل”، ذاك الذي تشكل “تشخيصيته” حاجبًا وحاجزًا صادًّا بينه وبين “التعبيرية المطلقة الممتدة والخصيبة المتخاصبة” –خلاف تلك التي يكتنزها المجرد وحده ويتمتع بها-؛ فــ”تشخيصيته” هذه تجثم واقفة أمامه، تتصدر واجهته حين حدث التلقي والانجلاء، والبوح والإفصاح، أي بَوْحه هذا؛ تحدُّة وتبعثره أشباحُ وصور التشخيصية والتمثيلية والمحاكاة (أي ما يشخصه وما يمثله وما يحاكيه). والمشخِّص والمشخَّص هما تحت حكم سلطة مدلول التشخيص -ما يشخصانه- مشدودان إليها عالقان لا يبرحانها كليةً مهما فعلا، رغم استجدائهما بسلطة ومعول التأويل ومناوراته.
وعليه، تكون سلطة التجريد قوةً نافذةً متنفذةً في مسرح الوجود منفتحةً عليه. كونها في ذلك، أن التجريد موجود في الوجود كذات من جهة، ومن جهة أخرى يقوم مقام المرآة تنطبع عليها الحقيقة وجواهر الأشياء، والماهيات والأسرار والممكنات… وكلها يستدعيها “فعل/ فاعل” التجريد وهو “العقل/ الفكر”، “الفن/ التشكيل”…
التجريد أوثق وأجدى من التعيين، لأن المعين محصور بتعيينه، وتعيينه حاجب له والمجرد حر طليق، يمتلك الزمان والمكان معًا، اختراقًا واستكناهًا، ذاته لذاته. لذا يكون التجريد/ المجرد أقرب وأوفر حظًّا، من الحقيقة، من التعيين/ المعين… والتجريد –كما أسلفنا الذكر- له الإرادة وقوة النفوذ والاختراق والفتق إزاء الكون “l’être/ الذات”، وإزاء الفكري، والممكن، والروحي والوجداني…إلخ.
كما أسلفنا القول، إن التجريد انسلاخ “الذات” عن الذات أي عن كل “الذوات الغيرية”، كما له وهج وبعد روحي صوفي بامتياز. فبفضل ما لهذا الأخير من سطوة وقوة الخرق، والنفاذ للجوهر، والاستغراق الروحاني؛ فقد شكل نواة الانبعاث والإشراق الإبداعي، وشكل الأس الأساس للفن الإسلامي بكل صنوفه، حيث اللب الروحاني والمقدس يشكلان غائيته ومنشط فلسفته.
وهكذا -ومن جهة أخرى- يكون التجريد كذلك تثبيتًا للذات الفردانية/ الواحدية -ذاته هو الكنهية-، ومحوا لذات الآخر أي المعين/ المشخص بالتسمية. ولا غرو ولا استغراب أن يكون التجريد/ التجرد شرطًا مبدئيًّا للسلوك التصوفي، ولا سبيل للراغب السالك/ المريد في ذلك دونه. وبه تُفْتتح الطريق وتهون وتتلاشى عقبات المسالك صوب ملكوت التسامي والتعالي والإشراق الوجداني ومحو “الإنّية والأنائية”/ الهوية. والتجريد يشكل العتبة الأولى في محراب التشوف والتشوق العرفاني الروحي، وهو بَيْنِيُّ الوضع بمقام برزخ رابط/ فاصل بين الجوهر/ الحقيقة وذات الكائن العارفة/ الإنسان/ العقل.
قال ابن عربي: “التجريد إماطة السِّوَى والكون عن الغائب والسر”. وقيل كذلك: ” التجريد نفي الأغيار”، أي نفي كل ما سواه، بما في ذلك أنت.
مناط المعنى والفهم هو الشك والسؤال (اليقين يبدأ بالشك، وبينهما المعرفة)، وقد أورد الفلاسفة والمفكرون بخصوصهما ما لا يحد من الكلام، وهما مطية المعرفة؛ بهما يكون الإنسان إنسانًا، وبهما تكتمل أفضليته وعليته، وفرادته من حيث مخلوقيته. والشك والسؤال كلاهما معدن/ مصدر طاقة الفكر وجوهر اشتعاله واشتغاله وانطلاقه، وهما لب الفكر؛ ينطلق منهما ويعود. وبهما يقوم ”كأداة” فاعلة منفعلة متفاعلة، “أداة” للإبداع والخلق، وإبقاء البقاء. والسؤال مدار فعل الإبداع لدى الفنان ومحور رحاه، وكشاف توجهه ومناره، ومعول فعله.
التجريد عبر “الفن/ التشكيل” مسبار للترجمة الخالصة عن الوجود وأسراره وجواهره، كما هو الأس لتلك الترجمة، والباعث لقوتها ومفعوليتها الفنية والمعرفية. والتأويل ترجمان للترجمة -من قبل ومن بَعْد- تابع لها كالظل لصاحبه/ باعثه. كما أن الترجمة “كناتج” في التشكيل، مادية بصرية الوجود. أما التأويل فذهني الكنه والفعل؛ يشتغل على ذاك الناتج البَعْدي، وقبله في استقراء “المُؤَول” (أصل انطلاق الترجمة أي “الواقع أو الحدث…إلخ.”).الترجمة والتأويل -القبْلي والبَعْدي- وجهان لعملة واحدة؛ لا تُستكمل إطلاقية المعنى والدلالة سوى بهما معا، وكلاهما يشتغلان كــ”لغة”. كما أن التأويل باب ليس له مصراع ، مشرع مُترَع، مفتوح على مطلق التحدث والتقول والكلام. و”القول الفصل” لا يقبله بل يرفضه ويطرحه، حيث التأويل لا ثبات له ولا استقرار؛ هو متغير متحرك على الدوام، هلامي الهوية، يتغير بتغير وضعه زمكانيًّا (وحضاريًّا، وسوسيوثقافيًّا، وسيكولوجيًّا، وفنيًّا، إلى غير ذلك)، كما هو صاحب عصره يتلون بلونه. فتأويل يومنا هذا قد لا يصلح لغدنا، بل حتى ينقضه ويصده ويهاجمه. هكذا يشتغل التأويل مند أزليته. ولهذا، فالتأويل كالنور الوهاج؛ يتدفق ويخترق كل الثقوب. أو كمفتاح مناسب لكل الأقفال…كل الأقفال.
من معاني التجريد في الفن -أيضًا- أنه هو الحيز المقفل الموصد، وهو المحظور عن كل تحديد، إذ لا هوية عيانية مانعة له، أي ليس له عين قبلي أصلي يستند إليه. وهو -بطبيعته- هارب، إذ إنه هو لذاته مطلقًا وليس له سليلية مرجعية تصويرية. كما أنه انسلخ من المحاكاة، ومن كل إحالات وارتباطات صورية طبيعية عينية تشده؛ أو رمزية عرفية تواضعية تقيده. وبالتالي؛ هو انسلاخ الكل عن الكل. غير أن التجريد في التشكيل -مع ذلك- يبقى صوريَّ الكون والحدث، من حيث إنه رؤيويّ بصريّ، عينيّ مُعْطَى للمشاهدة، أو بالأدق: ”مُعْطى للتفكر والتدبر دفعة واحدة” (فالفكر/ العقل هو الصائغ، المشكل الأصلي لما نراه ولما يريدنا أن نراه، وهو المُتَعرِّف وليس العين، بل هي التي تتبعه لا العكس).
يعتبر التجريد، ضمن عملية الإبداع التشكيلي، جوهرَ المحو والبدء (وذلك ضمن الجدلية الأبدية الثنائية: “وجود/ عدم”، “نفي/ إثبات”، “محو/ بدء”، ظاهر/ باطن”). والتجريد هو كذلك مِعول التنقيب؛ يبحث في المعنى والمبهم، وبه يتم الاستكشاف والاستجلاء في خبايا وخفايا “الماوراء”؛ أي مَنْفَد يُتَوَسَلُ به وعبره إلى استشراف تلك الحقيقة المفقودة والمتخفية، القابعة في المجهول، والمتسترة خلف سر “الذات الإنسانية” الأزلية المتعرِّفة، والطالبة والمريدة للمعرفة. من حيث أن الذات هي صورة انطباع الأصل/ معدن الوجود: أي محل التجلي (تجلي هذا الأصل)، تواقة ومتطلعة أزليًّا إليه -كما تبلور ذلك ضمن الثنائية الفلسفية الأفلاطونية في تناظر ميتافيزيقي بين ”الإنسان/ العقل والمثال/ الإله”.
والتجريد كذلك استشفافي بامتياز؛ فعلٌ “خارق مخترق” يشتغل على خلق المنعجم ووضع المغلق، وصياغة الاستفزاز والمفتز والجريء، من خلال تفكيك وخلخلة الاعتقاد والموروث، والوثوقيات والمسلمات والإيمان والوهم؛ أي يستحدث ويصنع الخام البدئي للفكر والإسقاطات والتأويلات الخصبة والمتجددة، تلك المتحركة والممتدة واللامتناهية زمانًا ومكانًا. والتجريد -والفن التشكيلي عمومًا- توأم اللغة/ اللسان؛ يناظرها من حيث التعبيرية والتواصلية والتشفير والترميز، وهو امتداد للذات -وبخاصةٍ الذات العارفة الخلاقة-.