الانتصار الغريب للأمير الصّغير (مترجم)
من بين جميع الكتب التي كُتبت باللغة الفرنسية على مدى القرن الماضي، فإنّ “الأمير الصّغير” للكاتِب أنطوان دي سانت إكزوبيري هو بكلّ تأكيد أكثر الكتب المُحبّبة في معظم اللّغات. وهذا غريب جدًا؛ لأنّ معاني الكتاب -مقصدهُ وغايتهُ وعبرتهُ- لا تزال تبدو بعيدة عن الوُضوح، حتّى بعد مرور ما يزيد عن خمسةٍ وسبعين عامًا على إصدارهِ الأول. والواقع أنّ الشّيء المذهل، عند النّظر مرّةً أخرى إلى المراجعات الأولى للكتاب، بعيدًا عن أنّ الكتاب رُحِّبَ به باعتبارهِ حكاية رمزيّة ضروريّة وجميلة، لقد حيّرت وأذهلت قرّاءها. ومن بين أوائل المراجعين، كانت الكاتبة “پي. إل. ترافرز” هي فقط الّتي ألّفت أسطورة مُماثلة لإنجلترا في سلسلة كُتُـبها “ماري بوبينز”، وأدركت بالفعل أبعاد الكتاب، بل أهميته، مع عدم التّماثل الذي يجعل غير المؤمن يرتعد.
مع مرور الوقت، غيّر حقُّ التّصويت للقراء هذه النتيجة، بالطبع: الكلاسيكية هي الكلاسيكية، لكنّه غيّر النتيجة دون أن يُغيّر القَصْد فعليًّا. يصادف هذا العام نقاهة من الاهتمام، بما في ذلك إقامة معرض على نطاق واسع للأعمال الفنية الأصلية لسانت إكزوبيري في متحف ومكتبة مورغان في نيويورك. ولكنّنا ألسنا أقرب إلى التغلغل في صميم اللُّغز “عمَّ تدور حكاية الأمير الصغير”؟
الجميع يعلم العناصر الأساسيّة للقصة: طيارٌ يسقط عن طائرتهِ في الصّحراء، ويواجه مصاعب طويلة للبقاء على قيد الحياة، ثمّ يلتقي بشخص غريب، لا رجلًا ولا فتى حقيقيًّا. وسيتضح مع الوقت أنّهُ ارتحل عن بيتهِ المنعزل عبر رحلة من كوكبهِ الصغير، حيث يعيش وحيدًا مع وردة واحدة، تلك الوردة جعلتهُ بائسًا للغاية لدرجة أنّهُ استغلّ سِربًا من الطيور لتنقلَه إلى كواكبٍ أخرى. وهو يتلقّى تعليمات من ثعلب حكيم -وإنْ كان حذرًا- ومن ملاك موت مشؤوم وهو الأفعى.
لقد استغرق الأمر سنوات عديدة -والعديد من القراءات- حتّى بدأ القارئ يفهم أنّ كتاب “الأمير الصّغير” هو قصّة حرب. وهي ليست مجرّد رمزًا عن الحرب، بل حكاية عنها، حيث يتمّ تخفيف حدّة المشاعر الأساسيّة للصّراع -من عُزلة وخوف وعدم اليقين- فقط من خلال الخطاب الحميميّ والحب. لكنّ “الأمير الصّغير” هي قصّة حرب بالمعنى الحرفي أيضًا، كلُّ شيءٍ يتعلّق بكتابتها لا يتعلّق فقط ببداية الحرب بل بـ”الهزيمة الغريبة” التي لحقت فرنسا مع خوض تجربة نظام الحكومة الفيشيّة والاحتلال. شعور سانت إكزوبيري بالخزي والاضطراب إزاء الدمار الذي لحق به جعله يصنع أفكار مجرّدة موجهة ضدّ حُبّ معيّن.
في هذه المغامرة، غنّى لا شُعوريًّا في تناغُمٍ مع الشّعراء العُظماء الآخرين الّذين كتبوا عن خسارة الحرب، من “جي. دي. سالينجر” -الّذي تُظهِر لنا قصّته العظيمة ما بعد الحرب “من أجل إزمي ـــــ مع الحبّ والبُؤس” انهيارًا أخلاقيًّا لم يتهدّأ إلا بخطاب طفلٍ بليغ- إلى مُعاصرِه “ألبير كامو” الّذي أخذ أيضًا من الحرب الحاجةَ إلى خوضِ معركةٍ دائمةٍ “بين سعادة كل إنسان ومرض التجرُّد”، بمعنى إبعاد العاطفة الحقيقيّة عن الحياة الطبيعيّة.
ونحن نعرف الآن بالتّفصيل حيثيّات تأليف “الأمير الصّغير”؛ بفَضْل السّيرة الذّاتية الرّائعة عن سانت إكزوبيري للكاتبة “ستايسي شيف”. فقد فرّ إكزوبيري من أوروبا إلى منفى تعيس أُحادي اللّغة في أمريكا الشّمالية، وانخرط في حرب ضروس صغيرة ولكنها ساخنة مع الجماعات الأخرى في المنفى والمقاومة. كان إكزوبيري ينظر لديغول نظرة سيّئة، حيث تصوّر خاطئًا أنّ ديغول هو الذي كان يضع الفرنسيّين في مواجهة الفرنسيّين وليس ضدّ الألمان. لقد كتب سانت إكزوبيري معظم هذه الحكايات الفرنسيّة عندما كان في مانهاتن وفي لونغ آيلاند. إنّ أجواء البيئة الصّحراويّة في هذا الكتاب مستمدّة من تجربة الطّيار سانت إكزوبيري في عام 1935، حيث تجلّت في صفحات كتابهِ تجربتُه عندما ضاع ما يُقارب الأسبوع في الصّحراء العربيّة مع ذكريات الوحدة والهلوسة والموت المرتقب وجمال الصّحراء الّذي يطوّقهُ. جوهر قصة الحب بين الأمير والوردة مُستمدّة من علاقته العاطفية العاصفة مع زوجته كونسويلو، حيث أخذت الوردة منها سُعالها وتقلّبها وتعجرفها وإغماءها المفاجئ. حينما كان ضائعًا في الصّحراء في عام ٣٥، تخبرنا شيف أنها كانت تبكي خسارته علنًا على “الكويكب” الخاصّ بها، على طاولتها في براسيري ليب. كانت الصحراء والوردة -حياته كطيار شجاع، وحياته كمُحبٍّ حائر- مصدر إلهامه. ولكن كانت الحرب هي التي شوّهت هاتين التجربتين وفصلت بخطٍّ بينهما.
في أعماق روحه شعر بفقدان فرنسا، ليس من ناحية خسارة المعركة فحسب، بل وخسارة معناها أيضًا. كانت صحراءُ الهزيمة العجيبة مُحيّرةً أكثر من صحراء ليبيا نفسها، ولكن على أي حال لم يعد هناك أيّ شيءٍ منطقي. طار إكزوبيري مع سرب استطلاع أمريكي (جي أر2 /33)، وبعد الهزيمة المريرة فرَّ من أوروبا كما فرّ الكثيرُ من الفرنسيّين الوطنيّين الآخرين، مسافرًا عبر البُرتغال وصولًا إلى نيويورك في اليوم الأخير من عام ١٩٤٠. ولكن كما عَلِمَ كُلّ من عاش هذه التجربة، أنّ ما جعل الخسارةَ مؤلمةً إلى هذا الحدّ هو الشعور بأنّ كل العِماد التي تقوم عليها الحضارة الفرنسية -وليس جيوشها فقط- أصبحت “وإن جاز التعبير” تحت رقابة الآلهة، وبسرعة فائقة انهارت.
بحثًا عن أسباب ذلك الانهيار، كانت أكثر العقول صدقًا -من بينهم مارك بلوخ وكامو- تعتقد أن الخطأ الحقيقي يَكْمُن في العادة الفرنسية الّتي تُدعى”التّجريد”. إن التقليدَ الفرنسيّ الذي نَقَل ولا يزال ينقل أسئلةً براغماتية حول حالات معينة إلى عالمٍ ورقي متوازي، حيث كان السؤال النظري العام -والأمثل- أنّ أكثر ما كان يهمّ قد خَذَلَ صُنّاعَه. وبالتأكيد كانت إحدى طرق الاستجابة للكارثة هي البحث عن مجموعة تجريدات جديدة من فئات شاملة لكي تحل محل تلك التي فُقدت. لكن كان الرد الأكثر إنسانية هو الانخراط في معركة لا تنتهي ضد كل تلك الأفكار التجريدية التي تمنعنا من أن نعيش الحياة كما هي. ولا أحد يعبّر عن هذا أفضل من العملاق بلوخ نفسه، حيث قال: “إنّ المهمة الأولى في مهنتي (أي مهمّتي كمُؤرّخ، ولكن على نطاق أوسع، مهمّة الإنساني كما يجب أن تُسمى على النّحو اللائق) تتمثّل في تجنُّب المصطلحات المجردة الكبيرة الرنّانة.
إن أولئك الذين يدرِّسون التاريخَ لا بد وأن يكونوا مهتمين دومًا بمهمة البحث عن كل ما هو ملموس وصلب، وراء الفراغ والمجرّد. وبعبارة أخرى، أنهُ يتعين على الناس -لا الوظائف- أن يركّزوا بكلّ ما لديهم من انتباه.
من تجربةٍ مُهينة جداً وساحقة -تجربة تُحوّل إنسان كامل، حياتهُ ذات تاريخ مُعقد، ومصيرهُ يتحوّل في البداية إلى شيفرة ومن ثَمّ إلى ضحيّة- أراد سانت إكزوبيري أن يُنقذ الإنسان لا الإحصاء. قد تعبّر هذه الإحصاءات عن أيّ من هؤلاء الرجال الذين يعيشون في الكواكب المهووسين بها، وتلك “تعويذة العدّ” قد يتّخذ صاحبها النّجوم مِلكًا لهُ إذا كان فلكيًّا أو رجل أعمال.
إنّ أغنى طريقة لرؤية “الأمير الصغير” هي رؤيتها كحكاية رمزيّة واسعة حول أنواع التّجريد وحماقاتهِ. القوّة الاستثنائيّة والعاطفة في القصّة هي أنّ سانت إكزوبيري يثير درامية الكفاح ضد التجريد، ليس باعتباره موضوعًا فلسفيًّا، بل باعتباره قصة حياة أو موت. الكتاب يتنقّل من الكويكبات إلى الصحراء، ومن الخرافة والكوميديا إلى التراجيديا الغامضة، ومن أجل توضيح نقطة متكرّرة: “لا يمكنك أن تحب كل الورود، يمكنك أن تحبّ وردة واحدة فقط”.
بالنسبة لرحلة الأمير بأكملها فهي رحلة المنفى (مثل رحلة سانت إكزوبيري) بعيدًا عن التجربة العامة تجاه إغراء الزهرة الخاصّة.
إنّ تحمّل مسؤولية وردته -والأمير يعلم هذا- يكون في أن ينظر إليها كما هي حقًّا بكلّ ما فيها من هشاشة وغرور -بل بكل ما فيها جملة كاملة- دون أن يقلَّ حبّه لها لكونها هشّة للغاية.
يمكن العثور على الانتصار المستمر لتجربة معينة في شيء غير اعتيادي وغريب كالصورة الافتتاحيّة لأفعى البواء التي تبتلع فيلًا، حيث يخبرنا الراوي أن الكبار لا يستطيعون أن يروها إلا كشيء عام. وهنا يظهر سانت إكزوبيري -والسرياليون الذين أُعجبوا به- يقتفي أثر يده في أحد أعداد المجلة السريالية “مينوتاوري”. توحي “لوحات رينيه ماجريت” بأنه في كل مرّة ترى فيها سباقًا ديربيًّا برجوازيًّا قد يكون هناك ثعبان في الداخل. وتكشف الأشعة السّينية تحت كلّ قبعة ثعبانًا في كل رأس، ويمكن أن يكون هذا شعار كل معرض سرياليّ.
الرجال الذين يلتقي بهم الأمير في رحلته إلى الأرض هم جميعًا رجال (من منظور بلوخ) تم اختزالهم في وظائف رجل الأعمال، والفلكي، وحتى مُشعل مصابيح الشوارع المسكين، انخرطوا في أعمالهم وأصبحوا عُمْيًا عن النّجوم. وها هي -مرةً أخرى- الحركة الأساسية التي نجدها في كاموس، وفي رواية “الأمير الصّغير”، فقط ظهرت وكأنها رواية هزلية لا واقعية، فالعالم يتآمر علينا لكي يجعلنا عُميان عن آليات عمله؛ فعملنا الحقيقي هو رؤية العالم مرةً أخرى.
[1] https://www.newyorker.com/books/page-turner/the-strange-triumph-of-the-little-prince