هل الانتحار حكر على المكتئبين فقط؟
إذا طُلب منك أن تستحضر صورة شخص ما يرغب في أو مقبل على الانتحار فإنَّ أول ما يتبادر إلى ذهنك هو صورة هذا الشخص وهو يعاني من الاكتئاب الشديد ويشعر باليأس ويتأمل في جدوى الحياة، أليس كذلك؟
في الواقع إن هذا التخيل صائب بنسبة ليست قليلة، وذلك بسبب أن العديد من الأفراد الذين يعلمون بالارتباط القائم بين الاكتئاب والانتحار يفترضون أن المصابين بالاكتئاب فقط هم من يقبلون على الانتحار. بالإضافة إلى أن احتمال إقبال شخص مصاب بالاكتئاب الشديد على الانتحار يصل إلى ما يقرب من 6% وهي نسبة أعلى بكثير من احتمال إقدام شخص عادي لا يعاني من أي اضطراب نفسي أو عقلي على الانتحار، الذي يبلغ 1%.
إذًا هل فعلًا الانتحار حكر على المكتئبين فقط؟
الإجابة هنا تحتاج رحلة معرفية في عدة جوانب سيكولوجية وتاريخية أيضًا.
في أثينا القديمة، كان الشخص الذي ينتحر دون موافقة الدولة يُحرم من التكريم المتمثل في الدفن العادي مثل باقي أطياف الشعب؛ فكان هذا الشخص يُدفن وحده على أطراف المدينة، دون شاهد قبر أو علامة.. ففعل الانتحار كان يعتبر فعلًا مقبولًا للتعامل مع الهزيمة العسكرية فكان مسموحًا به في البداية، إلا أنه لاحقًا اعتُبِر جريمة ضد الدولة مع مرور الوقت.
أما في اليابان فهناك طقس يدعى الهاراكيري أو السيبوكو، هذا الطقس كان معروفًا لدى مقاتلي الساموراي الذين يؤمنون بضوابط قانون البوشيدو، وكانوا يلجأون له لتفادي الوقوع في أيدي العدو أو لمسح عار الهزيمة. وكان قيام الساموراي بهذا العمل تكفيرًا عن أخطائه ودليلًا على النبل والطاعة.
وقبل “الهاراكيري” يقوم الساموراي بالاغتسال ولبس لباس أبيض ويأكل ما يحب وما يشتهي من طعام، وعندما ينتهي من الأكل يوضع سيفه أمامه على الطبق الذي أكل منه توًا. عادة ما يحضّر المحارب نفسه للموت بكتابةِ مقطوعة شعرية من قصيدة يحبها.
وفي وجود مساعدة بجانبه، يقوم الساموراي بفتح لباسه -كيمونو- ويأخذ السيف ويغرسه في بطنه محركًا إياه من اليسار إلى اليمين. بعد ذلك يقوم شخص يدعى “الكايشاكونين” بضرب عنق الساموراي الذي أجرى الهاراكيري بسيف بحيث يفصل (يقطع) عنقه مبقيًا على رأسه متصلًا بجسده بجزء صغير من اللحم، هذا يتطلب حرفية عالية بحيث لا يستطيع أي محارب القيام به إلا بعد الكثير من التدريب، وتدعى هذه العملية “داك كوبي”.
يقول ياماموتو تسونه تومو في كتاب هاغاكوري في هذا الشأن:
“منذ عهود اعتُبر من سوء الفأل أن يطلب من الساموراي إجراء “الهاراكيري”. لأنه إن نجح فلن يحصل على أي مجد، وإن فشل فسيلحقه العار طول عمره”.
ومن ناحية، في الهند خلال العصور الوسطى كان طقس “السيتي” يعتبر ممارسة جنائزية -يجرمها القانون الآن- كانت تستلزم أن تقوم الأرملة بالتضحية بنفسها في المحرقة الجنائزية لزوجها، سواءً برغبة منها أو تحت ضغط من الأسرة والمجتمع.
بينما من ناحية أخرى، تنص الكتب الهندوسية المقدسة على أن الشخص الذي ينتحر سوف يصبح جزءً من عالم الأرواح، يتخبط في الأرض حتى الوقت الذي كان سيموت فيه لو لم يرتكب جريمة الانتحار. ومع ذلك، تقبل الهندوسية أن للإنسان حق في إنهاء حياته من خلال ممارسة غير عنيفة تتمثل في الصوم حتى الموت، وتسمى برايوبافيسا. ولكن تقتصر برايوبافيسا فقط على الأشخاص الذين لم يعد لديهم الرغبة أو الطموح، وليست عليهم مسؤوليات متبقية في هذه الحياة.
وفي القرن السابع عشر، وتحديدًا عام 1670، أصدر لويس الرابع عشر ملك فرنسا مرسومًا جنائيًا فرض من خلاله عقابًا أشد كثيرًا على هذه الجريمة -محاولة الانتحار- فكان جسم الشخص المتوفى يُطاف به خلال الشوارع، ووجهه لأسفل، ثم يُشنق أو يُلقى به على كومة القمامة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت تتم مصادرة جميع ممتلكات هذا الشخص.
وعلى مر التاريخ في الكنيسة المسيحية، كان الأشخاص الذين يحاولون الانتحار يحرمون كنسيًا، أما أولئك الذين ماتوا بسبب الانتحار فكانوا يدفنون خارج المقابر المقدسة. وفي أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا العظمى، أُعتبِرت محاولة الانتحار مساوية لمحاولة القتل، ويمكن أن يُعاقب عليها بالشنق.
فإذا كنت حاولت الانتحار في مثل ذلك العصر لتتخلص من عذاباتك، ستجد عذابات من نوع جديد تحط عليك.
ومع بداية القرن التاسع عشر في أوروبا انتقل فعل الانتحار من اعتباره نتيجة للخطيئة إلى اعتباره نتيجة الجنون وفقدان العقل.
وانطلاقًا من هذه النقطة نبدأ في الجزء الآخر من الرحلة ألا وهو الجانب السيكولوجي،
فنجد سؤالًا يبزغ بشكل تلقائي: هل هناك تشخيصات غير الاكتئاب مثلًا تُساهم في الإقبال على الانتحار؟
عند البحث في دوافع النفس البشرية بشكل عام، وبعد العديد من المحاولات لفهم العوامل الرئيسة لإقبال العديد من الأفراد على الانتحار، وجد أن الإقبال على هذا الفعل له عدة عوامل مسببة، سواء عوامل معروفة وواضحة أو عوامل وراثية وبيئية.
ومن أبرز التشخيصات المرضية التي تحتل أعلى مناصب العوامل المساهمة هي:
-الاضطراب الوجداني – bipolar
فعندما ينتقل المريض من حالة الهوس “المرح” إلى الاكتئاب، فيشعر فجأة بآلام نفسية شديدة مثل الإحساس بالاختناق، والملل الشديد، وعدم الرغبة بالقيام بأي عمل، مما يدفعه إلى الانتحار.
-اضطراب الشخصية الحدية – Bpd
وهي حالة تتسم بتقلب شديد في الحالة المزاجية والتعاملات الشخصية والتحكم في الاندفاع، بالإضافة إلى انخفاض معدل تقدير الذات مما يساعد في الإقدام على الانتحار.
-اضطراب الهوية الجنسية
وهي حالة يعتري المصاب فيها مشاعر غريبة بعدم الرضا عن نوعه، قد تصل به أحيانًا إلى حد الشعور بأنه (حبيس) جسد خاطئ، هذا بجانب الإدمان، وهو أبشع العوامل التي تؤدي إلى الانتحار خاصة في حالة الانسحاب.
-الاكتئاب الحاد – Depression
فتؤدي الإصابة بهذه المشكلة النفسية إلى تعكر المزاج بشكل كبير والتعب وفقدان الاهتمام بالأشياء من حول المصاب، بالإضافة إلى فقدانه الأمل. يكون هؤلاء الأشخاص المصابين بالاكتئاب الحاد أكثر عرضة لمحاولة الانتحار من غيرهم.
يقول ميلان كونديرا في روايته- الخلود-:
“عندما يحل الشر بالإنسان يحاول أن يدفعه إلى غيره، وهذا يسمى نزاع، الشجار أو الانتقام.. غير أن الإنسان الضعيف لا يملك القوة التي يدفع بها الشر الذي حاق به. وضعفه يؤذيه، ويهينه وهو يقف أمامه عاجزًا. لا يبقى أمامه سوى التخلص من ضعفه بنفسه!”
ومن ناحية أخرى ومختلفة، يقدم لنا ” توماس جوينر” في كتابيه Why people die by suicide وMyths about suicide نموذجًا وبعض النقاط غير المألوفة لدى البعض حول فعل الانتحار. فيعرفنا على ما يسميه جوينر الرغبة في الانتحار – desire for suicide، وهو أن يطور الشخص أفكارًا انتحارية لكنه مع ذلك لا يقدم على الانتحار.
ويضع أمامنا معيارين أساسيين، ويجب وجود كل منهما ضمن أفكار الشخص المقبل على الانتحار.
أولهما: هو الانتماء المحبَط – Thwarted belongingness
ويعني شعور الفرد أنه وحيد ومنعزل رغم وجوده وسط العديد من الناس. وشعوره المتكرر بالغربة وعدم الراحة في ديمومة لا تنتهي.
أما المعيار الثاني، في نموذج جوينر فيطلق عليه القدرة المكتسبة – Acquired capability
وهي مقاومة الخوف من الموت، فيكتسب الفرد درجة عالية من الألفة مع الأفعال والأشياء التي تتسم بالعنف والألم. فتكون فكرة الإقبال على الانتحار فكرة مألوفة لا تسبب أي خوف.
لذلك نجد نسبة مرتفعة للإقبال على الانتحار من قبل الذين تعرضوا للعنف بكل أشكاله سواء في فترة الطفولة، أو أثناء العمل مثل الجنود أو من تعرضوا للحروب أو التهجير والأفراد الذين يعيشون في فقر شديد. أيضًا من تعرضوا لانتهاكات جنسية، ومن قاموا بأذية أنفسهم حتى وإن كان الغرض المبدئي شيء آخر غير الانتحار.
ويحيلنا ذلك لنقطة أخرى تهدم ثوابت البعض عن أن الانتحار تجربة لحظية، وتنبع من شخص متهور أو أنانيّ مثلًا، ولكن في الحقيقة يأخذ الشخص المقبل على الانتحار وقتًا لتطوير أفكاره فهو لا يريد الموت على وجه التحديد بل يريد أن يتخلص من آلامه.
يقول الشاعر الكسندر بوشكين:
“والموت فكرة أراها قريبة إلى نفسي وإلى روحي.”