الأزمة المالية العالمية: الشقوق في بنيان الاقتصاد العالمي؟
قبل الأزمة المالية العالمية بثلاث سنوات وبالتحديد في عام 2005م، حذَّر “راجورام راجان” عالم الاقتصاد الهندي الشهير محافظو البنوك المركزية الكبرى بما فيهم “الان جرينسبان” نفسه في اجتماعهم السنوي بالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، من المخاطر المتزايدة في النظام المالي العالمي، واقترح عدد من السياسات التي من شأنها أن تقلل من هذه المخاطر. وردَّ عليه -بكل حماقة- وزير الخزانة الأمريكي آنذاك “لورانس سمرز” واصفًا هذه التحذيرات بأنها “مضلِّلَة”. وليت الوزير وعا هذه التحذيرات؛ ولكن للأسف، في أعقاب الأزمة الاقتصادية في عام 2008م، ظهرت صحة آراء راجان، وكشفت عن بصيرة وحكمة لم تتوافر لكبار الخبراء الاقتصاديين في دوائر صنع القرار العالمية.
والبروفسيور (راجورام راجان)، (مواليد 3 فبراير 1963م): هو اقتصادي هندي بارز، عمل أستاذ للتمويل بكلية (بوث) للأعمال بجامعة شيكاغو والمحافظ الثالث والعشرون لبنك الاحتياطي الهندي. شغل راجان منصب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، كما عمل أيضًا نائبًا لرئيس بنك التسويات الدولية. وحصل (راجان) على جائزة فيشر (Fischer)، والتي تمنحها الجمعية الأمريكية للتمويل كل سنتين للشخصيات الاقتصادية المتخصصة في مجال التمويل، ويقل عمرها عن 40 عامًا، ولقد تم تسميته من قبل مجلة تايم (Time) الأمريكية ضمن قائمة المائة شخص الأكثر تأثيرًا في العالم.
ولقد أشار في كتابه الأبرز “خطوط الصدع: كيف لازالت الشقوق الخفية تهدد الاقتصاد العالي؟” Fault Lines: How Hidden Fractures Still Threaten the World Economy، حول الأسباب الكامنة وراء الأزمة المالية العالمية إلى أنه على غرار خطوط الصدع الجيولوجية التي ينشأ عندها الزلازل، فإن الشقوق في النظام الاقتصادي العالمي أكثر خبثًا وانتشارًا مما يدركه الكثيرون. وربما تكون أكثر تدميرًا من غيرها من الجناة الظاهرين، مثل المصرفيين الجشعين والرقابة الغافلة والمقترضين غير المسؤولين، وإذا لم يتم رأبها؛ فإن أزمة جديدة أشد شراسة تنتظرنا في المستقبل القريب.
ولقد حدَّد البروفسيور (راجورام) في كتابه إلى عدَّة خطوط صدع رئيسية في أساس النظام المالي العالمي، والتي أدت مجتمعة إلى نشوء الأزمة المالية العالمية، لكنني سأكتفي بذكر ثلاثة منها؛ تاركًا الباقي لمن يريد قراءة الكتاب:
أولًا: الضغوط السياسية:
خلال السنوات العشر التي سبقت الأزمة المالية العالمية، اتسعت فجوة الأجور في الولايات المتحدة اتساعًا كبيرًا بين الفئة الأعلى دخلًا وبقية فئات المجتمع، ونظرًا لأهمية هذه الفئة من الطبقة المتوسطة والدنيا -معظم أفرادها غير حاصلين على تعليم جامعي- من العمال والموظفين بالنسبة للانتخابات الحزبية والرئاسية، ومن ثم سعي كافة السياسيين لكسب ودهم، ضغط رجال السياسية بوضوحٍ على المصارف والاحتياطي الفيدرالي لتوفير قروض عقارية رخيصة بأسعار فائدة منخفضة، وبشروط متساهلة إلى الفئات متوسطة الدخل والفقيرة التي لا تتمتع بجدارة ائتمانية جيدة (subprime lending). ترتب على هذا نموًّا في القطاع العقاري ونموًّا أكبر في الاقتصاد الأمريكي ككل بل والاقتصاد العالمي أجمع، لكنه بكل أسف نموًّا مدفوعًا بقاطرة الديون وبثمنٍ مؤجل الدفع، ساهم في خلق الأزمة المالية العالمية.
ثانيًا: اختلال الموازين التجارية:
بعد الحرب العالمية الثانية، عانت ألمانيا واليابان -الدولتان المهنزمتان في الحرب- من الفقر والدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية بالبلدين؛ ولتحقيق التعافي الاقتصادي ركزت الدولتان بشكلٍ محموم على الإنتاج، وأصبحتا دول مُصدِّرة بشراسةٍ للدول الغنية -مثل الولايات المتحدة الأمريكية-، ومع زيادة الصادرات ازداد ثراء الدولتين. وحذت الصين والهند وبقية الدول الآسيوية حذو ألمانيا واليابان، وقامت استنادًا للعمالة الرخيصة في أراضيها سياسة تصديرية محمومة، أدت بها لاحتلال قمة قائمة كبار المصدرين في العالم، ولقد جنت هذه الدول فوائض مالية كبيرة، وبات عليها أن تستثمرها.
ويذكر أنه منذ الأزمة المالية الآسيوية عام 1997م، ظل المستثمرون يتخفون الاستثمار في الدول الآسيوية؛ لأن النظم المالية بالقارة لا تتمتع بالشفافية التي تكشف عن مخاطرها التي يعتمد عليها المستثمر في تسعير استثماراته. ولهذا السبب تدفقت الاستثمارات المالية على الولايات المتحدة الأمريكية، فهي دولة يدفع النمو باقتصادها الاستهلاك بل وأصبح سكانها يستهلكون أكثر مما يجب. وبات على الاقتصاد الأمريكي أن يتحمل عبء دفع نمو الاقتصاد العالمي من خلال امتصاص صادرات هذه الدول فضلًا عن استيعاب استثماراتها.
ثالثًا: فشل النماذج الرياضية:
كانت تروس وعجلات الاقتصاد العالمي تدور بيسرٍ وسهولةٍ قبل الأزمة المالية العالمية 2008م، دون أن تظهر أي بوادر تدعو للقلق، ولو كان هناك أي مشكلة تتعلق بزيادة مخاطر أحد المنتجات المالية لانعكس ذلك على السعر واتجه إلى الانخفاض. وتمثل الأسعار أهم المؤشرات الاقتصادية لأي سوق كفؤ، ولكن للأسف كانت الأسعار مشوَّهة وغير دقيقة. وكان التشوُّه ناتجًا عن الزيادة الكبيرة في أعداد المستثمرين الأجانب الذين يستثمرون في الأوراق المالية الأمريكية.
وكان يمكن للنماذج المالية الرياضية أن ترصد هذه المخاطر لو كان هناك في الماضي بيانات مماثلة أو قريبة مما كان يجري على ساحة النظام المالي العالمي آنذاك، لكن البيانات السابقة التي لم تعرف هذه الظروف غير المسبوقة التي كان يتم تغذية النماذج أدت بالنماذج إلى إظهار أن كل شيء يجري على ما يرام. ولقد كانت هذه النوعية من القروض العقارية والمنتجات المالية التي اشتقت منها منتجات بمفاهيم جديدة، وبتعقيدات على مستويات عديدة جعلت من المستقبل حدثًا لا يمكن التنبؤ به.
تعليق ختامي
“خطوط الصدع” ليس فقط أحد أهم الكتب التي صدرت عن الأزمة المالية العالمية لعام 2008م، وليس فقط أحد أكثر الكتب التي تمتعت بمراجعةٍ لا حصر لها في الصحف والدوريات، في مجال اقتصاد “كتاب العام” من قبل صحفية الفينانشيال تايمز البريطانية المرموقة سنة 2010م؛ لكنه أيضًا كان موضوع لجدلٍ اقتصادي شهير بين (بول كروجمان) الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2008م، وبين كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي -مؤلف هذا الكتاب-. ولقي هذا الكتاب استقبالًا كبيرًا من أكبر الدوائر الاقتصادية والصحفية العالمية، وتم اختياره من قبل صحيفة الفينانشيال تايمز البريطانية ومؤسسة (جولدمان ساكس) الأمريكية بوصفه كتاب العام في 2010م. ولكنني شخصيًّا أرى تناوله لموضوع الأزمة المالية العالمية تناولًا تقليديًّا جمع العديد من العوامل المعروفة لكن ربما وضعها (راجان) في منظورٍ أكبر. وهو كتاب يستحق القراءة فعلًا للمهتمين بالأزمات المالية، وهو ليس دفاعًا عن أخطاء النظام المالي العالمي كما يظن البعض. ومن حسن الطالع، أن مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة قد أصدر هذا الكتاب بعنوان “خطوط الصدع: كيف لا تزال الشروخ المستترة تهدد الاقتصاد العالمي” للمؤلف “راغورام غ. راجان” وترجمه إلى العربية الباحث والكاتب الصحفي طارق عليان.