احذروا إنها نهاية العالم!
في أوقات الحروب يلجأ العقل تلقائيًّا وبسبب حالات الفزع إلى الأسطورة، ويبدو مما نلاحظ أنه أيضًا يُفضِّل الرؤى الجاهزة للأحداث؛ فمثلًا يغدو كل ما يحدث معقولًا ما دام الأمر مذكور في الأديان وأنَّ اليهود شئنا أم أبينا سيأتون في تلك المنطقة لتقوم أحداث النهاية وستبدأ الحروب. يبدو الأمر هنا حتمية دينية للأديان الإبراهيمية. إسرائيل في ظاهرها مجرد كيان ديني محتلّ للأرض، ويدّعي أنَّ وجوده هنا وجود مُبرَّر لأن الأمر كما سبق لنا الذكر حتميّ. لكن، هل إسرائيل مجرد دولة دينية تحتلّ الأرض بدوافع دينية فقط؟
لنقول أولًا إنَّ الوقائع لا تتكلَّم من تلقاء ذاتها، وإن الذي ينتج الدلالة الشارحة إنما هي شبكة العلاقات التي تكتنف الوقائع. وإنَّ العقل لا يجب عليه أن «يتخلَّى عن عرشه» كما يقول ماركيوز، وألا ينسحب أمام ادعاءات المستعمر الظاهرية تاركًا خلفه حقيقة هذا المستعمر التي ليست إلَّا امتدادًا للاستعمار الغربيّ بصورةٍ دينية. ذلك لأنَّ المظاهر تعكس صورة علاقة تاريخية محددة.
مقاربة تاريخية لطريقة المستعمر الغربيّ:
لم تكن تلك المرة الأولى التي يلبس فيها الاستعمار صورة دينية، بل إن التاريخ مليء بهذه الأشكال، أشهرها مثلًا الحملات الصليبية. في عام 1095 انعقد مؤتمر كليرمونت وحضره ما يقرب ثلاثمائة من رجال الدين لمناقشة الكثير من الأحوال التي تخص الكنيسة ورجال الدين، لكن البابا إيربان أراد استغلال الاجتماع لهدف أخطر؛ فأعلن عن عقد اجتماع عام في يوم الثلاثاء 27 نوفمبر، فحضرت حشود ضخمة. وكانت خلاصة خطاب البابا: أنه يريد أن يساعد إخوانهم في الشرق، فالعالم المسيحي الشرقي يستغيث، والأتراك يتقدمون إلى قلب الأراضي المسيحية، ويسيئون إلى السكان ويستبيحون مزاراتهم المقدسة، والحديث لم يكن على بيزنطة وحسب، وإنما ركز على القداسة الخاصة للقدس، وأن الحجاج يعانوا كثيرًا في سفرهم إلى هناك، وبعد أن رسم لوحته الكئيبة أعلن مناشدته العظمى: “فليهب العالم المسيحي الغربي لإنقاذ الشرق، يجب أن يذهب الغني والفقير على السواء، وينبغي لهم أن يكفّوا عن ذبح بعضهم البعض، وأن يحاربوا بدلًا من ذلك حربًا مقدسة فيكونوا بذلك فاعلين عمل الرب، وسوف يقودهم الرب، ومن يمت في المعركة يفز بالغفران، وما الحياة على الأرض حياة البؤس والشر، هنا الناس فقراء تعساء، وهناك متمتعون مزدهرون”. وكانت الاستجابة فورية وخطيرة، وطلب البابا من أساقفته أن يبشروا بالحرب الصليبية. لكن هل كانت الحرب الصليبية حربًا دينية حقًّا؟ يظهر في هذه الأوقات راهب متجوِّل يدعى “بطرس” واشتهر بـ” بطرس الناسك”، أخذ هذا الرجل في التبشير بطريقة غير اعتيادية، ونجح نجاح مبهر.
كانت الحياة في شمال غرب أوروبا حياة قاسية وغير آمنة بسبب الغزوات البربرية وغارات أهل الشمال، لم تعد أراض كثيرة تصلح للزراعة، فقد تهدمت السدود وطغى البحر والأنهار على الحقول. وكانت القرية التي لا تحميها قلعة أحد اللوردات معرضة للسرقة والنهب. قال البابا إيربان في كليرمونت: ” في هذه الأرض تستطيعون بالكاد إطعام السكان، وهذا هو السبب في أنكم تستنفدون نتاجها ثم تثيرون حروبًا لا نهاية لها وتقتلون بعضكم البعض”. وكانت أيضًا الظروف التي سبقت عام المؤتمر ظروف عصيبة. إذ شهد عام 1094 ميلادية فياضانات وأوبئة، أعقبها جفاف ومجاعة، فكانت الهجرة في هذه اللحظة أمرًا معقولًا، وفي عام 1095 سقطت نيازك كثيرة. بعد كل هذه الكوارث يبدأ العقل الأسطوريّ بالسيطرة، وتسود رؤى نهاية العالم. وكان رجل العصور الوسطى على أتم اقتناع بأن المجيئ الثاني للمسيح وشيك الوقوع، فيجب أن يتوب وما زال أمامه وقت، وكان عليه أن يحجّ ليمحو خطاياه كما كانت تقول الكنيسة، وأعلنت النبوءات ضرورة استعادة الأراضي المقدسة قبل عودة المسيح مرة أخرى. وقد أسفرت الحملات الصليبية ملايين القتلى تحت راية الصليب.
يبدو الأمر واضحًا الآن: إنَّ طريقة المستعمر ما زالت كما هي، يبرر وحشيته ومطامعه بالدين، يعطي تبريرًا لنفسه ولمن حول بأنَّ وجوده هنا في هذه الأرض وجودًا دينيًّا، وهنا نفهم مثلًا قول بايدن: “لو لم تكن هناك إسرائيل لتوجب علينا اختراع إسرائيل”. أي أنَّ استمرار وجوده في المنطقة كان يجب أن يستمر، وكيف يستمر إذا لم يكن هناك تبريرٌ لوجوده؟ إسرائيل هي هذا التبرير. والناس تنخدع بسهولة ما دام الأمر في نطاق الدين.
إذاً، إسرائيل في ظاهرها دولة دينية، يسكنها شعب متدين، لكنها في الحقيقة مجرد جندي غربيّ يزعزع استقرار المنطقة ويبثّ الفتنة الدائمة ويضمن للمستعمر الحقيقي مصالحه (أمريكا والدول الأخرى)، ويكون بالنسبة له -أي بالنسبة للغرب- قاعدة عسكرية ضخمة يمكن استخدامها متى شاؤا وهو -أي الكيان المحتل- مقابل هذا يحقق آماله في التوسّع، ويفعل ما يشاء أن يفعله دون أن يحاسبه أحد، ويستمرّ الدعم الغربيّ له بالأسلحة والمال والجنود. فهي علاقة مشتركة.
نبذة عن مشروع الدولة اليهودية:
لم يكن مشروع احتلال الأراضي الفلسطينية في بداية الأمر مشروعًا دينيًّا، لكنه كان مجرد فكرة لاستعمار أرضٍ جديدة تضمّ اليهود من أنحاء البلاد وتبعدهم عن هذا الاضطهاد الذين وجدوه على مر التاريخ. ومن هنا لم تكن فلسطين شرطًا ضروريًّا -بالنسبة لليهود- للاستعمار، فقد قدم “ثيودور هرتزل” في كتابه “الدولة اليهودية” عرضاً مفاده أن الأراضي المتاحة الآن هي: الأرجنتين وفلسطين، وكلاهما لديه تاريخ من الاستعمار، وأنَّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وتمتلك مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وأنها سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا وافقت أن تتنازل لهم عن قطعة الأرض. أما ولخيار الثاني فكان فلسطين
كانت فلسطين هي الخيار المحبَّذ لدى هرتزل، بكونها -كما يزعمون- وطنهم التاريخي، وأنَّ اسمها سيجتذب شعب اليهود بقوة ذات فاعلية ممتازة. فإذا مُنِحت لهم فلسطين -بحسب هرتسل- سوف يشكّلون جزءًا من استحكامات أوروبا، أما أوروبا في المقابل فستضمن وجودهم. إذًا، لم تكن فلسطين هي الأرض الوحيدة التي يجب أن يستعمروها، بل كان هناك خيارٌ آخر، أي الأرجنتين. وأنهم، وبحسب هرتسل، سيأخذون ما يُعطى لهم. إذًا، وجود اليهود في فلسطين لم يكن أساسه دينيّاً فقط، ولم تكن فلسطين هي الاقتراح الوحيد، لكن العلاقة في الأساس كانت علاقة سياسية قائمة على المصلحة لكل الأطراف المشتركة -عدا الأرض المحتلة بالطبع- فمن ناحية، يحصل اليهود على الأرض ويبتعدون عن النبذ المزعوم، ومن الناحية الأخرى، يضمنون لمن يضعهم هناك المصلحة والسيادة في المنطقة المأخوذة، أي إنه سيكون امتدادًا للاستعمار الغربيّ.
التدخُّل الأمريكي:
في أحد لقاءات نعوم تشومسكي سأله أحدهم: لماذا تدعم الولايات المتحدة إسرائيل؟ فيحدِّد تشومسكي سببين: أحدهما ديني، والثاني سياسي، لنركِّز على الجانب السياسي لأنه محور حديثنا الآن، وهذا هو رأي السيد تشومسكي باختصار: “إنها المرحلة الأخيرة من الاستعمار الأوروبي، ونلاحظ أنَّ الدول الأكثر قوة في دعم إسرائيل ليست فقط الولايات المتحدة، فهناك أستراليا وكندا، هؤلاء هم المجتمعات الاستعمارية.
يستكمل تشومسكي حديثه: في المجتمع الاستعماري، يقوم المستوطنون بالقضاء على السكان الأصليين. هناك أيضًا عوامل جغرافية استراتيجية هامة، عليك أن تعود إلى عام 1948، كان هناك انقسام في الواقع بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع دولة إسرائيل الجديدة؛ وزارة الخارجية لم تكن ملتزمة بالفتوحات الإسرائيلية وإنشاء الدولة، فكانت قلقة بشأن اللاجئين، أما وزارة الدفاع فكانت معجبة جدًّا بالإمكانيات العسكرية لدولة إسرائيل؛ فهي قاعدة محتملة لقوات الولايات المتحدة في المنطقة، وفي عام 1958 عندما كانت هناك أزمة خطيرة في المنطقة وكانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي تعاونت بقوة مع بريطانيا والولايات المتحدة وتلقت دعم هائل لجيشها لهذا السبب، وفي عام 1967 كانت العلاقات الأمريكية قد تأسَّست مع إسرائيل إلى حد كبير حين قدمت إسرائيل خدمة كبيرة للولايات المتحدة من خلال تدمير القومية العربية وهي العدو الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، كما دعمت إسرائيل الإسلام المتطرف الذي دعمته الولايات المتحدة أيضًا، الآن رأينا مثالًا على ذلك خلال أحدث هجوم غزة (يقصد هجوم قديم، وليس ما يحدث الآن، فاللقاء قديم)، تذكرون أنه في وقت ما بدأت إسرائيل تنفذ من الذخائر خلال الهجوم (على الرغم من حقيقة أنهم مدججون بالسلاح)، قامت الولايات المتحدة بتقديم ذخائر إضافية إلى إسرائيل من خلال وزارة الدفاع، ولاحظوا من أين حصلوا على الذخائر؟ هذه هي ذخيرة أمريكية تم وضعها من قبل في إسرائيل تحسبًا لإمكانية استخدامها من قبل قوات الولايات المتحدة. هذه واحدة من العديد من العلامات التي تظهر كيف يُنظَر إلى إسرائيل باعتبارها أساسًا ضابط عسكري في خدمة الولايات المتحدة.”
كيف يكون التفكير بالأسطورة في مصلحة المستعمر؟
عندما يفكر العقل بالأسطورة يصبح مُشَوَّش، يبتعد عن الوقائع، ينساق وراء الظاهرة ويترك ما ورائها، يبتعد عن السياسة وألاعيبها الدموية، وينساق وراء نهاية العالم الوشيكة، ويبدأ في تفسير الأحداث على هذا الأساس الميتافيزيقي (الطُعم) لا على الأساس الجيوسياسي الواقعي الدموي الذي قامت به إسرائيل. يتضح هذا في انتشار المنشورات الشّارحة لبائعي الكلام لما يحدث من الجانب الدينيّ ، وتحصل هذه المنشورات بالطبع على آلاف التفاعلات، وما يتم التوصُّل إليه في النهاية أنها علامات الساعة، انتظروا المسيح! العجيب أنَّ الثلاثة أديان ينتظرون مسيحًا ليحقِّق العدل ويهملون حقيقة القضية، كأن الأمر كله ليس إلا حربًا دينية بلا أي عوامل سياسية. عندما يفكر العقل بهذه الطريقة يقع في هوّة عميقة، ينساق دائمًا وراء التفسيرات الميتافيزيقية، يفزع عندما يستمع أن النهاية اقتربت، وأن وجود اليهود هنا علامة من علامات الساعة. وهنا يعطي المفكر بهذه الطريقة تبريرًا للاستعمار؛ وجود إسرائيل هنا هو حتمية دينية مذكورة قديمًا، ويا فرحة إسرائيل بهذه الحتمية! ويا فرحة أمريكا بهذه الحتمية! يتحدَّث الاحتلال: حسنًا، وجودنا ضروري بحكم ديننا ودينكم، أما طردنا فسيجلب نهاية العالم، احذروا من طردنا! احذروا! هذه نهاية العالم.
هذا المقال هو الحلقة السابعة من مختبر أبحاث سبت ماركس، تعرف على المقالات والكتاب.
مصادر:
1- ستيفن رانسيمان: تاريخ الحملات الصليبية، ج١، ترجمة: نور الدين خليل.
2- ثيودور هرتسل: الدولة اليهودية، ترجمة: محمد يوسف.