ابن عربي مُتَرَدِّدًا بين السَّماء والأرض: كيف يتجلَّى اللهُ فِي العالَم؟

وجوه الرحمن في عَالَم الخَلْق

العبدُ ربٌّ، والربُّ عبدٌ، .:. يا ليتَ شِعري.. مَنِ المُكَلَّفُ

إنْ قيلَ عبدٌ، فذاكَ ربّ، .:. أوقيل ربٌّ، أنَّي يُكَلَّفُ

-ابن عربي

من أين يمكن أن نبدأ مع ابن عربي؟ يرى نصر أبو زيد أنَّ فكر ابن عربي يتميَّز بخاصِّيَّة لا يعلم لها وجودًا عند أي مُفَكِّر آخر، تَتَمَثَّل تلك الخاصِّية في أنَّ أيَّ نقطة بداية يختارها الباحث للإبحار في فكر ابن عربي تُحِيلُ إلى نظامِه الفكريِّ كلِّه. إنه فكر يقوم على بنية دائرية، وككل بنية دائرية ثمَّةَ مركز وثمَّة مُحِيط، وأي نقطة على المحيط يمكن أن تكون هي نقطة البداية، وتكون في الوقت نفسه نقطة النهاية، وقد اخترتُ أن أعرِضَ هنا لفلسفة ابن عربي الأنطولوجية /الوجوديَّة من خلال فكرتِه عن أنفاس الرحمن في العالَم.

الخلق عن طريق النَّفَسِ الإلهيِّ

إنَّ الكلام الإلهي له أهمية خاصَّة في فكر ابن عربي، من جهة أنه يبني فلسفته في قالَب قرآني، ويستخدم اللغة القرآنية للتعبير عن آرائه. إن الله عندما يُشير إلى مخلوقاتِه الفرديَّة فإنه يشير إليها على أنَّها كلِماتُه، على أنَّها نِتاج قوله كُنْ؛ فالله عندما يتكلم، وهو لا محالة مُتَكلِّم؛ لأنَّ الحق المُطلَق لا بد أن يتكشَّف في العالَم ويظهر في مخلوقاتِه، أقول عندما يتكلم فإنه يخلُق! فكما نخلُق نحن البشر الكلماتِ والجمل من قَوَامِ النَّفَس عندَ التَّكَلُّم، كذلك يخلق الله العالَم ومخلوقاته عندما يتنفَّس، ومن هنا يكون العالَم بموجوداته هو هو أنفاس الرحمن!

وكلام الله هذا يتبدَّد مثل الكلام البشري تماما؛ لذا فإن الله يُجَدِّدُ أنفاسَه في العالَم على الدَّوام، ولا يتكرر ظهوره على شكل واحد أو صورة واحدة في العالَم؛ لأنَّه لا تَكْرَارَ في التَّجَلِّي. والأمر الإلهيَّ كُنْ له جانبان مثل العالَم تماما؛ جانب ظاهر يتكون من حرفين هما الكاف والنون، وجانب باطن يتكون من ثلاثة أحرف هي الكاف والواو والنون. وعلى ذلك فهي من حيث ظاهرها توازي عالَم الشهادة، ومن حيث باطنها توازي عالَم الغيب والملكوت.

العالَمُ كأفكار في عقل الله

والآن علينا أنْ نشرح سريعا كيف للكلام الإلهي أن يظهر في العالَم على صورة الموجودات؟ وحتى نجيب عن هذا السؤال علينا أن نعرض سريعًا لفكرة ابن عربي عن الأعيان الثابتة.

ما هي الأعيان الثابتة؟ تعني الأعيانُ الثابتة ببساطة علمَ الله، أو الأشياء التي يعلمها الله، وإن تسامحنا في التعبير يمكن أن نقول إنَّها الأشياء كما هي في عقل الله.

إعلان

وهذه الأعيان الثابتة معدومة في حد ذاتها، يعني ليس لها وجود في الخارج؛ لأنها وجود خياليّ أو وجود مُقيَّد، ورغم أنَّ الأعيان الثابتة ليس لها وجود خارج علم الله إلا أنها عينُ /حقيقة الأعيان الموجودة /الموجودات ومثالها.

وعن طريق هذا المفهوم أمكن لابن عربي أن لا يرى العالَم مُنْفَصِلًا انفصالًا تامًّا وحقيقيًّا عن الله، وأمكن له كذلك أن يجمع بين قِدَمِ العالَم وحدوثه؛ فهو قديم من جهة أنَّ الأعيان ثابتة في عِلْمِ الله لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، وهو مُحْدَث من جهة خروجِ هذه الأعيان الثابتة إلى طور آخر من الوجود.

البرزخ والجمع بين الأضداد

والآن، هل يرى ابنُ عربي عدمَ وجود نوعٍ من المُبايَنَة بين الله والعالَم؟ في الحقيقة، الإجابة عن مثل هذا السؤال عسيرة جدًّا؛ فلا يمكن بحال أن ننسب إلى ابن عربي القول بالوَحدة التامة بين الله والعالم، ولا يمكن كذلك نسبة القول بالمباينة التامة إليه كذلك. إن ما يمكن قوله هنا إن ابن عربي قادر عن طريق فكرة البرزخ -التي سنشرحها بعد قليل- أن يجمع في فلسفته الأنطولوجية بين النقائض، وأنَّ هذا وجهًا من وجوه فلسفتِه الواحدية.

ما الذي يعنيه ابن عربي بالبرزخ؟ يقول الله تعالى: “وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ”، ومعنى البرزخ في الآية الحالة التي يكون عليها الإنسان ما بين الدنيا والآخرة؛ ذلك الوقت الذي يمكن أنه نقول فيه إن هذا الإنسان الكائن في البرزخ ليس من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة، بل هو من أهلهما معًا!

إنَّ البرزخ هو الحاجز أو المانع الذي يمنع البحرين؛ العذب والمالح أن يبغي أحدُهما على الآخر، وهو الحاجز الذي يحول بين الأرواح المتوفاة ورجوعها إلى العالَم.

يستخدم ابن عربي هذا المفهوم مرادفًا للشيء الذي الذي يُفَرِّق بين شيئين ويجمع بينهما في نفس الوقت، كالخط الحاجز بين الظل والنور الذي يفرق ويجمع بينهما في نفس الوقت؛ فنقطة التقاء الظل بالنور، لا يمكن أن نقول إنها ظل أو إنها نور، بل هي البرزخ.

لقد حاولَ ابنُ عربي أن يتجاوز إطار تناقُضاتِ الواقع وصراعاته. وكانتْ فلسفتُه بكل جوانبها محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحل كل هذه الصراعات على مستوى الفكر والعقيدة؛ فعن طريق هذه الفكرة يمكن الجمع بين طَرَفَيِ اللهِ والعالَم في برزخ من البرازخ؛ فكل شيء هو الله، وليس الله في نفس الوقت.

الأسماء الإلهيَّة كطرف اتِّصالِ اللهِ بالعالم

يرى ابن عطاء الله السكندري أنَّ الكائنات هي مرايا الصفات؛ يعني أن تلك الموجودات الكثيرة ليست في حقيقتها إلا تجلِّيات مختلفة للصفات التي يتَّصِف بها الله.

وإذا انتقلنا إلى ابن عربي نجد أنه يضع فارقًا أساسيًّا بين الذات الإلهية وأسمائها الحُسنى، حتى تبقى الذات في تعاليها المطلق، ويجعل الأسماء الإلهية طرفَ الاتِّصَال مع العالَم، ولعلَّ هذا ما جعل ابن تيمية يعتبر ابن عربي أقرب القائلين بالوَحدة إلى الإسلام؛ لأنَّه يُفَرِّق بين الظاهر والمَظَاهِر.

يقول ابنُ عربي: “لتعلم أن الحق… وَصَفَ نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فتخاف غضبه وترجو رضاه، ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدَنا على هيبة وأنس”؛ فما وصف الحقُّ نفسَه بشيء إلا وهو يتكشَّف ويظهر في العالم بوجه من الوجوه؛ فكل شيء وجه من وجوه الرحمن في العالم، وكلُّ شيء -بتعبير ابن عربي المُوجَز- هو /لا هو، حق/لا حق، موجود/معدوم.

معنى هذا الكلام باختصار أنَّ كل ما يمكن أن تراه من صفاتٍ تتصف بها الكائنات الموجودة في هذا العالَم ما هي إلا نوع من التَّكَشُّف الإلهي لأسمائه وصفاته التي لا بدَّ أن تخرج إلى طور الوجود المُشَاهَد بهذا الشكل عن طريق المخلوقات؛ فكل ما تراه يمكن لك أن تقول أنه الله، وأنه ليس الله بهذا المعنى!

هل كان يقول ابن عربي بوَحْدَة الوجود؟

هل كان ابن عربي يرى الله مُحايِثًا /مُبَاطِنًا لهذا العالَم مُحَايَثَة /مُباطَنَةً تامة أم لا؟ لا شكَّ أن القول بوَحْدَة الوجود قول يكاد يكون فاشيًا في كثير من الأنساق الصوفية؛ فابن سبعين يُمكن نسبة وحدة الوجود إليه بكل سهولة؛ لأنَّ نصوصَه تساعد على ذلك، أما ابن عربي فإننا نرى نوعًا من الصعوبة في معرفة ما إذا كان قائلًا بهذا أم لا؟

إننا يمكن اعتبار ابن عربي في حد ذاته برزخًا بالمعنى الذي يذهب إليه من جهة أنَّه يجمع في فلسفته بين القول بالوحدة والكثرة، ويحاول تفسير الكثرة بالوحدة، وتأويل الوحدة بالكثرة.

وهو برزخ من جهة أنه محلُّ جدل؛ فبعضهم ينكر قول ابن عربي بوحدة الوجود، والبعض يراه المؤسس الأول لها والداعي الأكبر إليها.

يرى ويليام تشيتيك William Chittick أن نسبة تأسيس القول بوحدة الوجود إلى ابن عربي نسبة مُضلِّلَة؛ وأنَّ ابن عربي لم يستخدم هذا التعبير مطلقًا، وحتى وإن استخدمه بعضُ أتباعه فإنهم لم يعطوه معنى فنِّيًّا منضبطًا.

أما ابن تيميَّة فإنه ينسب إليه هذا القول صراحة فيقول: “والقول بوَحدة الوجود مذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم”، كما يرى حسين مروة أننا مع ابن عربي، نقف أمام أحد التصوُّرات المثاليَّة لمفهوم وحدة الوجود، كما كانتْ واردة في الفكر الصوفي عند الإسلاميِّين.

خاتمة

نهاية، أختم باقتباسٍ لابن عربي يشير فيه إلى قضيَّة تعدُّد الأديان في عالمنا الإنساني بسبب ظهور أسمائه الإلهية وتَكَشُّفِهَا في العالم، يقول:

“وتَنَوَّعتِ المشاربُ، واختلفتِ المذاهبُ، وتميَّزَتِ المِراتِبُ، وظهرتِ الأسماءُ الإلهيَّةُ والآثارُ الكونيَّةُ، وكثرتِ الأسماءُ والآلهةُ في العالَم”.

نرشح لك: الله الواحد الكثير(1/2): الألوهة السَّارية في العَالَم

 

المصادر: 

- الفتوحات المكية، ابن عربي، طبعة 1911.
- هكذا تكلمَ ابن عربي، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2014.
- ابن عربي – موسوعة ستانفورد للفلسفة، تأليف: ويليام تشيتيك، ترجمة: عبد العاطي طلبة، مجلة حكمة.
- فلسفة التأويل – دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2014.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، الجزء الثاني، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1995.
- النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية (تبلور الفلسفة – التصوف – إخوان الصفا)، حسين مروة، المجلد الثالث، دار الفارابي.
- فصوص الحكم، ابن عربي، دار الكتاب العربي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

اترك تعليقا