إسبانيا

يعجبني التفكير في إسبانيا بدءًا من جبال البيرنيه. حوالى العام 870 دخلت أميرة مسيحية بوهيمية اسمها أوروسيا شبه الجزيرة الإيبيرية عبر السلسلة الجبلية البيرينية بقصد الزواج من زعيم قوطي غربي. اعترض سبيل الموكبِ جندٌ مسلمون -كما تقول الأسطورة- عرض قائدهم الزواج على الأسيرة، وبمواجهة رَفْضِها أمر بتعذيبها وقطع رأسها. أوروسيا اليوم هي قديسة شفيعة لـ خاكا Jaca1 وشهيدة في سجل القديسين الإسبان. ما لا تقوله ويكيبيديا هو اسم القائد المسلم: محمد بن لوبو دي تينا (Mohamed Ibn Lupo de Tena)، إنه ليس آتيًا من مكة كما هو بيِّن، وإنما هو من سكان شبه الجزيرة الإيبيرية الأصليين الداخلين في الإسلام، وابن الوادي القريب تينا Tena. أوروسيا كانت مُحتلَّة أجنبية، وجلادها كان -إذا صح التعبير- “إسبانِيًَا”.

في رونسيفاليس Roncevalles2 -كما نعلم- جرت في عام 778 معركةٌ شهيرةٌ عانى فيها جيش شارلمان هزيمته الأولى. أدَّت هذه الهزيمة وموت رولدان -ابن أخ الامبراطور- إلى ظهور عدد لا حصر له من الأساطير، صارت أنشودة رولدان الشهيرة نموذجًا لها، وهي قصيدة ملحمية تشكل جزءًا من المرجعية الأدبية الفرنسية، وفرضت الرواية التاريخية عن حملة صليبية كبرى ضد المسلمين. لكن هزيمة الجيش الشارلماني لم يكن لها علاقة البتة بالمسلمين. كانت قوات الفرنجة آتية من محاولة لإقامة “ثغر شارلماني” في شبه الجزيرة، وبعد نهب بامبلونة (Pamplona)، وعندما كانت على وشك عبور البيرينيه تعرَّضت لكمين ومن ثم للهلاك على أيدي مجموعة صغيرة من الباسكونيين المتحرقين للانتقام.

اليوم تعرِض قرية رونسيفاليس الصغيرة جدًا والخانقة، في نابارا (Navarra)، معالم أثرية عظيمة -بما فيها صومعة شارلمان- توجِّه الانتباه نحو الحرب الدينية ضد المسلمين وليس نحو واقعة السلاح الشهيرة التي حدثت في الوادي. في الكنيسة القوطية الجماعية حيث دُفن سانتشو القوي ملك نابارا (Sancho el Fuerte de Navarra)، مثلاً، يجري تذكير الزوار بمشاركته إلى جانب ملكي قشتالة وأراغون في معركة العُقاب (في جيان Jaén عام 1212)، النصر الحاسم على الموحدين تحت راية أمير المؤمنين. بالمناسبة، استولى المتحدرون من ملكي قشتالة وأراغون هذين، بعد ذلك بثلاثمائة عام على نابارا، المملكة الأخيرة في شبه الجزيرة الإيبيرية التي سقطت بأيدي الملوك الكاثوليك (بعد غرناطة بخمسة عشر عامًا).

ما أريد قوله هو أن الجيش الشارلماني الذي تتماهى معه أمجاد “حرب الاسترداد”، الإسبانية جدًا، كان جيشًا مُحتلًّا، في حين أن الباسكونيين كانوا -إذا صح التعبير-، “إسبانًا أصلاء”، أُنْكِرَتْ عليهم هذه المأثرة أو ضُنَّ عليهم بها.

في زمنيّ أوروسيا ورونسيفاليس لم يكن ثمة إسبانيا، التي كانت حصيلة العمل الشاق والفاشل لحرب مزدوجة: حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين وحرب أهلية بين المحتلين الجرمانيين. الحرب الطويلة ضد المسلمين، وقسم كبير منهم من المتحولين إلى الإسلام من البربر أو الإسبان الرومان، كانت تُخفِي طموحات إقليمية توسعية، لكنها حشدت أوروبا برمتها ولم يكن ممكنًا لها أن تنتهي باتِّفاق أو تسوية. الحرب الأهلية الجرمانية التي تداخلت مع الأولى، انتهت بخضوع جميع ممالك شبه الجزيرة الإيبيرية، الإسلامية أو المسيحيية، لهيمنة الملوك الكاثوليك. وُلِدَتْ إسبانيا مسيحيةً وقشتاليةً؛ وبمثل هذه المقومات كان ممكنًا فقط بناء إمبراطورية، كما بيَّنَ ذلك جيدًا الأستاذ بياكانياس Villacañas3. العمل التأسيسي لها كان طرد اليهود والقضاء على الإسلام (وكانت ذروته في المرسوم ضد الموريسكيين، المسيحيين رسمياً، الصادر عام 1609)، وكذلك غزو أمريكا، التي انتقل إليها الرسول سانتياغو بحصانه الأبيض، حال هزيمة الموروس/المسلمين، لمد يد العون ضد الهنود الحمر.

إعلان

الذين يطالبون اليوم بإسبانيا من معسكر اليمين لا يطالبون بأمة وإنما بدورها الظافر في إمبراطورية غير قابلة للاستمرار. وإنَّ أي شخص يقوم بجولة في البيرينيه، من الشرق إلى الغرب أو العكس، سيدرك -علاوة على ذلك- العواقب الكارثية والمتناقضة لهذه الإمبراطورية الفاشلة: أراغون Aragon، مهد إسبانيا وقبر نفسها، مستوعبةً في قشتالة، تلهث متخمةً بالتاريخ وخالية من البشر، بين أمتين ثريتين، نابارا وكاتالونيا، مهزومتين في الحرب الأهلية الجرمانية. وإلى الجنوب أندلوثيا Andalucía، ظل الأندلس الوهمي، المهزومة العظيمة الأخرى على يد الإمبراطورية القشتالية، التي حافظت -رغم ذلك- على شخصية سياسية ومؤسساتية قوية كما يثبت ذلك وصولها إلى الحكم الذاتي بمقتضى المادة (1514). ها هنا المفارقة: يبدو أن مركز الإمبراطورية ذاته، الفقير والمهجور، هو الذي دفع ثمن التداعيات -الثقافية والاقتصادية- لانتصار”ه” في الحربين الأهليتين، الدينية والجرمانية، في الوقت نفسه الذي يعرقل فيه من الناحية السياسية، للسبب ذاته، أي إعادة بناء وطنية.

تواصلت الحرب الدينية بعد عام 1492 على الإيراسموسيين5، والهراطقة، والساحرات، وفي وقتٍ لاحق على المتنورين والاشتراكيين. كما تواصلت الحرب الأهلية الجرمانية، متشابكةً مع حروب الخلافة والتمردات المناهضة للمركزية. هذه وتلك، الدينية والجرمانية، خلطتا أوراقهما في نزاعات إيديولوجية واجتماعية خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين: فلنفكر في الحروب الكارلية وفي الحرب الأهلية الإسبانية (1936)، التي كانت “إسبانِيَّةً” للمفارقة إذ كانت “عالمية” في واقع الأمر. وباستثناء فترة وجيزة من الكفاح من أجل الاستقلال بمواجهة نابليون (1808-1812)، فإن هاتين الحربين الداخليتين منعتا بناء أمة: ليست كذلك بالمعنى الأنثروبولوجي ولا بالمعنى الديموقراطي. والذين يطالبون بهذه اللا أمة، وتوليفتها هي الملكية البوربونية6، عادةً ما يفعلون ذلك بخلط الحربين وإعادة تفعيلهما، إلى حد أن الوظيفة التي كانت تُنسب إلى “المسلم”، صار يمارسها اليوم، أكثر مما يفعل المهاجرون المسلمون (الذين يمارسونها أيضًا)، الكتالانيون الجرمانيون الذين يطالبون بالانفصال عن إسبانيا بدون أن يفهموا أنه من المستحيل التحرر من بلد غير موجود. حتى من أجل ذلك سينبغي بناؤه، فهل هي مطالبة واقعية؟

لن يكون الأمر سهلًا، فما زالت نخب اليمين الجرماني (بمن فيها الكتالانية) تفكِّر بالكفاح من أجل إسبانيا والنضال ضد إسبانيا من منظور الحرب الدينية والحرب الأهلية القرووسطية. أما حزب العُمَّال الاشتراكي الإسباني، وهو حزب مَلَكي وقومي إسباني، فقد بحث عن منافع حزبية في النزاع من دون أن يتجرَّأ البتة على مراجعة دستورية لهذه اللا أمة، على الرغم من أنه حظي بأغلبية اجتماعية وانتخابية مرات عدة في العقود الأخيرة.

السيء هو أنه بهدف الحفاظ على تلك الإمبراطورية الفاشلة، فضلًا عن أنها ضارة بالنسبة للمنتصرين السلبيين، والحيلولة دون بناء أمة، كانت هناك حاجة لممارسة متواصلة للعنف والديكتاتورية، وهي قاعدة مهلكة في تاريخنا المشترك. فهم فرانكو جيدًا هذا المسخ وحاول خلقه (أي الأمة) بضربة واحدة فقط، صانعًا من الصفر إسبانِيًّا جديدًا، “إنسانًا جديدًا”، شرطه هو إزالة نصف الإسبان (من أطلق عليهم اسم anti-españa). أما اليسار الأكثر راديكالية، المهزوم التاريخي في جميع الحروب، فقد انتهى إلى التراجع، ضد الإمبراطورية الفاشلة والأمة المعطلة، أمام العُمَّالية والعالمية cosmopolitismo ، مفتونًا في كثير من الأحيان، في إقليميته المتنامية، بالنضالات الطرفية، مزدريًا على الدوام أراضي قشتالة (بالمعنى الواسع) وناسها؛ ومتخليًّا، باسم ثقافة أكثر صدقية أو نقاء، عن ثقافة نصف إسبانيا.

تواصل نخبنا، من اليمين ومن اليسار، التفكير في إسبانيا بوصفها حربًا (أو اثنتين أو ثلاثًا)، وفي أوقات الأزمة يجرُّون الناخبين إلى المعركة. وكما هي العادة دائمًا تقريبًا، تعاود هذه الـ “إسبانيا” الظهور على جانب أزمة اقتصادية كبيرة وأزمة مؤسساتية أوروبية كبيرة.

تتميز جبالنا البيرينية بكنائس رومانية جميلة ينبغي الحفاظ عليها، وبأبراج شامخة وأبراج مراقبة حربية ينبغي أن لا نهدمها، وبقصور حدوديّة ضخمة تشير إلى مطالبات ونزاعات لا حل لها. إن مشكلة الذاكرة -وأكثر من ذلك مشكلة الذاكرة الميثولوجية- هي أنها تترك آثارًا مادية راسخة: نُصُب وقلاع وكاتدرائيات تُكذِّب أو تخفي روايات أخرى (وأبنيةً أخرى). لا ينبغي المس بهذه المعالم كلها، فنحن نحتاجها من أجل التفكير. إنها لا يمكن أن تروي أي تاريخ، لكنها تروي فعلاً بعض التواريخ المختلفة؛ تتيح لنا الاختيار، في المقام الأول، بين رواية تاريخ الانتصار أو تاريخ الصراع. ولو أن مديري الحجارة الحية، وكذلك مديري الخطابات الميتة، لم يميلوا إلى الخيار الأول ايديولوجيًا ومصلحيًا، فإن حجارة إسبانيا (إضافة إلى أخرى مستعادة من تحت أنقاض الحرب ما قبل الوطنية المزدوجة) كانت لتروي -يوماً ما- تاريخ صراع تم تجاوزه. لكننا لم نكن أكثر بعدًا من هذا قط. فخمسمائة عام ليست شيئًا، وبوسعنا الاستمرار على هذا النحو خمسمائة عام آخر، سيئين في بعض الأحيان، وأسوأ في أحيان أخرى، منقادين لأوروبا ولنخبنا غير المسؤولة، الأكثر عدوانيةً وإيديولوجيةً من شعوبنا، التي لا تقرن الكنائس والقلاع والقصور بأية حرب راهنة، لكنها تعاني العواقب المادية -والسياسية- لهذه الحرب الدينية الأبدية ضد “المسلمين”، أيّاً كان اسمهم في كل عصر، ولهذه الحرب الجرمانية الداخلية الأبدية التي تخوضها اللا أمة، التي كان اسمها المستعار إمبراطورية والآن هو دولة، ضد مواطنيها.

** كاتب المقالة سانتياغو ألبا ريكو Santiago Alba Rico: فيلسوف وكاتب إسباني من مواليد مدريد 1960. يكتب دوريًا في الصحف والمواقع الإلكترونية وله اهتمام خاص بالقضايا العربية والإسلامية. كما أن له مؤلفات كثيرة في الفلسفة والسياسة وغيرها.

 

١  بلدة إسبانية قريبة من الحدود الإسبانية مع فرنسا.

٢  قرية صغيرة في إقليم نابارا-إسبانيا قرب الحدود الفرنسية.

٣  خوسيه لويس بياكانياس: مفكِّر وباحث وأستاذ جامعي من إسبانيا.

٤  المادة 151 من الدستور الإسباني المتعلقة بحق الأقاليم، ومن بينها الأندلس، في الحكم الذاتي في إطار الدولة الإسبانية.

٥   نسبة إلى ايراسموس دي روتردام (1466-1536).

٦  نسبة إلى آل بوربون وهو اسم الأسرة المالكة في إسبانيا حاليًا والمتحدرة من أسرة مالكة فرنسية قديمة حكمت في فرنسا وإسبانيا ونابولي.

رابط الأصل الإسباني:

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

ترجمة: زياد الأتاسي

اترك تعليقا