بين سطور رواية أولاد الناس ثلاثية المماليك
فضلًا عن التنقلات المختلفة لحقبة المماليك، في هذه الرواية أولاد الناس ثلاثية المماليك تأخذنا الكاتبة لبُعد آخر وهو البُعد الإنساني ووصف المشاعر بدقة لا يصل إليها إلا من عايش تفاصيلها. حيث تتحرّك الكاتبة بين ثلاث مشاعر مختلفة في أبعاد الرواية الثلاث.
1 – المارد (فاطمة ومحمد):
“في الإبداع فناء، وفي خروج المارد موت بطئ للقلب وفجوة للنفس، وفي بلوغ المراد مرارة الوصول وانتهاء الطريق”.
في القصة الأولى تحدثت الكاتبة عن المارد الذي يؤرق أصحاب المواهب ويثير بحياتهم الفوضى في صورة فاطمة التي لم تجد طعم الراحة أبدًا بسبب حب الغناء الذي هربت بسببه من منزل ذويها لتلتحق بأماكن الغناء التي كانت عار في زمانها وجريمة تستحق الرجم.
لتتزوج بعد ذلك شخصًا لا تحبه عقابًا لها، وتعيش حياتها كلها تتمنى أن ترى منه إعجابًا واحدًا بصوتها لتفنى دون حدوث ذلك ويفنى ماردها بداخلها.
أما الصورة الثانية له فهو محمد الذي عانق الورقة والقلم والبناء والرسم وكلما انهمر عطاءه خوى قلبه يؤرقه جنبات الليل ويتيه به أروقة النهار.
إلى هنا ينتهي مارد القصة الأولى ولكن لا ينتهي تاريخ المبدعين الذين ربط المارد بين موهبتهم وشقائهم مثل “فان كوخ” الذي رسم في آخر خمس سنوات من عمره ما يفوق 800 لوحة ، وكان مع ذلك يعاني من نوبات متكررة سموه وقت ذلك (المرض العقلي) وشُخص بعد ذلك بالصرع ، حتى أن أفضل أعماله (ليلة النجوم) أنتجها في المشفى النفسي بعد تشخيصه بالصرع، ولكن لم يرض المارد عن ذلك فدله على طريق ابتلاع لوحاته، وتم عزله بعد ذلك عن أدواته فترة.
كانت معاناة فان كوخ الحياتية لا تخلو من فنه حتى قرر إنهائها بواسطة رصاصة في صدره عاد بها إلى سريره بالمشفى ليسكن مارده آخيرًا. كذلك ارتبطت حياة الكاتب -السوداوي “فرانس كافكا” وكتاباته بالمارد، ولم يخفي مارده في مآسي حروفه. فبداية من والده الذي رفض مارده، مرورًا بالهولوكست، ثم شقاء حبه بميلينا، انتهاءً بمرضه ووفاته.
وخرج مارد كافكا متنفسًا حرًا معبرًا عما اعتمر في نفسه في (رسائل إلى والدي) الذي صب سخطه منه فيها. كما عبر عن عزلته في (المسخ) الذي يتحول فيها البطل لحشرة تحتفي أسرتها بمجرد موتها.
كان مارد كافكا قويًا كأنه يعلم بنهاية سنين عمره القليلة… فكتب (الحكم) في ليلة واحدة، ولكنه في النهاية حاول إحراقه كما حرق المرض جسده، ولكنه خرج إلينا بفضل صديقه (ماكس برود) الذي رفض ذلك؛ تاركًا لنا سؤالًا هل أفاد المارد ساكنه؟
2 – الخوف (ضيفة):
“لا تجعلي الخوف يأكل أيامك كالجذام… هو مرض يحفر سنين عمرك ويشوهها”.
في القصة الثانية تظهر لنا شخصية ضيفة بصورة غير نمطية تخرج عن طريق النساء في ذلك الوقت حتى تظن أول الأمر أنك أمام متمردة لا تهاب شيئًا، إلى أن يظهر إلينا خوفها تدريجيًا ويتمثل هذا الخوف في الفقد.
أول الأمر عند فقد حبيبها وتغيَّر حالها إلى أن اجتمعا أخيرًا، ثاني الأمر عند موت أمها وصديقتيها وسجن نفسها بين قضبان العزلة والوحدة إلى أن جذبها زوجها إلى طريق العلم لينتشل روحها من الغرق. ولا نعلم هل العلم هو من انتشلها أم ساعات المشاركة والحديث به التي كسرت حواجز وحدتها؟
وطبقًا لعلم النفس وإدارة الخوف، فقد يصل الخوف من الفقد إلى نقطة تعيق استمرار الحياة بشكل طبيعي وهنا تتجلى عبقرية الروائية في وصف حال ضيفة حينها من نقطة نفسية بحتة وإلقاء الظل على الخوف من موتنا أنفسنا وربط ذلك بالوحدة.
وبإلقاء نظرة على المبدعين نجد الفنان النرويجي “إدوارد مونش” يتحدث عن خوفه في أعماله مثل لوحة الصرخة التي جاءت نتاج إصابته بالخوف المرضي، وكتب في مذكراته عن ذلك قائلًا: “الخوف من الحياة ضروري لي فبدون القلق المرضي أنا كالسفينة بدون أمواج، معاناتي جزء مني ومن فني”.
ويثير ذلك تساؤلًا، هل الخوف المرضي يوقف حياة صاحبه أم يدفعه للإبداع مثل مونش؟
3- جلد الذات.. (سلار):
“كنا ثلاثة فرسان نجتاز الجسر معًا، وخرج الوحش من الأعماق ونفخ النار في الأحجار، فانهار الجسر أو كاد”.
أما القصة الثالثة فلا أظن أن يصل لنهايتها أحد دون أن يُجري دمعه تأثرًا، فتصل هذه القصة بين نهاية حقبة المماليك وبداية عصر العثمانيين.
ويرى القارئ نفسه متتبعًا لخطى سلار وصاحبيه الفارسان وأعد الثلاثة الخطط والعمليات وقادوا الحروب لمواجهة العثمانيين إلا أن انتهى طريقهم بقتل سلار أحدهما بعد أن وقع في يد العدو بناءً على عهد بينهم وتنازل الآخر عن بعض مبادئه ليواكب هزيمتهم وينصهر في جلدة العثمانيين، أما سلار فبقى أسير تيهة نفسه بعد إعدام سلطان المماليك “طومان باي” على باب زويلة وخسارة الحرب التي خسر معها تنعم روحه بالسلام، فكان يستيقظ ليله معيدًا أطوار المعركة باحثًا عن تفاصيل النصر وأرواح من قُتلوا.
ولعلنا لمسنا جلد الذات في قصيدة “ابن زريق البغدادي” اليتيمة التي وجد المنهج النفسي سبيله إليها من خلال معاناة النص التي توحي بضيق حاله وكمده في توفير سبل الحياة له ولزوجته، وتنضج القصيدة بالشكوى والآلم ولوم نفسه على حاله الذي وصل إليه، إلى أن أكل اللوم قلبه ومات متأثرًا بحزنه.
انتهت رواية “أولاد الناس ثلاثية المماليك” ولكن لم تنتهِ شخصياتها الحافلة بعمق المشاعر والتي لامست واقعنا قديمًا وحديثًا تاركة لنا شبح المارد ووحدة الخوف وآلام جلد الذات، في انتظار مسعانا نحن بتتويج هذه المشاعر إما بإبداعٍ وانتصار يُسجل بالتاريخ، أو بسكون النفس وعجزها عن العيش.