شيرين أبو عاقلة (فليُرْفَع العَلَم)

(المُجْرِم موجود والأداة موجودة والشَّاهِد العالَم أجمع)
بهذه الكلمات كانت بداية تأبين الصَّحَفِيَّة (شيرين أبو عاقلة) التي اسْتُشْهِدَت صباح الأربعاء الموافق ١١/٥/٢٠٢٢ أثناء تغطيتها لجرائم الاحتلال الصّهْيونِيّ في مُخيَّم جنين.

جنازة مَهيِبة تحرَّرت خلالها القُدْس، بدأت من تشييعها كما يليق بها الأربعاء يوم وفاتها محمولة على أعناق المُقاوَمة في جنين، واُستكمِلت يوم الجمعة.

أرادوا أن تُشيَّع في سَيَّارة الموتى، وزُفت بين الناس في أنحاء فلسطين إلى مثواها الأخير، أرادوها وحيدة وكان معها الآلاف، اشترطوا أن تكون بلا عَلَم فرُفِع العَلَم مُهللًا في أنحاء القُدْس كلما أخذوا واحدًا ظهر العشرات، أزالوه من على النَّعْش فوُضعت محله الكُوفِيَّة وأعلام أخرى، وتَمّّ إزالة العَلَم الصَهْيونِيّ بالقوَّة بدلًا منه، ودُقَّت أجْرَاس مُختلَف الكَنَائِس لأول مرَّة جمعاء، لتُعلِن أن فلسطين أرضنا وهذه هُويَّتنا. أمام الحَشْد والغضب والهُويَّة الحقيقية انسحب المُحتَلّون إلى مخابئهم ليظهر أصحاب الأرض الحقيقيون.

الفَاشِيَّة تظهر والعالَم يُشاهِد:

قبل الجنازة تَمَّ اقتحام منزل (شيرين أبو عاقلة) ومُصادرَة الأعْلَام الفلسطينيَّة من منزلها في تَدَخُّلٍ سَافِرٍ ودون مُراعَاة لأدنى درجات الإنسانيَّة، ثُمَّ استدعاء أخوها (طوني أبو عاقلة) وإخباره بمنع رَفْع العَلَم في الجنازة ومنع الهتاف والسَّمَاح فقط بالعدد القليل، ليكون بذلك أوَّل إملاء لشروط قاتل لجنازة ضَحيَّته، لم يَصمُت الاحْتِلال على ذلك، بل قدَّم ما هو أسوأ من الاعْتِدَاء على الجنازة واعتقال الفلسطينيون وإحداث الإصابات واقْتِحَام المستشفى الفِرنسيّ المَحمي بواسطة السُّلُطات الفرنسيَّة والفاتيكان، ليكون سِلاحهم خيَّالة وجنود ورصاص ومياه عادمة وغاز، وسِلاحنا فقط عَلَمٌ ونَعْش. هنا اكتفى العالَم بالإدَانَة وذهبت العُقُوبَات مَهَبّ الريح خوفًا من أن تُصيب نجمة داوود إحدى عينيه فتفقأها فنرى دماءه المُلوَّثة بالذُلّ والمَصْلَحة وميزان القوة.

لنا ثَأْر:

أحْيَت شيرين أبو عاقلة بدمائها الزَّكيَّة جرائم هذا الكِيَان منذ قديم الأزَل، فقد كانت الصّهيونِيَّة تتغلغل في دمائهم وإن لم تكن مُعلَنة بعد، فلم تكن شيرين الأولى، بل لنا ثَأْر يمتد معهم من بدايات الإنسانيَّة.

إعلان

لتعتذر لنا الإنسانيَّة عن الرَّصَاص الذي يُحيل الرُّوح إلى سكونٍ والنَّفْس إلى رمادٍ، وعن الكلمات التي غَضَّت بصرها عن الحق لتكوِّن اتفاقيات وعندما تثور تتحوَّل لإداناتٍ، وإلى المارد عندما يُقاوِم دفاعًا عن أرضه ودمه فيُدَّعى عليه باسم الإرهاب. إلى الهُويَّة المُدنَّسة معلومة الأصل مجهولة القوى، وإلى هُويَّتهم المُدَنَّسة مجهولة الأصل معلومة القوَّة. إلى الشُّعُوب الداعمة مسحوبة بخِذْلان التَّطْبيع. إلى القلم الذي انكسر عِدَّة مرَّات وعندما عاد كان مُثْخَنًا بالجِرَاح. إلى الرِّيشَة معدومة الألوان إلا الأحمر. إلى الصَّوْت مُتكسِّر الأحْرُف، الناقص دائمًا وأبدًا كبقيَّة الأشياء. إلى فلسطين لأنها دائمًا مننا ولم نكن منها.

لم يكن اغْتِيَال شيرين مَحْض صُدْفَة، فتفجير مقر قناة الجزيرة في غزة في الحَرْب الأخيرة عليها، واعْتِقَال جيفارا البديري مُرَاسِلة القناة والاعتداء عليها في الشيخ جرّاح، ثُمَّ إصابة (علي السمودي) الصَّحَفِيّ المُصَاحِب لشيرين أثناء مقتلها في مُخيَّم جنين، يُوضِّح لنا جميعًا حقيقة اسْتِهْدَافها.
فلم ينجح الاحْتِلَال هذه المرَّة من تدنيس الحقيقة كما دَنَّس التاريخ.

نماذج حَيَّة:

في العصر الحديث قام الاحْتِلَال بقتل خمس وخمسين صحفيًّا منذ عام ٢٠٠٠ إلى الآن، بالإضافةٍ إلى تفجير برج الجلاء الذي يحتوي على وكالات إخباريَّة تنقل للعالَم جرائمهم، كأنه أراد أن يخرس صوت الحقيقة كما أخرس صوت العالَم.

ويتحدَّث التاريخ عن جرائمهم بالنماذج الحيَّة مثل:

اغْتِيَال الكاتب غسان كنفاني عام ١٩٧٢ بواسطة عبوة ناسفة في سيارته من قِبَل جهاز الموساد، لتتحوَّل جُثَّته إلى أشلاءٍ وتتفحَّم جُثَّة ابنة أخته الطفلة، ليتمّ على إثْر ذلك غلق مكتبهم في بريطانيا بواسطة مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك.

كما لم يَسْلَم الأطفال من بَطْشهم، ليصدِّروا للعالَم أجمع صورة من لا يخشى شيء، ليداروا صورتهم المُحمَّلة بالجُبْن والخيانة، فها هو محمد الدرة يُغتَال مرَّتين، مرَّة برصاصهم الغادر، ومرَّة بكاميرات العالَم. وها هو الشيخ القعيد أحمد ياسين يُقصَف كُرْسه المُتحرِّك الذي يرعبهم وهو عائد من صَلَاة الفجر، ورفض الكِيَان الصّهيونِيّ من مجلس الأمن التحقيق في مقتله بحُجَّة أنه إرهابيٌّ، ليقتنع المجلس ويرتدي رداء العمى.

والآن وليد الشريف، الشاب الحُرّ، الذي ارتقى مُتأثِّرًا بجراحه بعد اقتحامهم المُدَنَّس للمجلس الأقصى، ليُدير العالَم ظهره لسلميته وجرائمهم، وما عقب ذلك كان ألعن من مماطلة تسليم جثمانه لاقتحامهم مقبرته أثناء دفنه، مثيرون أكثر من سبعين إصابة وعشرات الاعتقالات، رامين بكل بنود القانون والإنسانيَّة عُرْض الحائط، ليلعنهم الموتى ويشاهد فقط الأحياء.

فلتُوْقِظنا الدِّمَاء:

النماذج السابقة متنوِّعة الأدْيَان، متنوِّعة السُنُون، ما بين مُسلمٍ ومسيحيٍّ، شبابٍ وشيوخٍ، نساءٍ وأطفالٍ، يوضِّحوا لنا حقيقة من احْتَلَّ الوطن وقتل أبناءه، فليَغُضّ البصر من أراد وليبصر من لا يهاب.
في النهاية تواسينا كلمات شيرين أبو عاقلة: “ليس سهلًا أن أغيِّر الواقع، لكنني كنت قادرة على إيصال صوتنا إلى العالَم”. فكما أوصلت صوتنا بكلماتها أوصلته بدمائها، فلتُحمَل إلينا القُدْس على أعناق المقاومين كما حُمِلَ جُثمانها. فما أُخِذَ بالقوَّة لا يُسترَد سوى بالتكاتُف والإيمان والقوَّة.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا