أنا القدس: عن التعايش والحرية والهوية على وقع موسيقى كلاسيكية

على مدار قرون عكف الغرب الأوروبي على دراسة المشرق العربي دراسة متعمقة تصل به إلى الجذور. فدشنت في المعاهد والجامعات الأوروبية أقسام لدراسة اللغات والآثار الشرقية. وقد سبق ذلك توافد المئات من الرجال والنساء من مختلف الطبقات والفئات عرفوا في العصور الوسطى بالمستشرقين هدفهم الأساس المعرفة والتدوين. وكشف خبايا وتفاصيل الحياة عند أهل المشرق. فسجّلوا بكل دقة تقاليدهم وطقوسهم وعادتهم. فصدرت عشرات الكتب التي تتحدّث عن الحياة اليومية وتقاليد الحرملك، وأسرار الحريم في المشرق. مراجع بها شروح وافية عن طبيعة منطقتنا العربية هذه البقعة السحرية الآسرة على سطح الكرة الأرضية، التي جذبت كل الأمبراطوريات الإستعمارية على مر العصور كما ينجذب الفراش إلى مصدر الضوء.

تمايزت رحلات المستشرقين الذين قصدوا الشرق للدراسة والتدوين، فبدت في بعض الأحيان حالمة وعفوية ترقى إلى عتبات الرومانسية، بينما كانت في أحيان أخر أكثر واقعية ومنهجية. وعضدت بدعم كنسي روحي ومادي. وما بين محاولات صادقة للتعارف والتعايش ومحاولات أخرى للتشويه والتشويش وخلق صورة منفرة لشعوب المنطقة وقبائل الصحراء في الشرق. تمنح مبررًا أخلاقيًا للحملات الإستعمارية التي بدأت في أواخر القرن الحادي عشر بروح وصبغة دينية وضعت في أولوياتها تحرير بيت المقدس من دنس البرابرة العرب. لكنها مع الوقت اتّخذت عنوان آخر جاذب بدأت ملامحه تتشكّل مع قدوم الحملة الفرنسية والتي ادعت تخليص بلاد المشرق من التخلّف الذي تعيش فيه وإستبداله بنمط حياة متحضّر. يدفع في طريق التقدّم. فقد أخذ الشرق وقتًا أطول من الازم لينتقل إلى عصر الحداثة كما في أوروبا. ليغلف الإستعمار نفسه بوجه جميل، وهدف نبيل لا يمت للواقع بأدنى صلة. يسقط عند أول مواجهة بين الواجب الذي رفع شعاره خفاقا، فيذبح ويحرق الناس أحياء إذا ما أقتضت الحاجة، ليظهر الوجه الحقيقي للاستعمار الغربي في أبشع صوره.

ظلّت فكرة التقارب ما بين الشرق والغرب حاضرة في القرن العشرين في أوساط المثقفين من الجانبين بعد قرون من الصراع المرير غير المبرّر لدى الكثير منهم. هنا يبرز اسم الكاتب والمفكر الفرنسي جيلبير سينويه الذي ولد في العام 1947 من أب مصري وأم فرنسية. ونشأ في مصر حتى بلغ سن التاسعة عشر، حتى إستقرّ به المقام في باريس. لكي يصبح فيما بعد أحد أهم صانعي جسور التواصل بين الشرق والغرب. فالأديب فرنسي الجنسية المصري الأصل لم يكن مستشرقا تقليديا، لكنه نتاج طبيعي لتلاقي ثقافتين وتمازج هويتين، يجمع في جيناته سمات حضارتين تليدتين لا تطغى إحداهما على الأخرى بل تخلق واقعا مغايرا وآمالا عريضة وآفاقا لمستقبل أفضل إن أحسن استغلاله.

بدأ سينويه حياته كموسيقي يعزف على القيثارة. فأثّر ذلك في مخيلته، ونشاطه الإبداعي منذ نشأته الأولى وترك بصمة على أعماله الأدبية وتركيباته اللغوية. نشر روايته الأولى المخطوط القرمزي في سن الأربعين. رواية تدور أحداثها في فلك الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا السادس عشر لها فحازت على جائزة أفضل رواية تاريخية عند صدورها في فرنسا. ما دفع سينويه للاستمرار في الطريق الذي سلكه متأخّرًا، لتتوالى أعماله الأدبية. وتتبنى مشروع واضح المعالم. بعدما هضم تجربته الشخصية ورؤيته العصرية في فنّ التعايش ونسج خياله الخاص وفق أفكاره فظهر ذلك جليا في رواياته شديدة التميز والتي تروي حكايات تبدأ في القاهرة ولا تنتهي إلّا في أصفهان. يتحدّث فيها بطلاقة وإسهاب عن مواضيع وأحداث تاريخية شتى، في أزمان عدة، تحمل كلماته المعنى ذاته والطابع نفسه، عن الصراع الرهيب الدائر في عالمنا المعاصر في محاولة إقصاء الآخر والقضاء عليه أو تهميشه في أحسن الأحوال.

استخدم سينويه التاريخ كأرضية خصبة لشرح أفكاره. يذهب جيلبير بعيدا ليطلعنا على أخبار الطبيب والفيلسوف ابن رشد، ومعاناته مع الرافضين لفكره وفلسفته. ثم يبعد في رواية أخرى أكثر حتى نصل إلى زمن الملك أخناتون ليحدّثنا عن صراعه مع كهنة آمون. ثم ينتقل بنا في رواية ثالثة إلى مصر وعصر محمد علي باشا الذي إستطاع في لحظة فارقة أن يحكم أرض الكنانة. ثم يقفز في رواية أخرى لعهد حفيده فاروق وصراعه مع ضباطه الذين أخرجوه من القصر. يروي سينويه حكايات مشرقية من عواصم عربية فيتحدّث بصدق ودون تحفّظ. له في أرض المشرق ذكريات وعهد، وفوق ترابها أحداث عايشها بنقسه في طفولته وصباه لتمضي كتاباته قدمًا في عالم خاص مبني على الخيال لكنه يحتفظ بنظرة ناقدة لشخصيات مؤثرة، ووقائع تاريخية مثيرة للجدل. سردها بنظرة روائية، لا تخلو من روح بحثية مدقّقة. فكتب أكثر من ثلاثين مؤلفًا وترجمت أعماله إلى عدة لغات.

إعلان

في روايته أخناتون .. الإله. اللعين يقدم سينويه رؤيته على لسان بطلي الرواية جوديت فابر والبروفسيور لوكاس ويستعرض من خلال مجادلاتهما حقبة مثيرة في التاريخ المصري القديم مليئة بالألغاز والأحاجي مستعرضًا نظريات عدة عن حقيقة الملك الذي حير علماء الآثار وأرهقهم، بينما ظلّ على الدوام ملهما للأدباء والفنانين.

أما في روايته ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان يستخدم سينويه أسلوبا آخر للسرد فيتحدّث بلسان أبو عبيد الجوزجاني تلميذ ابن سينا المخلص وتابعه الأمين فالأحداث والوقائع تروى كما ترأت له خلال مرافقته لأستاذه. ما رفع عن الكاتب الحرج في طرح وجهة نظره التي بدت واضحة بلا لبس، لكنه بذكاء جعل القاريء يتفاعل مع الأحداث ويتابع خط سيرها من منظور الجوزجاني والذي أطلعنا بقصد أو دون قصد على سيرته الذاتية وحياته الشخصية من خلال حديثه عن معلمه ابن سينا.

لحظات الإنكسار والضعف ربما تكون أكثر اللحظات قدرة على الوصف والشرح يستعرض جيلبير سينويه في روايته اللوح الأزرق أيام عصيبة مفصلية في التاريخ الإسباني. بخروج العرب المهين من الأندلس والأحداث الدامية التي لحقت بهذا الحدث وترتّبت عليه، من محاكم تفتيش وقتل ونهب وترويع ألّم بالمسلمين واليهود على حد سواء بأيدي المسيحيين الإسبان. والذين أرادوا إعادة بسط سيطرتهم وفرض هيمنتهم والتخلّص من الآخر بشكل كامل.

أما في روايته يريفان فينقل لنا سينويه رؤيته للصراع نفسه، الذي يعد نهجًا في معظم أعماله؛ صراع الغرب مع الشرق، ومناطحة الحضارات بعضها لبعض، وإختلاف الأجناس والثقافات، وتضارب المصالح الذي كان سببًا في كل الفتن والحروب التي حدثت ومازالت تحدث على وجه الأرض. فيطلعنا على وقائع مذابح الأرمن والدماء التي راقت، والظلم الذي وقع عليهم في قصة تبدأ مع نهايات القرن التاسع عشر ثم تنطلق إلى بدايات القرن العشرين تحديدا في العام 1914 وإندلاع الحرب العالمية الأولى حتى نبلغ نهايتها بعد أربع سنوات حزينة في عمر التاريخ الإنساني.

في رواية المصرية والتي تبدأ أحداثها في أواخر القرن الثامن عشر وتنتهي مطلع القرن التاسع عشر بلحظة مفصلية في التاريخ المصري عندما يتولّى محمد علي باشا حكم مصر، يروي سينويه الأحداث الدرامتيكية التي شهدتها مصر من خلال قصة حب تجمع فتاة مسيحية تدعى سميرة، وشاب مسلم يدعى علي الترجمان من الجنود الإنكشارية. بكل ما تحمله القصة من اعتبارات أخلاقية ودينية وعرقية. تزيد من حدّة الصراع المحتدم على وقع نبض التغيير وأرض تتحضر لحدث جلل سيعيد تشكيلها من جديد ويستمر لعقود من الزمن.

لم يكتف سينويه بما جاء في رواية المصرية بل أصدر كتابًا بعنوان الفرعون الأخير محمد علي، زيّنه بمقدمة بديعة لعالمة الآثار كريستيان ديروش نوبلكور. تناول فيه تجربة محمد علي باشا بطريقة أكثر موضوعية بعيدًا عن الأدب. أما في روايته مذكّرات من مصر البكباشي والملك – الطفل. يذكر سينويه تاريخًا آخر لصراع دار بين القصر والملك من جهة وضباط من الجيش من جهة أخرى. وبمقدمة الرواية مشهد آسر يعبر بإقتضاب غير مخل عما جاش في صدر سينويه وداعب مخيلته وهو يكتب روايته:

“رأيت بأم عيني كناسا باسلا يكنس الرمل من الطريق عند سفح الأهرامات لساعات متواصلة تحت الشمس الحارقة.. لا يكاد يخلص بضعة أمتار حتى تكسوها الرمال من جديد. هذا هو قدره. إنها معركة خاسرة مقدما. ماذا بوسعه أن يفعل؟ هذه مشيئة الخالق. الصبر ثم الصبر. فالمجتمع المصري قدّ من الصبر. غدا يا ولدي سيكون كل شيء إن شاء الله على ما يرام. لا تنس أبدا أن الفرس والأغريق والرومان والمماليك والأتراك والفرنسيين والإنجليز. كلهم ولوا الأدبار. وبقينا نحن ها هنا”.

كان لسينويه رأيًا واضحًا بشأن القضية الفلسطينية دونه في أعمال تناول فيها تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وأبرز حق الشعب الفلسطيني في العيش الكريم فوق أرضه، ومن أهم ما كتب في هذا الصدد أريج الياسمين وصرخة الحجارة، وروايته الأحدث. أنا القدس وفيها ترك جيلبير المدينة العتيقة تتحدّث عن نفسها وتروي قصتها كما يجب أن تكون. فتقول:

” بعد قرون من الصمت قرّرت أنا القدس أنا أتكلم لأروي قصتي الحقيقية ، لا تلك التي يشيعها الممالئون لي، أولئك السذج الذين يتخيلون أن لا مناص لي من أن أكون لواحد منهم، والذين ينظرون إلي كعروس يستطيعون أن يضعوها في قفص، أو كبغي تسلم نفسها لمن يدفع أكثر… أنا القدس”.

إنّ من يقرأ الأدب، ويدرس التاريخ، يعلم تمام العلم أنّ الأيام دول. فالظلم يولّد الغضب، ولا يجلب سوى الكره، ويدفع حتمًا للثأر في حلقة جهنمية لا خروج منها إلا بمعجزة. ومهمة أصحاب العقول الواعية، والنفوس النقية، والضمائر الحية، قرع ناقوس الخطر عندما تتفاقم الأزمة، وتصل إلى نقطة اللاعودة.

إعلان

اترك تعليقا