أنا أصدق ياسر محمود

“سيأتي الموت، وسيكون له عيناك
ذلك الموت الذي هو رفيقنا” سيزار بافيز

شتاء 2

ليس الأمر أني أصدق كلّ من يخبرني بشيء، أو أنّ كلّ من يقابلني سوف أكون معه في غاية البلاهة. أعرف أنّي أبدو أذكى مما أبدو. أنا في الحقيقة أحيط نفسي بغلاف قميء من الثقافة الزائفة حتى أبدو من بعيد بمظهر العارف. لكني لا أظهر واثقًا رغم كل شيء، وتجدني واقعًا في لومة من الحسابات الجائزة. كنت تائهًا أتبع العديد من الخيارات لأطعم الضوء بعيني، أحسّ دومًا أني أعمى وأنا أنفق مالي وأغادر اليوم مغدورًا، تولّد لديّ شعور دائم أني سأغادر الحياة دون أن أترك أثرًا بالغًا بين الرفاق، كنا، عفوًا كنت أمضي حياتي كما المرووش، كان ذلك حتى قابلت ياسر محمود.

شتاء1:

كان ذلك من سنة تحديدًا، قابلت ياسر على المقهى، كنا بقلب شلة ما، أخذنا الحوار، بعد أن هدّد بنفث علبة كاملة معي من الدخان إذا لم أستمع له. كنت أسمع من هنا، وأخرج من هنا. لم أهتمّ كثيرًا حتى قام ياسر ولوّح بأول محادثة بيننا على الفيس تاركًا “ميصاء الخير” بأحرف صفراء عملاقة، بعدها الكلام سحب نفسه وامتلأ الشات خاصّتنا بإيموجيز، وميميز وبقطط طائرة. وصارت محادثتنا معًا بغاية اللطف الذي استغربته. وفي إحدى المرات، المرة السادسة تقريبًا من محادثتنا المشتركة التي يفتحها دومًا ياسر. أرسل ضحكة بصوته. كانت غريبة كأنها مختزنة من القرن السابع عشر، ضحكة مفتعلة للغاية، تلك الضحكة التي تحتاج معها لأن ترجع رأسك للوراء، دون أن تلتفت أنّ هناك حائطًا وراءك. يومها انكفأت على مؤخرتي من الضحك وأنا أحاذر ألا يمسك أحد ضحكتي، ويلبسني بالجنون لأنّ يومها اهتزّت أركان غرفتي بي.

ربيع 1:

إعلان

ليس في حياتي شيء تُحسد عليه، لا أضع حارسًا مكاني وأنا أغادر غرفتي، مكتبي، اللاب فقط قتيل على المكتب، بعض الشرائط المنسية لنجاة، وعبد الحليم، ووردة، ثلاثة دواوين شعر لصلاح عبد الصبور “أحلام الفارس القديم” و”بعد أن يموت الملك” و”مأسأة الحلاج ” ولا شيء آخر. أغدو أحيانًا لأشاهد سيجارة وهي تحترق أمام عيني إلى أن ألقيها بقسوة من البلكونة.

أنا لست ملاكًا، أحيانًا بل الكثير أريد أن أشرب الكثير من الخمر. ياسر أخبرني أنه أيضًا يريد ذلك. لم أكن أعطس إلا وياسر يشمتني. لم نعد نفارق بعضنا البعض، أصبحنا أقرب لرجل وظله. فولة وانقسمت فلقتين. فقط ياسر يستطيع أن يمتصّ زجاجة كاملة دون أن يثمل، لم أرِد أن يراني وأنا هكذا. اتخذت محادثتنا جانبًا تافهًا، رغم أني أريد أن يحدّثني حقًا عن مواضيعي الحياتية، أن يدلّني لشيء. كأن يشاور على أول امرأة تعبر “دي ست حلوة. تنفع لينا”

لكن يا ياسر، لن يمضي وقت حتى نكرهها معا، نحن بالفعل نقضي وقتًا حلوًا بدونها. جدًا حلو. يومنا بسيط ومكرر، نسهر أو نسكر- لا فرق- للفجر، نستيقظ على الظهر، ننزل لنحرّر أقدامنا الأربع. ننقع همّينا معًا، تخيّل منتهى الخمول والملل الذي سيتخللنا بسينما مثلًا وبيننا ست. بيضة بريشت نيئة بيننا.

صيف1:

في إحدى المرات أمسك ياسر كرشه، وهزّها حتى ترجرجت. وأراد -ورأسه تحولت أمامي لألف سيف- أن يمضي بي غصبًا إلى مطعم شعبي، أمسكت شراهتي، لكنه أصرّ، كان محقًا، لم يحدث شيء لنا، ومرّ الأكل واليوم وأنا على ما يرام. كلّ ما أخبرني ياسر محمود كما عرفت منه اسمه بالكامل كان الحقيقة ولا شيء غيرها.

أخبرني، بالأيام التالية، بأهم حكمة في الكون، الفلوس هي محرّك العالم، ثلاثون سنة مضت وأنا أظنّ الحب كذلك. ولم أجد يومًا أحدهم ركع لأجل شيء سوى للنقود. ببحثي عن محرّك البحث عن الحاج الحلاج والذي قال “إنّ إلهكم الذي تعبدون تحت قدمي هذه!”. من المؤكد أنه خسر مالًا كثيرًا بمجرد قوله ذلك.

لم يعطني ياسر مالًا لأنفقه، لكنه أخبرني أني أحتاج فلوسًا على الأقل للتحرك، لأحقق مزيدًا من التقدم فلا أقف، بمكاني. ألا أعبث أبدًا مع الوقت. أن أحرسه جيدًا، كلّ دقيقة بحساب. أحيانًا يسحبني من يدي ناحية حفلة صاخبة، نسيح بها دماغينا لبضع الوقت. لكن بعد ذلك عمل ولا شيء غير العمل لمدة غير محسوبة، طالما هنالك عمل نعمل.

آسف على صيغة الجمع التي استخدمها، أنا لم أعتد بعد أن عرفت ياسر على صيغة المفرد. أحيانًا كنت أخون تعاليم ياسر الحميدة، وأخونه، ولا أفعل شيئًا باليوم سوى النوم والأكل. لم أصل لشيء حقيقي، كان نوعًا من العناد ليس أكثر. لا أعرف إن كان معه، أو مع نفسي التي لا أعرفها.

قرأت أيضًا عن النت عن علاقة القائد والتابع. أنّ العلاقات الثنائية مهما بلغت درجة حميمتها، لا بدَّ لأن تنتهي بعلاقة من قائد يملي أوامره ومتبوع فقط ينفذ ويدفع أحيانًا. بعث لي ياسر بصورة لتويتة معينة عن الحشيش، هل ياسر يفعل كذا أيضًا مع كل الناس؟ أم معي فقط؟ ولمَ معي أنا فقط؟ هل بي خطأ، أم أنه وجد تلك المعادلة من التابع والمتبوع متحققة. أنا لا أعرف، فقط أحزر. من يعرف!

ربما يجرّني لتجربة نفسية معه، من المحقق أنّ “ياسر محمود” طبيب نفساني، يجرّب تقنية جديدة عليّ، ويظهر لي أنه اختارني كأوائل أرانب تجاربه الحية. أنا أعلم أيضًا أنّ ما يصلح لي لا يصلح للتطبيق لغيري. هذا ظني وكفى.

خريف1:

ظللت أفكّر هكذا لفترة، امتنعت فيهما عن رؤية ياسر محمود، وبنفس الوقت طردت هذا الهاجس عن بالي، شهرين وأنا أمتنع عن مقابلته بأعذار واهية للغاية كإعلان “حجاج عبد العظيم” “أمي بتولد” “خالتي بتغسل” “خالتي بتخبز”.. سلسلة من التهربات التي جررت بها أسرتي السعيدة معي، رغم علم ياسر بأني غير حميمي، تجاه أي شيء، ليس تجاه بشر بعينهم. وجدت بعد شهرين أنه لا يوجد مفرّ من المواجهة، ولا بدّ لي أن اعترف أمام كوب شاي مع ياسر -شئت أم أبيت- بنظريتي تجاهه، لكن ما أن جاء ياسر حتى نسيت. نسيت النظرية. وتركته ليركب عقله من جديد، ويفرد عضلاته أمامي. تأكدت يومها من صدّق النظرية التي قرأتها على النت. ياسر أتى من حيث لم آتي، لم أبدي اهتمامًا حقيقيًا هذه المرة لمغزى أوامره، لكني كنت أنفذ بالحرف ما يطلبه مني.

شتاء2 مرة آخرى:

أغادر الليل وأنا لا أعرف إلى أين أمضي، لكنّ ياسر يعرف، عني. بيوم أخبرني ياسر أني بحاجة لمطواة. مطواة أحملها معي بكل مكان أطأه، لأنه لا يصح بمنطقة كما التي أسكن بها، أن أتسحب بين العطفات لأصل البيت. كنت أسعل بأول كلّ حارة، وأحيانًا أتنحنح وأنا أدلف ناصيتها.

بالفعل اشتريت مطواة، وأصبح لديّ مال يستحقّ لأجله أن أغلق بابي بالقفل، اشتريت مطواة ثم قفلًا من نفس الرجل، والآن أغلق غرفتي عندما أنزل. أصبح لدي ما أخاف عليه بالغرفة، وأقعد بالظلام كما أخبرني ياسر. وكلّ هذا بفضل ياسر محمود. بقي لي سنة، تحسّنت في مرتبتي الوظيفية، وتركت حبيبتي، ليس هذا الوقت المناسب لذلك، هكذا أخبرني ياسر، فعلت كلّ ما نصحني به، وحياتي تتحسن، ليس هنالك سببًا لأكذبه، وكذلك لا أعرف لماذا يفعل ذلك معي، ياسر من المؤكد جدع. وأنا أصدّقه.

قصة إسلام عشري من مصر

إعلان

اترك تعليقا