أمور شخصية: حب وتانجو وحكايات وطن لا يرى البحر

ما الوطن؟

قد يبدو السؤال ساذجًا أو رومانتيكيًّا أكثر من اللازم، لكن دعونا نقف قليلًا أمام دلالات الكلمة بكل ما تحمله من معانٍ وممارسات شخصية صغيرة نحملها معنا أينما رحنا، دعونا نخلع عن الكلمة كل الخطابات الحماسية الفارغة ونفكر في معناها المجرد ونحاول تفكيك الكلمة إلى يومياتنا البسيطة: فطور بسيط يزين مائدته طبق الحمص الشهي الغارق في فيضٍ من زيت الزيتون الذي لا مثيل له في الدنيا بأسرها، ورائحة الزعتر مع اللبنة، وغلاية القهوة بغطائها الذي لا يفارقها، وعبق بيارات الليمون والبرتقال، وحكايات يافا وحيفا وعكا وبيسان وطبرية ونابلس ورام الله والناصرة والقدس سيدة مدن الدنيا.. ببساطة فلسطين.

سيدة الأرض أم البدايات أم النهايات!

كما سماها نبي الحرف والمعنى محمود درويش. تلك التفاصيل الصغيرة التقطتها بمهارة المخرجة الفلسطينية مها حاج (ابنة الناصرة) في شريطها السينمائي الأول “أمور شخصية” والذي كان عرضه الأول بقسم (نظرة ما) ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي في نسخته التاسعة والستين عام 2016م، ليثير وقتها كثيرًا من الجدل؛ لأن الفيلم -والذي يعرض تفاصيل حياتية فلسطينية حتى النخاع من خلال سرده لوقائع حياة أسرة نصراوية- شارك في المهرجان الكبير حاملًا اسم إسرائيل؛ وذلك بسبب تعقيدات إدارية كثيرة داخل دولة الاحتلال تشترط على كل الأفلام التي تلقت تمويلًا من صندوق الفيلم الإسرائيلي أن تشارك في المهرجانات الدولية باسم إسرائيل كدولة مُنتجة لها -وإن كان الفيلم لا يمثلها ثقافيًّا أو كان الفيلم فلسطينيًّا خالصًا بكل عناصره-.

يسرد فيلم أمور شخصية حياة عائلة من الناصرة يمثلها زوجان في منتصف الستينيات من العمر: صالح (محمود شواهدة) وزوجته نبيلة (سناء شواهدة) يعيشان معًا حياة رتيبة ومملة؛ فالزوج لا يسأم من جلسته الطويلة أمام الحاسوب يقرأ عن موضوعات غريبة أو يتواصل مع ابنه هشام (زياد بكري) المقيم في السويد عبر برنامج سكايب. أما الزوجة فتقضي يومها في شغل الصوف ومشاهدة بطلها المفضل كيفانيش تاتليتوج المعروف عربيًّا باسم مهند. حياة رتيبة يأكلها الصمت، مما دعا ولدهما هشام لدعوتهما لزيارته في السويد لقضاء عطلة تكسر إيقاع حياتهما القاتل.

أمور شخصية

إعلان

يستعرض الفيلم محورًا آخر وهو حياة الابن الثاني طارق (دريد لداوي) والمقيم في رام الله وعلاقة الحب بينه وبين ميساء (ميساء عبد الهادي) صديقة أخته سمر (حنان حلو) التي تقيم في رام الله أيضًا مع زوجها جورج (عامر حليحل) الذي يعمل مكانيكيَّ سيارات، ويحلم بأن يرى البحر ولو مرة واحدة، تسكن معه في نفس البيت جدته التي فقدت ذاكرتها ولا تذكر من حياتها كلها إلا حكايةً قديمةً عن رحلتها مع والدها إلى نابلس لاختيار بلاط لأرضية المنزل.

يناقش الفيلم حياة ثلاثة أجيال من الفلسطينيين: جيل النكبة المتمثل في الجدة التي تحيا في نوستالجيا لأغاني أسمهان وأفلام الأبيض والأسود، وتحاول أن تحكي حكايتها الوحيدة ولا تجد آذانًا صاغية. والجيل الثاني المتمثل في الزوجين وحياتهما الفارغة، ذلك الجيل الذي لم يعد قادرًا على مواصلة الحياة بهذا الشكل ولا لديه القدرة على الانفصال حتى، ليبقى القرار معلقًا حتى النهاية. وأخيرًا جيل الشباب الذي عبرت عنه العلاقة المرتبكة بين طارق وميساء، فـطارق يرى ميساء محافظةً أكثر من اللازم ولا يقبل بشكل العلاقة بينهما، مما دعاه لتعريفها بكلمة “صديقة” وهما أمام الحاجز الأمني في الطريق إلى القدس. كذلك يتعرض الفيلم لعلاقة الزوجين جورج وسمر التي لا تقل غرابة عن علاقة الزوجين صالح ونبيلة.

وطن لا يرى البحر: 

المخرجة مها حاج

بالنظر إلى خريطة فلسطين، وبحساب المسافة بين الضفة الغربية والبحر المتوسط، يدرك المرءُ مدى مرارة الوضع القائم على مواطني الضفة، واقع أليم لا يخلو من السخرية؛ فلك أن تتخيل أن المسافة بين طولكرم وشاطئ البحر في نتانيا مثلًا تقرب من 15 كم، وبرغم ذلك لا يستطيع فلسطينيو الضفة الذهاب إلى هناك حيث أعظم بحار الدنيا.

حكت المخرجة في حديثٍ تليفزيوني ذات مرة أنها استلهمت قصة جورج المفتون بالبحر من حادثة حقيقية، عندما كانت تعمل في نابلس ودعاها بعض الشباب لرؤية منظرٍ ساحرٍ من أعلى نقطة جبلية هناك، لتُفاجَأ بأنهم يشيرون إلى البحر، مع أن المسافة يمكن أن تقطعها في قرابة العشرين دقيقة فقط، ولكن ذلك من المحرمات على سكان الضفة الغربية نتيجة لسياسات العزل التي تنتهجها دولة الاحتلال.

أمور شخصية

يحلم جورج برؤية البحر ولا بحر في رام الله ولا نابلس، وبالصدفة البحتة تراه مخرجة أمريكية جاءت لتصور فيلمها في فلسطين، ونتيجة خطأ من السائق في استخدام برمجية waze لنظام الملاحة بالسيارة يضلون الطريق إلى القدس لتجد نفسها في رام الله، وهناك ترى جورج في ورشته الخاصة، فتنبهر به وتقرر دعوته لخوض تجارب الأداء لفيلمها في حيفا، وفي الموعد المحدد يذهب جورج مع نفس السائق والذي يسلك الطريق الساحلي المؤدي إلى حيفا؛ فيرى جورج البحر لأول مرة في حياته، وفي مشهد من أكثر مشاهد الفيلم إثارةً للعاطفة، يقرر جورج النزول إلى البحر ضاربًا بموعده عرض الحائط، تاركًا خلفه فرصة العمر والفيلم الهوليودي.

أزمة التمويل: 

أثار الفيلم وقت عرضه جدلًا واسعًا حول مصدر تمويله؛ فالفيلم ساهم في تمويله صندوق الفيلم الإسرائيلي، ومثَّل إسرائيل في العديد من المهرجانات الدولية، ذلك الجدل بلغ أقصاه عندما قررت إدارة مهرجان الأفلام ببيروت عرض الفيلم ضمن فاعلياته، ذلك القرار هُوجم بشدة للمسألة الشائكة حول التطبيع مع إسرائيل، رغم أن الفيلم بكامل عناصره من كتابة وإخراج وتمثيل فلسطيني مائة بالمائة، وهنا من جديد نتطرق لموضوع تمويل الأفلام التي ينجزها فلسطينيو الداخل، ومن دون الدخول في جدلية حقهم المشروع في استرداد جزءٍ من أموال الضرائب التي يحصلها جهاز الدولة الإسرائيلي -والتي أراها حقًّا أصيلًا لفناني الداخل طالما أنها غير مشروطة بمضامينها-، وفي ظل تعنت الصناديق الثقافية العربية ورفضها تمويل المشاريع الفنية لفلسطينيِّي الداخل، يبرز السؤال المهم: كيف يستطيع المبدعون من عرب 48 إنجاز أعمالهم الفنية دون اللجوء لدعم دولة الاحتلال؟

قد يجيب البعض أن الحل هو الحصول على تمويلٍ من جهات ثقافية أو مهرجانات أجنبية، وهو بالطبع حلٌّ مناسبٌ ومثالي، لكنه يتطلب شروطًا معينةً لا تتوافر إلا في أعمال فنية بعينها، وقد لا يستطيع بعض المخرجين الحصول على هذا الدعم. فهل يلجؤون كما فعل البعض لطرح اكتتاب جماهيري عبر الإنترنت لتمويل أفلامهم؟

عن الأسلوب والفنيات: 

يعتبر أمور شخصية الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجته مها حاج والتي سبق لها إخراج فيلمين قصيرين، كما سبق لها العمل كمصممة ديكور في فيلم الزمن الباقي للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وفيلم الصدمة للمخرج اللبناني زياد دويري.

أمور شخصية من الأفلام القليلة التي تسكن القلب من الوهلة الأولى لبساطة طرحها وما يثيره في النفس من سخرية يصحبها مرارة، الفيلم كما جاء على لسان مخرجته: «فلسطيني رغم أنف الجميع»؛ فهو يمس صميم التفاصيل الحياتية البسيطة للمجتمع الفلسطيني ليجعل المتلقي يضحك تارةً ويغمره الأسى تارةً أخرى، يعرض الفيلم لشخصيات مرتبكة تراوح مكانها، والفيلم جيد جدًا من ناحية الإيقاع والمونتاج وزوايا الكاميرا، وأسلوب مها حاج اللافت للنظر يذكرنا بأعمال العالمي إيليا سليمان، لكن مع فارق بسيط هو أن حكايات شخصيات فيلمنا هذا لها سطوتها بخلاف بنية السرد عند إيليا سليمان التي تعتمد على مشاهدَ متفرقةٍ تصاغ منها حكاية واحدة موحية.

كما برز بشدة عنصر التمثيل خصوصًا للممثلة ميساء عبد الهادي التي برعت في تجسيد دور فتاةٍ بسيطة وكل تعقيدات علاقتها بطارق الذي أدى معها مشهدًا قليلًا ما نراه على شاشاتنا العربية، مشهد رقصة التانجو داخل غرفة التحقيق، المشهد الذي سيظل راسخًا في الأذهان بموسيقى حبيب شحادة حنا الرائعة، عندما رقصا رقصتهما الساحرة بينما يراقبهما جنديان إسرائيليان من خلف مرآة زائفة.

بقيت نقطة واحدة ليست في صالح الفيلم، وهي أن السيناريو عالج بعض التفاصيل بسذاجة واضحة؛ فقصة أن يهجر طارق مدينة الناصرة للعمل بالمسرح في رام الله غير منطقية بالمرة على أرض الواقع؛ وذلك لأسباب معروفة وظاهرة للعيان، كذلك أن تطلب المخرجة الأمريكية من جورج أن يخوض تجارب الأداء في حيفا ساذجة أيضًا، فمن الأَوْلى أن تكون تجارب الأداء في تل أبيب ولكن المخرجة أرادت أن تعطيَ سببًا منطقيًّا كي يرى جورج البحر بعبور السائق به الطريق الساحلي إلى حيفا والطريق إلى حيفا لا يمر بتل أبيب.

وأخيرًا فقد نجح فيلم أمور شخصية في طرح أسئلة كثيرة دون التورط في الإجابة، أو على أحسن تقدير إعطاء إجابات ساخرة كتلك الإجابة على سؤال المحقق -والتي لا تخلو من تلميح-:

  • ليش كنتو رايحين القدس؟

  • لنرقص تانجو.

نرشح لك: فيلم Dream away أو الحلم البعيد.. الوجودية في قالب سريالي

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أبو مازن

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا