أسئلة الإسلام والعلم المزعجة: الله والقرآن والعلم

قراءة في كتاب دكتور نضال قسوم - 1

“أسئلة الإسلام والعلم المزعجة” هو كتاب للبروفيسور نضال قسوم (عالم فيزياء الفلك الجزائري، والبروفيسور في الجامعة الأمريكية في الشارقة)؛ صدر باللغة الإنجليزية وتُرجِم إلى اللغتين الفرنسية والاندونيسية، وصدر مؤخرًا باللغة العربية.

يقدم الكاتب هذا الكتاب كمحاولة منه لتناول سؤال العلم والدين والعلاقة بينهما، واصفًا إياها بـ”السؤال الكمومي في الإسلام” (نسبةً لفيزياء الكم). ويشرح سبب هذه التسمية في تمهيده للكتاب، بما يراه إمكانية تطبيق منهجٍ مشابهٍ لمنهجِ ابن رشد العقلانيّ في التوفيق بين العلم الحديث ومنهجه وبين الدين والعرف العلمي الإسلامي؛ وكيف يمكن للمسلم المعاصر أن يتعامل مع كليهما في آن واحد، بأن يتمسك بأسس العقيدة والمبادئ الدينية الصحيحة، وأن يتحلى بنظرةٍ وتفكيرٍ علميّين، دون إخلال ودون أن يصبح منفصمًا معرفيًا. يوضح الدكتور قسّوم أن هذا الكتاب يرمي إلى هدفين رئيسيين:

  1. إعادة إحياء النقاش حول مكانة العلم في المجتمع المسلم، والتعريف بمفكرين حاولوا تجديد الفهم الإسلامي تجاه العلوم، والذين -للأسف- كانت جهودهم متناثرة فلم يُسمع لها أثر. يرى الكاتب أننا نحتاج معرفة عميقة بالعلم وفلسفته وحدوده، لتكوين نظرة متوازنة للعلاقة بين الدين والعلم قبل أي محاولة للتوفيق بينهما.
  2. محاولة تصدير خطابٍ متناغمٍ بين الإسلام والعلم في صورةِ “علمٍ ألوهيّ” (Theistic Science)، وأن هذا العمل يهدفُ إلى تقديم فلسفة جديدة لـ”لإسلام والعلم”، بمنظومة متكاملة متماسكة حديثة، تجمع مبادئ العلم التطبيقيّ الرئيسية والصالحة، مع مبادئ الإسلام الجوهرية عن طريق قراءة عقلانية غير ليبرالية. فهذا رفضٌ للفلسفة المادية المحضة، ورفضٌ -أيضًا- للوسائل والمناهج غير العلمية.

منهج ابن رشد

لضمان منهجٍ سليم للوصول بالقارئ إلى هذا الهدف، قُسم الكتاب لجزئين: الأول من خمسة فصول تناقش مفهوم “الله” في الثقافة الإسلامية، ثم مكانة القرآن في الوعي المسلم والتعامل معه، ثم فلسفة العلم ومنهجه، ثم محاولات تكوينِ “علمٍ إسلامي”، ثم فكرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة؛ وهي مقدمة غزيرة المعلومات الدينية والعلمية والفلسفية والتاريخية، يعرضها الكاتب بشكلٍ مبسط كمدخل لفهم العلاقة بين العلم والدين، ويصفها الكاتب بالضرورية لمناقشة القسم الثاني من الكتاب عن أسئلة الإسلام المتعلقة بالكون والتصميم والتطور. أما تمهيد الكتاب، فنبذة عن حياة وفكر الفقيه والمفكر والفيلسوف المسلم “ابن رشد”، وإشادة من الكاتب بمذهبه العقلاني في التوفيق بين الدين/الشرع والحكمة/العلم.

يرى الدكتور نضال قسوم في هذا المنهج أساسًا مُرضيًا لحل الإشكالية بين العلم والدين، فالوحي والعقل متكاملان يُكملُ أحدهما الآخر، وابن رشد يرى أهمية الفلسفة/الحكمة في الوصول إلى الحقائق، ويرى أن الشريعة والحكمة لا يمكن أن يتعارضا. وإن حدث تعارضٌ بين العقل (أو العلم) وبين النقل بشكلٍ قاطع فالواجب تأويل النص من قبل من يسميهم ابن رشد “الراسخين في العلم” –وهم الفلاسفة في نظره- في إشارة إلى آية المحكم والمتشابه في سورة آل عمران.  يصف الكاتب مشروعه هذا بأنه محاولة لتطبيق هذا المنهج “الرشديّ” على مواضيع مهمة، كالإعجاز العلمي وعلم الكونيات والتطور على سبيل المثال.

إشكالية العلم والدين في العالم العربي

في مقدمة الكتاب استعرض الكاتب لمحاتٍ قد تبدو مألوفة، من الوضع العلمي في الدول العربية، ويذكر أمثلة من مؤتمراتٍ للإعجاز العلمي في القرآن والسنة والعلاج القرآني والعلاج بالطاقة، أقيمت في بداية الألفية الجديدة في العالم العربي؛ وأنه وجد صعوبة في تصديق أن بعض هذه المواضيع تُقدم في القرن الحادي والعشرين، لا في القرون الوسطى. لا يكتفي الكاتب بذكر هذه الحالات، بل يناقش -أيضًا- المنظومة التعليمية، والتباين الواضح بين تعاملها مع العلم وبين تعاملها مع مسابقات تحفيظ القرآن على سبيل المثال (حيث التركيز على مجرد الحفظ في الغالب بلا اهتمام يذكر بالفهم والمعاني)؛ مبينًا أن النتيجة الطبيعية لهذا التعامل والفهم القاصر، أن طلاب الجامعات يفتقرون لأدنى مهارات التفكير النقدي والعلمي، بل يجهلون أبسط مبادئ العلوم والمعرفة بطبيعة العلم ومنهجه وحدوده، بل ويذكر، في عدة مواقع، تجارب شخصية مرَّ بها لطلاب وزملاء جامعيين يعترضون على محتوىً علميٍّ يقدمه، ومحاولة البعض إنكار بعض الحوادث العلمية -كالصعود للقمر مثلاً- وتقديم حججٍ دينية لدعم موقفهم. بهذه التقديمات -التي تُشعر المرء بالعجز حقيقةً تجاه ما وصلنا إليه- يبين الكاتب أهمية إيجادِ حلٍّ للإشكالية في النظر إلى العلم وعلاقة الدين به؛ ليس فقط لدى العامة، بل لدى الطبقة المتعلمة أيضًا.

إعلان

الله في الثقافة الإسلامية

بعد هذه التمهيدات ننطلق إلى أول جزءٍ للكتاب؛ الفصلان الأولان قدمهما الكاتب أساسًا لغير المسلمين، تبسيطًا للتصور الإسلامي عن الله وعن موقع القرآن في التفكير الإسلامي؛ إلا أنهما فصلان يتيحان للقارئ المسلم -أيضًا- التعرف على بعض النقاشات الدائرة حول مفاهيم كالعقيدة والتأويل، ونشأة بعض التيارات والمدارس الإسلامية المختلفة. يذكر الكاتب ابتداءً أن وصف القرآن لله “خفيٌّ لكن ظاهر، متعالٍ لكن متلازم، بصفاتٍ شبه بشرية لكن بوصفٍ معجِزٍ عن التصوّر والتخيّل، مما يجعل الإنسان متشوقًا لمعرفة الله مع علمه أن هذا هدفٌ مستحيل”؛ ويسوق جانبًا من تاريخ العقيدة في العالم الإسلامي وفي أوروبا، وتأثير التغيرات الفكرية عليها في عصر الأنوار، ومن ثم الثورات العلمية المتتابعة. الفكرة المركزية التي يعود إليها الكاتب، هي أن التصور الإسلامي لله قائم على أن الله فردٌ صمد ليس كمثله شيء، وأنه الخالق والمدبر للكون، وأن للوجودِ غاية، وأن الله يتدخل في الكون -حتى لو اختلفت بعض الفرق الإسلامية حول كيفية هذا التدخل (إما مباشرة وإما عن طريق السنن)-. ينوه الكاتب، في نهاية هذا الفصل، إلى أن الدين لم يصرّح سوى بخلق الله وحده لهذا الكون؛ أما مسألة كيفية بداية الخلق أو تغيّر العالم والحياة، فقد تُركت للاستكشاف.

القرآن ومفهوم التأويل

في الفصل الثاني ننتقل للتعرف على مدى مركزية القرآن في الوعي الإسلامي -فقلّما تجد نقاشًا لا يقع الاستشهاد فيه بآياتٍ من القرآن- وكيف أن تأثيره في التفكير الإسلامي أدى إلى العناية الشديدة بعلومه وتفسيره وتأويله، وبيان خصائصه الفريدة ومنها: غنى المفردات، والإيقاع المؤثر، والفاعلية في مخاطبة العوام والنخب على مدى العصور، والتوازن في خطاب العقل والقلب على حدٍ سواء، واستعمال أسلوب نثري أدبي وعلمي في آنٍ معًا، وإيجاز اللفظ ووفرة المعنى، واستعمال الصور والمجازات بكثرة. ينبّه الكاتب هنا أن هناك فجوةً كبيرة بين النص العربي للقرآن وأي ترجمة لمعانيه؛ حتى أن غير العرب يتعجبون من المعاني المترجمة ومن ادعاءات المسلمين أن النص لا يمكن الإتيان بمثله. في هذه الفصل يقدم الكاتب مفهوم “التأويل”، المبني على غنى القرآن الكريم بالمفردات وبلاغته واستعماله للمجازات؛ فالقرآن يحتمل عدة مستويات من الفهم مناسبة للبشر باختلاف عقولهم، وهذه حقيقة يقرها القرآن بنفسه. وفي هذا السياق يذكر محمد أسد، الصحفي المجري الذي اعتنق الإسلام، ورأيه في أن وجود التعبيرات المجازية للآيات القرآنية ضرورة، لأن معانيها لم تكن لتصل إلينا بأي طريقةٍ أخرى. فالحقائق الوجودية أكبر من تصورات البشر “فكيف يُتوقع أننا يمكننا تصوّر أفكار لا نظير لها في أيٍّ من التصورات الملموسة التي نعرفها؟!”.

بعد هذا يقدم الكاتب عدة آراء بخصوص مفهوم التأويل، ويذكر -بالأخص- المفكر السوري محمد شحرور ومشروعه الذي “كسر القواعد المتعارف عليها في التفسير”. إذ أتاح [شحرور] تأويلَ النص وفهمَه للجميع -عربًا وعجمًا، ومسلمين وغير مسلمين- بناءً على منطلقاته في فهم النص (كاللا ترادف اللغوي). والحقيقة أن الكاتب يشيد به كثيرًا ويذكر كتاباتٍ تعتبره “مارتن لوثر الإسلام”، بسبب “ثورته في الفكر المسلم بكتاباته المبتكرة”. ويكن أن يؤخذ على الكاتب في هذا الفصل أنه لم يناقش مدى صحة هذه الكتابات من ناحية علمية شرعية؛ فبالرغم من أن الكاتب أقرّ في المقدمة أنه يهدف إلى قراءة عقلانية لا ليبرالية للنصوص، إلا أنه يشيد كثيرًا بمنطلقات محمد شحرور وكتاباته، بالرغم من توجيه الكثير من النقد لها بأنها منفلتة.[1] فإن لم يكن إتاحة فهم النص وتفسيره لغير المتخصصين قراءةً ليبرالية، فما الليبرالية إذن؟ إلا أن رسالة الكتاب ليست مبنية -في الأساس- على فكر شحرور أو غيره، فهذه النقطة ليست محورية ولا تؤثر في فكرة الكتاب الأصلية.

نظرية المعرفة في القرآن

يعرض هذا الفصل -ختامًا- موضوع نظرية المعرفة في القرآن والتعاملات المختلفة معها. فالقرآن يحث المسلمين على التفكر والتعلم كثيرًا، إلا أنه يستخدم لفظة “علم” والتي تحمل معانيَ عدةً، مما أدى بالمسلمين للاختلاف حول معناها، وحدود العلم ومصادره. والقرآن -أيضًا- وضع بعض القواعد لصحة المعرفة، كأهمية الدليل والبرهان لأي دعوى، وتجنب الظنون، والابتعاد عن الآبائية. ويتبدّى أن غاية كل علم لدى القرآن هي الترقي في مراحل معرفة الله. وبما أن القرآن لم يقدم فلسفة طبيعية محددة، فقد تباينت الآراء حول مفهوم العلم هذا. ويذكر الكاتب بعضها كفكر المعتزلة (القائل بتدخل الله عن طريق القوانين الكونية)، وسيد قطب (الذي يفصل بين المجالين الديني والعلميّ)، ومهدي كلشاني على سبيل المثال.

ورغم التباين بين تلك الآراء، فإن مفهومين مهمين يظهران في الكتابات المعرفية الإسلامية: الأول هو أن استكشاف الطبيعة وقوانينها يجب أن يشير إلى النظام الدقيق والغاية من الوجود (رفض العبثية)، والثاني أن دراسة الطبيعة والعالم يجب أن تدل على تكاملٍ ووحدةٍ معينة، وبالتالي تؤدي إلى إيمانٍ أكبر بالخالق. في النهاية يصل الكاتب إلى طرحه، وهو أهمية تبني نهج يسمح بتأويل النص الديني بناءً على طبيعة النص ذاته، في إمكانية قراءته على عدة مستويات؛ تأويلٌ فلسفيٌ كهذا يسمح بتكوين فلسفة علمية في القرآن دون الحاجة إلى اعتبار القرآن كتابًا أو مرجعًا علميًّا.

[1] للمدون شريف محمد جابر عدة تدوينات في نقد منهج محمد شحرور على موقع مدونات الجزيرة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زياد حسنين

تدقيق لغوي: محمد ثروت

اترك تعليقا