أخلاق المقهورين
للوهلة الأولى يبدو أن الاستبداد السياسيّ مسألةٌ سياسيةٌ تشغل السياسيين فقط، ولا تؤثر في المواطن العادي، وإن أثّرت فهي تؤثر اقتصاديًا، لكنّ العجيب والمفجع أن للاستبداد السياسي انعكاساته على عقلية ونفسية وأعراف وأخلاق المواطنين، فكثيرٌ من سلبيات المجتمع التي قد نحتار في تحليلها، نكتشف أن سببها الرئيس هو الاستبداد!
يتفاوت رد فعل المواطنين تجاه الاستبداد بين ثلاث مستويات:
أولًا: العجز؛ وهو يمثل أخلاقية غالبية الشعب المقهور الذي يقرر الانعزال عن السياسة.
ثانيًا: عدوى الاستبداد؛ وهو يمثل جزء من الشعب يحاول الاندماج في السياسة بآلياتها غير الأخلاقية.
ثالثًا: وطنية زائفة؛ وهو يمثل الوعي الجمعي المزيف الرائج عن الوطنية.
نتطرق في هذا المقال إلى المستوى الأول: العجز، ونلحقه بمقالات تابعة تتطرق إلى المستويات الأخرى.
العجز
في عهد الاستبداد تُنزَع كل سلطة وقوة وأداة من يد المواطن؛ فليس له صوتٌ مسموع في الانتخابات، ولا سلطة له على المسؤولين ليحسابهم، ولا يستطيع التعبير عن رأيه ونشره، ولا يُحفظ حقّه ولا كرامته، ولا يتلقى حقوقه الأساسية كالتعليم والصحة، ولا يُلتفَتُ إلى آرائه ومواقفه. المواطن في عهد الاستبداد هو بمثابة المشلول والمحجور عليه، فالمال ماله، لكن السلطة منزوعة من يده، هو كعبد يزاحم السادة مجالسهم. ولهذا العجز انعكاساته على أخلاقيات المواطن، ومنها:
١. الدونية
الوضع الطبيعيّ للعلاقة بين الشعب والحاكم أن الشعب هو السيّد/ المالك/ مصدر السلطات/ ومصدر الشرعية، والحاكمُ هو عامل/ موظف/ خادم عند الشعب، فقد كلَّفه الشعب بمهمة محددة، وله بذلك أجرة ومرتب.
وبذلك فالشعب هو الأصل، والحاكم نائبٌ عن الشعب، لكن المستبدَّ لا يرتضي هذه الوضعية، بل يَعتَبِر نفسه هو الأصل ومحور الارتكاز، والشعب شعبه، والبلد بلده، لذلك ينسب الوطن بكل ما فيه إليه هو، فيقول: شعبي/ جيشي/ بلدي، ولا يرتضي لقب: موظف/ عامل، بل يُطلق على نفسه ألقاب: زعيم/ قائد/ أب.
أ. الزعيم القائد:
يحرص المستبدُّ على تضخيم ذاته أمام الجمهور، ويصنع هالة مقدّسة حوله، ويتبع في ذلك منهجية منظمة:
– أفعال الرئيس، مهما كانت تافهة، يذيعها الإعلام ويحتفل بها، وتجد مئات من السياسيين والمتخصصين والشيوخ والعسكريين يناقشونها ويضخمونها ويعتبرونها أعظم إنجازات الوطن، حتى يقتنع المواطن أن هذا الرئيس يسهر ليلًا من أجل المواطن!
لذلك يظهر الرئيس أنه صاحب الإنجازات العظيمة، وفكره وعلمه ظاهرٌ للجميع، وعلماء الأمة وشيوخها وجنودها خلف ظهره يمدحونه كأنّه نبيُّ هذا الزمان، وأغلب الناس يحبونه، كما يظهر في الإعلام، وهو الزعيم والقائد، والقوة الوحيدة المؤثرة هي أوامر الرئيس، والتاريخ ما هو إلا سِيَر الرؤساء، وكل الإنجازات هي صنع الرؤساء، وحتى لو أخطأ الرئيس مرة، فله ألف إنجاز يشفع له.
يقول أبو الحسن الندوي: “لقد أتى على العالم العربي عهدٌ في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص الخليفة أو الملِك – وكانت البلاد تُعتبر مِلكًا شخصيًا لذلك الفرد السعيد، والأمة كلها فوجٌ من المماليك والعبيد، ويتحكّم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأعراضهم.
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وإنتاجها، فإذا استعرض أحدٌ تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان، وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها، وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة”(1).
– خطابات الرئيس يكتبها محررون محترفون، ويحللها ويستخرج مظاهر الجمال فيها صحفيون محترفون، وتنشرها الحكومة في الإعلام وعلى المباني وفي الكتب الدراسية، حتى يقتنع المواطن أن رئيسه عالمٌ ومفكّر!
– فضائح الرئيس وجرائمه لا يجرؤ أحد أن ينشرها أو يظهرها، لذلك قلة فقط هي التي تعرفها. وحتى لو انتشرت تواجهنا مشكلة هي الأعقد في تاريخ التحليلات السياسية، وهي توثيق جرائم الرئيس؛ فإنجازات الرئيس موثّقة في كل منبر إعلامي، أما جرائمه فكيف نوثقها؟ كيف نملك الأوراق الرسمية لنثبت سرقته؟من يفتش وراءه ويحاسبه؟ كيف نطَّلع على أوامره الحقيقية وليست خطاباته المعسولة؟
أظهر الأمثلة على ذلك: في ثورة 25 يناير شاهد العالم كله الشرطة وهي تقتل المتظاهرين بالرصاص الحي، والخرطوش، والغاز المسيل للدموع، وتدوسهم بالسيارات، وتضربهم وتعذبهم في الشوارع ومراكز الشرطة، وتستهدف عيون الثوار، ورغم هذا الظهور الفاجر الفاضح، إلا أن محاكمة مُبارك ظلّت سنوات دون القدرة على إثبات صدور أمر موثّق بقتل المتظاهرين! فالقاضي الذي حكم لصالحه هو نفسه يعلم هذه الحقيقة الفاضحة، لكنه معذور؛ لأنه لم يتمكن من توثيق هذه التهمة ضد الرئيس!
وفي ندوة علمية حاولتُ اتهام الحاكم بعدة اتهامات واضحة لكل مواطن، ولم يخطر ببالي أنها تحتاج إثباتًا، فكل مواطن يعرفها، لكن عارضني صحفي وقال: “هذا الكلام تقوله في الشارع، أما في مجالس العلم لا تقل شيئًا لا تستطيع توثيقه، وأنت لا تستطيع إثبات خطأ (واحد) على الرئيس”!
بذلك نحن أمام رئيس بلا خطيئة واحدة موثقة، رئيسٌ معصوم، وكل ما يُقال عنه ما أسهل أن ترده بطول ذراعك وتقول: مجرد شائعات!
– ومن العادات المعظِّمة للرئيس العروض العسكرية التي يكتب الجنود بأجسادهم اسم الرئيس، تلك هي الصورة الأذل المعبرة عن وضع الدولة، فما الدولة إلا تابعٌ للرئيس، وعلى مؤسساتها (الشرطة والجيش) أن تسخِّر جنودها وتدرِّبهم شهورًا عدة ويجتهدون ليلًا ونهارًا ليكتبوا بأجسادهم اسم حاكمهم، حتى يلقي نظرة من بُعدٍ سحيق فيرى ذرّات نمل قد تشكَّلت وطبعت اسمه!
– ساد العرف أن يركع الناس أمامَ الحكّامِ حين يدخلون إليهم، ويقبِّلون أيديهم، وحين يخرجون لا يعطوهم ظهورهم، بل يرجعون للوراء ويمشون بالخلف، وليس هذا من باب الأدب، فلا يفعلون ذلك مع آبائهم ولا علمائهم، بل يفعلونه فقط مع حكامهم وأسيادهم!
– ولأن لله تعالى (ذاتٌ إلهيّة)، فأصبح للحكام (ذاتٌ ملكيّة)، ولأن سبَّ الذات الإلهيّة كفر، فسبُّ الذات الملكيّة جريمة عقابها الذبح!
– أحد آليات تعظيم الحاكم هو هالة الإبهار التي تحيط به من كل جانب، فحين تقع أعين العامة على الزعيم يجب أن ينبهروا ويُذهلوا من فخامته، فموكب الرئيس مهيب، وعربية الرئيس وطائرته مهيبة، وحفلات الرئيس مهيبة، وقصر الرئيس مهيب.
لذلك أم الخليفة المستعين كان لها بساط مرسوم عليه طيور من الذهب تكلَّف 130 مليون درهم(2)!
وخمارويه بن أحمد بن طولون حين زوَّج ابنته قطر الندى للخليفة العباسي كان لا بد أن ينبهر الجميع بهذا العُرس، فصنع لها هودجًا من ذهب، وأثناء ترحالها من مصر إلى بغداد بنى لها قصرًا عند كل منطقة للراحة طوال الطريق(3)!
وعام 1966 دعى الكونجرس الأمريكي وفدًا من مجلس الأمة المصري، الذي كان يرأسه السادات، وخلال زيارة السادات والوفد المصري أمريكا صدمتهم نظرة المجتمع الأمريكي إلى القادة؛ إذ كان تعاملمهم مع القادة مثل أي موظف عادي، بلا تمييز ولا استثناءات، مثلًا كان حجز الطيران في درجة سياحية، وكان البروتوكول المتَّبع ألا ينتظر الساداتَ أحدٌ في المطار، لكن اعترض الوفد المصري وأصروا أن يستقبلهم أحد المسئولين في المطار. وأصر الوفد على وجود موكب رسمي للسادات ومعلَّق على السيارة علم مصر وأمامه موتوسيكلات، فجهزوا له موتوسيكلات المرور. وتم حجز غرف للوفد المصري في دور واحد في أحد الفنادق، لكن اعترض الوفد المصري وطلبوا حجز جناح خاص للسادات في دور أعلى من غرف الوفد المصري ليشعر بتميزه(4)!
– مدح الحكام وصل إلى أقصى مداه، فقد وُصف الحكام بأوصاف لم يُوصف بها نبي ولا ولي.
فمثلًا السلطان عبد الحميد كان يُسمى في خطب المساجد: “الخليفة المعظم، ظل الله في العالم، إمام المشرقين والمغربين، وخادم الحرمين الشريفين”!
وقد أدرك الإنجليز حاجة الحكام العرب لهذا المدح، فحين أرسلوا رسالة إلى الشريف حسين ابتدأوها بقولهم: “إلى السيد الحسيب النسيب، سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمديّة والدوحة القرشيّة الأحمديّة، صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية، السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل، دولة الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمَّت بركته الناس أجمعين”!
ويقول الماوردي: “فضَّل الله الملوك على طبقات البشر تفضيل البشر على سائر أنواع الخلق وأجناسه”(5)!
وابن هانئ الأندلسي يقول للمعز لدين الله:
ما شئت إلا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
أقسمتُ لولا دُعيت خليفة لدُعيت من بعد المسيح مسيحا!
ويقول الرافعي للملك فاروق:
فما رأيتُ كأبي الفاروق من مَلِكٍ لحُبِّه الدين أمسى حُبِّه دينًا(6)!
ويروي حسين الشافعي أنه في عيد جلوس الملك فاروق على العرش تم تغيير شعار القوات المسلحة من: “الله – الوطن – الملِك” إلى: “الله – الملِك – الوطن”، وكانت إحدى التعليقات الساخرة تقول: “نخشى أن يترقى الملِك درجة أعلى العام القادم”(7)!
يقول ممدوح عدوان: “ولنا أن نتوقع أن شخصًا يحيط به التملّق والمديح والاستحسان والإعجاب في كل ما يفعله، سيدخله الزهو والغرور، وقد يصل ذات يوم إلى تصديق ما يقال عنه والدخول في الثوب الذي فصَّله له الآخرون، وحين لا يجد من يردعه أو ينبهه، أو من يقبل التنبيه منه، تصل نرجسيته إلى تخوم الجنون”(8).
– هذا التضخيم والتفخيم جعل الحكام يصدقون أنهم فعلًا فوق البشر، وهذا ما نجده في حديثهم عن أنفسهم.
فقال فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
وقال معاوية: “الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني”(9).
وقال أبو جعفر المنصور: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه”(10).
وقال عبد الملك بن مروان: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه”.
وقال جيمس الأول: “إننا – نحن الملوك – نجلس على عرش الله على الأرض”.
وقال لويس الخامس عشر: “إننا لم نتلق التاج إلا من الله”.
وقال ستالين: “الدولة أنا”(11).
لذلك نرى السفاحين ضمائرهم مطمئنة وبالهم صافٍ، ويتحدثون بثقة أن الله سيرحمهم ويجازيهم خيرًا على أعمالهم، فهم يصدقون فعلًا أنهم كالأنبياء في الدرجة، وكالشهداء في التضحية، وكالملائكة في المكانة!
ويصدق فيهم قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
ب. الشعب الناقص
أمّا الشعب فلم يتعلَّم السياسة ولا الاقتصاد ولا التاريخ حتى يستطيع أصلًا أن يعارض ويقترح، فحين يُبدُي المواطنون آرائهم، نجد آراءً ساذجة، ومعلومات مستمدة من الشائعات، وتتفشى بينهم نظريات المؤامرة، والتحليلات السطحية، والأساطير الشعبية!
وكل الجرائم الموثقة المعلنة التي يتداولها الإعلام هي جرائم المواطنين أنفسهم، لذلك يصدِّق الشعب أنهم فعلًا شعب دنيء ووضيع ومجرم، وحين نبحث عن سبب تخلفنا، فالإجابة معروفة وموثقة ومتواترة، فالسبب هو الشعب الجاهل، المتعصب، المجرم، المتخلف، ويكفي أن يقول أحد: انظر في صفحات الجرائم يوميًا لتعرف شعبك! ويقول آخر: الشعب الذي يرمي الزبالة في الشوارع لا يستحق الديمقراطية! ويقول غيره: هل هذا الشعب تساويه بالشعوب الأوروبية المتحضرة؟!
ومن هنا تسود فكرة أن الديمقراطية لا تصلح لهذا الشعب، ولابد له من مستبد يجلده، ولا يصلح له إلا الكرباج!
إذن نحن أمام رئيس عظيم وشعب وضيع، وبالتالي العلاقة بين الرئيس والمواطن ليست علاقة متكافئة، عقلٌ أمام عقل، رأيٌ أمام رأي، بل للرئيس درجات فوق درجات تعلو رأس المواطن، لذلك الدعوة لمحاسبة الرئيس تبدو مضحكة، من يحاسب من؟! هذا المواطن الجاهل الناقص الذليل يحاسب هذا الرئيس العظيم ذو الإنجازات والبطولات؟!
هذه المذلة تشرَّبها الشعب فأصبح يمارسها دون تحرج ولا استهجان، فانظر إلى الخطابات الرسمية الموجهة إلى المسؤولين تجدها تخاطب المدير، مهما كانت درجته، بصيغة الجمع للتعظيم، وتجدها مليئة بـ: “نلتمس من سيادتكم”، “نرجو من حضرتكم”، “نستسمح جنابكم”، “ابنكم/ فلان”، وحتى خطابات الشكاوى التي غرضها أن يصب فيها المواطن همومه وشكواه، تجدها مليئة بأساليب التفخيم والتعظيم والإجلال، ويستسمح ويلتمس ويرجو المسئول ليعطيه حقه!
وقد رأينا كثيرين ممن يستأجرهم الرئيس في حفلاته يقولون: “أنا لا أصدق نفسي، معقول أنا أقف أمام الرئيس وأخاطبه؟!”
وقد كتب ضابط قصيدة يشكو خلالها من سوء أحوال صغار الضباط، وكان عنوان القصيدة: “سيادة معالي المعالي الكبير”، وتم إيقاف الضابط عن العمل(12)!
هذه الدونية رسخت في الوعي الجمعي حتى طُبعت في أمثال شعبية مكررة:
“تروح فين يا صعلوك بين الملوك؟!”
“العين ماتعلاش عن الحاجب”!
“اللي يبص لفوق يتعب”!
“من خاف سِلِم”!
“اتوصوا بينا ياللي حكمتونا، احنا عبيد وانتوا اشترتونا”!
“ضرب الحاكم شرف”، وهذا المثل الأخير تحديدًا أعرفه منذ صغري، لكن كنت أظن أن معناه: ضرب المواطن للحاكم شرف للمواطن. لكن وجدت أن معناه: شرف للمواطن أن يضربه الحاكم!
ومن هنا فَقَدَ المواطن الثقة في نفسه وكرامته وعزّته، فلا يجرؤ أن يحاسب رئيسه أو يثور ضده، بل يقتنع فعلًا أنه وضيع ولا يستحق، ولو رأى جرائم للرئيس سيظل مستمسكًا به، لأنه لن يُعوَّض، ولو ترَكَنا الرئيس لأنفسنا ساعةً سنهلك ونتقاتل في الشوارع. ورأينا مواطنين من بيننا، يعانون كما نعاني، ورغم ذلك يدافعون عن الرئيس، ويلتمسون له الأعذار، ويعتبرون محاكمة الرئيس إهانة، وإدانته مرفوضه، ويعلنون أنهم خلف الرئيس مهما فعل ومهما أخطأ، فهو الأب ونحن أبنائه!
يقول علي عزت بيجوفيتش: “الضعفاء هم الذين يؤيدون ويدعون لسلطة استبداية، إنهم يفتقدون الاعتداد بالنفس الذي تنبثق منه الرغبة في الحرية والاستقلال، فهو يهرب من الحرية والمسئولية، والسلطة الاستبدادية توفر له ملاذًا من هذا العبء”(13).
ويقول د. مصطفى حجازي: “في علاقة التسلط لا يجد الإنسان المقهور مكانة له سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوف في الدونية كقدرٍ مفروض، ومن هنا شيوع تصرفات المبالغة في تعظيم السيد، اتقاءً لشره أو طمعًا في رضاه. إنه يعيش في عالم بلا رحمة أو تكافؤ إذا أراد المجابهة أو فكّر في التمرد، فسيأتي الرد حاسمًا.
إن عالم التخلف هو عالم التسلط، يختل فيه التوازن بين السيد والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حدًا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، تنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيؤ.
بدل علاقة (أنا – أنت) التي تتضمن المساواة والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر وحقه في الوجود، بدل هذه العلاقة تقوم علاقة (أنا – هذا الشيء)، هذا الشيء هو الكائن الذي لا اعتراف به، أو بإنسانيته وقيمتها، أو بحياته وقدسيتها، باعتباره شيئًا، ويصبح كل ما يتعلق به مباحًا (اعتداء – تسلّط – استغلال – قتل)، ذلك هو الإنسان المقهور، إنسان العالم المتخلّف.
والواقع إن السيد لا ينظر إلى الآخر المقهور كإنسان فعلي، إنه يفقد التعاطف معه والإحساس بمعاناته وآلامه ومخاوفه وحاجاته. ومن هنا تلك القسوة البادية في تصرفاته تجاه من يخضعون له، تلك اللا مبالاة تجاه معاناتهم”(14).
ويعرض القرآن الشعور بالدونية هذا بقوله الجامع: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، فالاستخفاف يولِّد ثورة وتمرّد لمن عنده عزة وكرامة، لكنهم رغم استخفافه بهم أطاعوه، لذلك كانوا فاسقين!
مثال: الإسكندر الأكبر ابن الإله!
حين سيطر الإسكندر على حكم مقدونيا والمدن اليونانية ظل يخضع للقانون البشري والأعراف اليونانية كأي حاكم سابق، لكن حين امتد زحفه العسكري وسيطر على الشرق، بدأ يأخذ من عادات الشرق وثيابهم وتزوج منهم، حتى وصل إلى عادة تأليه الحاكم، إذ اعتاد شعوب الشرق تأليه الحكام العظماء، فأُعجب الإسكندر بهذه الفكرة، وتبنى فكرة أنه ابن الإله آمون.
ويعلق (ويل ديورانت) أن الإسكندر لو تخلى عن فكرة أنه ابن الإله، لغضب عليه المصريون لخروجه عن عاداتهم في الحكام العظماء!
وساعدته هذه الشعوب على ذلك، فكهنة سيوة وبابل أكدوا أن لديهم أدلة أن الإسكندر ابن الإله! وبدأت القصص الأسطورية تسود لتؤكد أنه ابن الإله؛ فقد تعرَّفت الأمواج عليه، وسبَّحت بحمده!
واقتنع الإسكندر بالفكرة وأمر بألا يدخل عليه أحد إلا ويسجد له، لكن اليونانيين لم يعرفوا هذه العادة من قبل، فعارضوها تمامًا، حتى عندما طلب الإسكندر هذا المطلب من حارس يوناني، غرق الحارس في نوبة من الضحك.
وكان الإسكندر يملك قدرة فائقة على تحديد ما هو ممكن وما هو مستحيل، لذلك عدَّل قراره وجعل عادة السجود مقتصرة على شعوب الشرق فقط، ولا يلتزم بها اليونانيون!
ولأن أرسطو يعتقد أن بعض الناس مهيأون للعبودية، وبعضهم مهيأون للحرية، وأن الشعوب الشرقية اعتادت على العبودية وتأليه الحكام، فقد أرسل رسالة إلى الإسكندر يطلب منه أن يعامل اليونانيين كقائد يحكم أحرارًا، ويعامل الشرقيين كسيد يحكم عبيدًا!(15)
٢. متلازمة ستوكهولم
عام 1973م وقعت حادثة سرقة بنك في مدينة ستوكهولم في السويد، وخلال عملية السرقة احتجز المجرمون عددًا من موظفي البنك كرهائن لمدة ستة أيام، وخلال هذه المدة أصبح الرهائن متعلقين عاطفيًا بالخاطفين، ورفضوا مساعدة الشرطة ودافعوا عن الخاطفين!
وتم رصد حالات كثيرة مشابهة لتعاطف المخطوفين مع خاطفيهم، مما دفع الطبيب النفسي (فرانك أوشبيرغ) لشرح أسباب هذه الظاهرة، فقال: “في البداية، يتعرّض المخطوفون فجأة لشيء يسبب رعبًا في نفوسهم، مما يجعلهم متأكدين أنهم مشارفون على الموت، ويبدأ الجسد مرحلة استسلام تامة في انتظار لحظة الموت.
لكن يحافظ الخاطفون على حياة الرهائن، فيقدِّمون بعض الأعمال الطيبة كتقديم الطعام، أو الرعاية الصحية للحفاظ على حياتهم خلال فترة الاحتجاز، فيشعر المخطوفون بالامتنان تجاه خاطفيهم؛ لأنهم منحوهم الحياة مرة أخرى، وأعطوهم فرصة أخرى للحياة(16).
وعلى صعيد المجتمع، يمكن ملاحظة هذه الظاهرة في الأنظمة القمعية؛ إذ نجد كثيرًا من المواطنين المقهورين والمظلومين والمغتصبة حقوقهم يتعاطفون مع حكامهم، ويدافعون عنهم، ويرفضون الثورة عليهم!
فالشعب هنا يجد نفسه رهينة في أيدي الحكام، وللحكام مطلق القدرة على القتل/ السجن/ التعذيب/ الطرد من العمل/ مصادرة الأموال، وبشيوع هذه الممارسات تصبح مألوفة واعتيادية، ويعتبرها الشعب من الصفات الذاتية للحاكم.
وإن ترك الرئيس معارضًا دون أن يقتله أو يسجنه، فيُعتبر هذا كرم من الرئيس، كأن الزعيم القادر على سحق معارضيه، صاحب القدرة المطلقة، ترفَّق بمواطنيه ورأف بحالهم!
وإن أنجز الرئيس عملًا بسيطًا أو أعطى مواطنًا حقه، يصبح شكر الرئيس واجبًا على كل مواطن، كأن الزعيم رغم عظمته، ترك كل مشاغله الجليلة واهتم بالمواطن البسيط.
وحين يقرر الرئيس أن يمنح فئة من الشعب مبلغًا، فتظهر كأنها هبة/ صدقة يتبرع بها الزعيم من ماله الخاص، والعلاوة السنوية للعاملين في الدولة هي الصدقة السنوية من الرئيس لرعاياه!
يقول ممدوح عدوان: “عامة الناس يعيشون تحت ظل الخوف الدائم من السلطة الذي يجبرهم على إظهار حبهم لهذه الدولة؛ لأنها لم تؤذهم أذى مباشرًا، وتظهر الدولة أنها تصدق تلك المنة، إنها لمنة على المواطن أو المثقف أنه لم يُسجن أو أنه ما زال يتقاضى راتبًا عن عمله”(17).
ويقول الكواكبي: “العوام هم قوة المستبدُّ وقُوْتُهُ. بهم وعليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته, ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم. ويهينهم، فيثنون على رفعته. ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته. وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريمًا. وإذا قتل منهم ولم يمثِّل، يعتبرونه رحيمًا. ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ.
والحاصل أنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة”(18).
٣. السلبية
في المجتمع المستبد ترى صديقك قد اعتُقِل، ولا تملك أن تعترض حتى لا تُعتقل معه!
ترى أمًّا مسكينةً تبيع حزمة من الخضار في الشوارع، فتتجبر عليها الشرطة بحجة أنها خالفت القانون وعارضت النظام، ولا تملك أن تقاوم الشرطة لتدافع عنها!
وترى أسرة بلا مال ولا منزل ولا علاج، فتساعدها، لتجد وراءها ملايين الأسر المعدمة المريضة، فلا تملك مساعدة كل هؤلاء، فترحل!
ترى الجهل متفشيًا، فتحاول إذابة ظلمة الجهل بنور العلم، لكن وراء كل عالم آلاف الأفاكين والمنافقين وعلماء السلطان، فتيأس!
الظلم، والرشوة، والفقر، والجهل، والجوع، والقهر، واعتقال الأبرياء، والتعذيب، في كل شبر حولك، ترى الدين مُحرَّفًا، والأخلاق محاربة، والاقتصاد منهارًا، والعلم مُهانًا، ولا تجرؤ أن تعارض أو تقاوم، لا تستطيع الصراخ في وجه المستبد، لا تقدر أن تعلن صيحة الحق فيقتلوك أو يعذِّبوك أو يقتلون أهلك، فتُكتِم الصرخة، وتبلع الشكوى، وتصبر ثم تصبر، حتى تألف الظلم والفحش في الطرقات، فتموت الحمية، وترتخي العزيمة، ويسيطر اليأس، ويتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
مثلًا في ليبيا شاب اسمه صادق حامد الشويهدي عارض القذافي، فأمر القذافي بجرِّه إلى ملعب رياضي، وأحضر الجماهير والأطفال من مدارسهم، ليشهدوا محاكمة الشاب علانية، ويروا بأعينهم الشاب وهو يبكي ويتذلل إلى المحكمة للعفو. ثم حكمت المحكمة عليه بالإعدام، وتم تنفيذ الإعدام في الملعب أمام الجماهير وأمام أعين الأطفال(19)!
فما شعور الطفل الذي يرى بعينيه رجلًا معارضًا يبكي ويتذلل ويرتجف ويُعدم أمام عينيه؟! هل يجرؤ يومًا أن يعارض السلطة، أو يشترك في حزب سياسي، أو حتى يفكر خلاف أفكار الرئيس؟!
وفي العراق عام 1979م بعد أسبوعين من تولي صدام حسين الرئاسة جمع كل قادة حزب البعث في قاعة الخلد، وقال إنه كشف مجموعة من الخونة داخل الحزب – ولا يقصد بالخيانة: خيانة الوطن أو التجسس للأعداء، بل قصد معارضته – وقال: “كل من يسمع اسمه يتلو شعار الحزب ويخرج للسجن”، وغطى الصمت القاعة، وهربت دماء الحاضرين، وكُتمت الأنفاس إلا نَفَس صدام المحمل بدخان السيجارة، وتلى صدام أسماء المغضوب عليهم ليُساقوا إلى القبر!
وقال متهكمًا: “هؤلاء المعتقلين سنسألهم: إن كان عندكم وجهة نظر سياسية تخالف القيادة، فاخبرونا بها، وإن رأينا أنكم على صواب، سنسلمكم القيادة”(20)!
إن ما حدث في هذه القاعة كان حدثًا فاصلًا في حكم صدام حسين أُطلق عليه (مجزرة الرفاق)، وأنا أسميه (إخصاء الرفاق)، كأنه وقف يقول: أنا أحيي وأميت، فهل لكم من إله غيري؟!
يقول (إتيان دو لا بيسي): “يسهل تحول الشعب إلى جبناء مخنثين تحت وطأة الطغيان؛ لأنه بزوال الحرية تزول الشهامة”(21).
ويقول ممدوح عدوان: “إن الخوف من الوشاية والقمع يحتجز قسمًا من الشعب في سلبية لا تليق بالإنسان”(22).
ويقول د. مصطفى حجازي: “يتجنب الإنسان المقهور كل ما يمكن أن يعرِّضه للخطر. ومن هنا الابتهال في أن لا يتعرض للتجارب، أن لا يقع في يد الحاكم والحكومة وأدواتهما. وهو كي لا يتعرض للأذى، لا يتجنب العلاقة المباشرة فحسب، بل يتهرب من المشاركة في كل ما هو عام. إنه يقف موقف المتفرج العاجز أو الشامت، لا يستجيب لنداء ولا ينخرط في نشاط ولا يساعد فيما قد يرتد على المجموع بشيء من الخير.
قد يكون في ذلك تفسير للسلبية والفتور اللذين يميزان جماهير العالم الثالث المقهورة، حتى حين يأتي من يحاول تحريكها والعمل لمصلحتها. فلقد تأصل الشك والحذر والخوف من التعرض للأذى عندها نتيجة لتجاربها المؤلمة من المتسلّط، كما تأصلت عندها روح الهزيمة إذاء قوى لا قبل لها بها”(23).
٤. الاضطرار إلى الفساد
القهر والظلم والعجز والفقر والعَوَز هي ضغوطات اضطرارية وقهرية تدفع الإنسان لإخراج أقبح ما فيه، ليصبح في صورة هو نفسه لا يرتضيها ولا يتوقعها؛ فالموظف الذي لا يكفيه مرتبه الضئيل يُضطر إلى السرقة أو الرشوة، وحين تحمل أمك المريضة إلى المستشفى لتجد قائمة انتظار طويلة، ستُضطر لخرق النظام والتعدي على المنظِّمين، وحين يُسجن ابنك ظلمًا ستلجأ لسلطة تتوسط له وتحميه، وحين تعجز عن إتمام أوراقك القانونية، ستُضطر لإعطاء رشوة، وبصفة عامة المجتمع المقهور هو مجتمع منعدم الأخلاق، هادم للنظام، متعدٍ على القانون، لكن السؤال الأهم: لماذا لجأ إلى ذلك؟
والأمثال الشعبية كانت أكثر دقة وعمقًا؛ إذ لم تتوقف عند ظاهر الفساد والشرور عند الشعب، بل حمَّلت المسؤولية للمسبب الأول للفساد، فخرج المثل الشعبي القائل: “قالوا: ملعون اللي يسب الناس. قلنا: ملعون اللي يحوج الناس على السب”.
ويقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “حكم الطاغية يقضي على مبادئ الأخلاق، فهي نتيجةٌ حتمية لحكمٍ مبني على الخوف وبث الرعب في قلوب الناس، واستخدام السيف أو التهديد به، فمن ذا الذي يستطيع في مثل هذا الجو الخانق أن يقول الصدق أو يشهد الحق؟ أو يرفض أن يرتشي؟ أو يأبى شهادة الزور؟ ثم إذا كان الحاكم نفسه يدعو الأخ ليتجسس على أخيه، والطالب على معلمه، والموظف على رئيسه، فكيف يمكن أن تكون هناك أخلاق؟ وهل يمكن أن تكون هناك مبادئ أخلاقية من دون فرد يحترم نفسه، وتحترمه الدولة وتصون كرامته؟!”(24)
مهما بلغت إنجازات الاستبداد الاقتصادية والعسكرية، يظل الاستبداد قبيحًا أخلاقيًا، وجريمة إنسانية، وخطيئة دينية؛ لأنه ينخر في أخلاق البشر، ويُفسِد معادنهم، ويخرِّب عليهم طباعهم حتى تذوب إنسانيتهم وسط العجز، والدونية، ونفاق الأعلى، والتسلُّط على الأدنى، والاضطرار إلى الفساد. وهنا يحضر قول السيد المسيح: “ماذا يفيد الإنسان لو أنه ربح العالم كله وخسر نفسه”؟!
المصادر:
1. (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ) ج 1 ص 248
۲. (ظهر الإسلام) ج1 ص345
٣. (ظهر الإسلام) ج 1 ص 346
4. (صناعة الطاغية) ص 48
5. (تفكيك الاستبداد) ص156 نقله عن (نصيحة الملوك) ص62
. (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) ص19
۷. قناة الجزيرة (برنامج شاهد على العصر الحلقة 2 ق :28
۸. (حيونة الإنسان) ص235
۰۹ (أنساب الأشراف) ج5 ص20
۱۰. (تاریخ الخلفاء) ص 196
11. (حيونة الإنسان) ص235
۱۲. وزير الداخلية يرفض إيقاف الضباط المتهمين بالقتل ويعاقب آخر بسبب قصيدة، المصري اليوم، 2014/02/11 https://elmahatta.com/%d8%a3%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d9%87%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%86/
۱۳. (هروبي إلى الحرية) ص 200
14. (التخلّف الاجتماعي) ص 39
15. (الطاغية) ص31، ص125
16. (ذاكرة القهر) ص263
۱۷. (حيونة الإنسان) ص165
۱۸. (طبائع الاستبداد) ص 50
١٩. http://bit.ly/2H109Pp
٢٠. https://youtu.be/qY_DSqW1EEw
۲۱. (العبودية المختارة) ص 72 ، نقله (تحرير الإنسان وتحريد الطغيان) ص20
۲۲. (حيونة الإنسان) ص167
۲۳. (التخلّف الاجتماعي) ص 102
۲٤ (الطاغية) ص 294