آنا كارنينا والعذاب الحلو

كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكلِّ عائلةٍ تعيسةٍ طريقتُها الخاصّة. في التعاسة”.

ما الذي يمنحها مكانة خاصة بين الروايات العظيمة آنا كارنينا؟ كيف يمكن لمأساة رومانسية مثيرة في المجتمع القيصري الراقي أن تكون جذابة لهذا الحد.
قد أطلق عليها تولستوي نفسه روايته الأولى الحقيقية حيث تعكس بطريقة ما تطور وعي غير دقيق وتبرير لحياة كاتبها تجعلنا نتسائل هل بإمكاننا تحمل العواقب المأساوية للسعي وراء الحب من أجل الحب، في تحد للقواعد التي وضعها المجتمع والعائلة؟  هي قصة أبدية، وهذه القصة في آنا كارنينا.

إنّ رائعة ليو نيكولايافيتش تولستوي (٩ سبتمبر ١٨٢٨: ٢٠ نوفمبر ١٩١٠م) لا بُدَّ لها أن تسحر جيلًا جديدًا من القرّاء كما سحرت أجيالًا  عدّة منذ كتابتها.

في بادئ الأمر علينا أن نسأل أنفسنا لماذا يجب أن نهتم بقراءة آنا كارنينا وهي رواية نجزم أن الذي كتبها شخص أرستقراطي باللغة الروسية في القرن التاسع عشر عن الوقوع في الحب والخروج منه، عندما كانت الأعراف الأخلاقية وقيود المجتمع مختلفة عما هي عليه اليوم؛ حين كان الطلاق نادرًا والزنا بإمكانه أن يؤدي إلى أزمة اجتماعية. ما الذي يمكن أن تقوله لنا الآن؟

في الواقع آنا كارنينا هي روايةٌ تخدعنا وتثير اهتمامنا في نفس الوقت، يبدو العالم الذي تصوره ساحرًا في حد ذاته، كما أنّ شخصياتها هي من بين أكثر الشخصيات التي لا تُنسى، وقد تختلف عمّا نعاصرُه اليوم من حيث الأهداف والأشكال الخارجية للرفض الاجتماعي، لكن مع ذلك لا يزال العالم مكانًا قاسيًا للغاية لأولئك الذين يغرّدون خارج السرب أو لا يستطيعون الدخول في طرقٍ محددَّة للتفكير والشعور؛ فيرَون أنفسهم في شخصيات الرواية.

آنا كارنينا تدور حول الطريقة التي نقرّر بها، والتي منها نرتكب أخطاء بشأن من وما نحبه في هذه الحياة، وعمّن ينبغى أن نمنحه وفاءنا وإيماننا.

إعلان

يبحث تولستوي عن الكلمة الدقيقة للشيء نفسه، ذلك بدلًا من صرد الأحداث سردًا من وجهة نظر شخصية واحدة، وينزلق تولستوي ويخرج ما في وعي عشرات الشخصيات؛ الرئيسية منها والثانوية، وفي مرحلة ما يخبرنا حتّى بما يفكر فيه كلبُ الشخصية؛ فيبدي إبداعًا خارجًا عن المألوف.

ويصبغ تولستوي شخصياته بواقعية مفرطة من خلال السماح للشخصيات بأن تكون صادقة جدًا مع مشاعر كل لحظة معينة، حتى عندما تتعارض تلك المشاعر مع الصورة العامة، فلم تتمكّن أكثر الشخصيات بغضًا أبدًا من تجاوز الخلاص اللحظي، كما وجب أن تتحمل أكثر الشخصيات إثارة للإعجاب شيئا من الخزي.

لا يوجد أشرار في آنا كارنينا: فزوج آنا قاس، لكنّه ليس شريرًا بالمعنى الحتمي، وستيفان أبلونسكي متهوّر، منغمسٌ في لذّاتِه ومبذّر، لكنّه مع ذلك محبوبٌ للغاية. الشخصيات مرتبكة وتتخبّط مع بعضها تحت ضغط المجتمع، من خلال القرارات التي يتعين عليهم اتخاذها؛ من خلال سعادتهم الخفيّة ونقاط ضعفهم، وغالبًا ما يتعارض المظهرُ مع الواقعِ الداخلي

قد تُفاجئنا آنا كارنينا لأول مرّة بمدى ضآلة ظهور البطلة التي تحمل نفس الاسم في الرواية؛ فكادت آنا وفرونسكي أن تحتل المركز الثاني بعد كيتي وليفين ودوللي وستيفا. كل هذه القصص الثلاثة معنيّة بالزواج والحب: في التكوين والانحلال، الأمجاد وحتّى المخاطر. آنا مصيرها مأساوي، وكيتي رومانسي، أما دولّي فمثيرٌ للشفقة، كلّها مصائر مؤثرة بعمق.

نستطيع أن نقرأ آنا كارنينا عدة مرات، لكننا نقع في حب آنا من النظرة الأولى في كل مرة، تمامًا كما وقع فرونسكي وكيتي في حبّها عندما رأوها لأول مرة.

نستطيع أن نرى أشياء مختلفة في كل قراءة، شخصيات الرواية بشريّة بشكل حقيقيّ لدرجةِ أنّهم يشعرون بأنهم على قيد الحياة أكثر مما نشعر، وجعلهم تولستوي فريسةً لمشاعرهم وظروفهم بقدرنا نحن، ومع ذلك فإنّنا نُمنَحُ امتيازًا لا يُقدّر بثمنٍ للوصول إلى أفكارهم العميقة من خلال مونولوجهم (حديث النفس) الداخليّ وأفعالهم، وما يخبرنا به الكاتب عنهم.

يبرع تولستوي في توشيح المشاهد بالكثير من التفاصيل المسلية والتي تبدو غير مهمّة ومشحونةً بالعاطفة، فآنا كارنينا مليئة بمثل هذه التفاصيل، إنّها تُظهر أن هناك حياة أخرى مع الدراما، ومستويات مختلفة من المعاناة والسعادة والانفعالات الإنسانية.

يقوم تولستوي ببعض الأشياء الجريئة في آنا كارنينا، لذلك ربما الكثير من الحراس التقليديين للأدب سيكونون مستائين منها، ويأخذنا أيضًا داخل عقول شخصيات متعددة، غالبًا في نفس الفصل القصير وبشكلٍ عابر، ويخطو تولستوي -الراوي- خارج القصة ليخبرنا بأشياء لا تستطيع الشخصيات معرفتها، يبدعُ في الاستطرادات الظاهرة ذات الطول المفرط؛ كالمقاطع الطويلة عن أساليب الزراعة، والإصلاح الاجتماعي، وحياة الفلاحين، أيضا عن الصيد، فيقوم تولستوي بكل هذه الأشياء لأنه كاتب عظيم يتمتّع بثقةٍ هائلة في طريقةِ نسجِهِ لنصٍّ متكامل، وكأنّه ينسج حياةً كاملةً بشتّى تفاصيلها، ولا يخشى التجربة أو أن يخلق أسلوبًا جديدًا لسرد الحكاية الكاملة، ليس همُّه الرئيس “إعادة توجيه المؤامرة” التي تتركز حولها خيوط الرواية، بل الشخصيّة هي التي تهمّه، ومن هنا تُمسي أكثرَ حياة، ويقودنا تدريجيًّا خلال مسار الوعي حتى نهاية الرواية: عندما تبدأ آنا رحلتها الأخيرة المصيرية. فقد بات عقلُ آنا كاميرا سينمائيّة؛ تسجّل الأشياء التي تراها من نافذة عربتها من خلال عدسةٍ مشوّهةٍ بالحزن والاكتئاب.

بعد اختفاء آنا من الرواية وضعنا الكاتبُ بصحبة كوزنيشوف، وهو شخصيةٌ ثانويةٌ نسبيًا؛ فكان هذا تغييرًا رائعًا وجريئًا، يلتقي كوزنيشوف مع فرونسكي الذي وبسبب الحزن سمح لقوى التاريخ بأن تجتاح حياته؛ فكان هذا في طريقه للقتال من أجل قضيّة السلافية ضدّ الأتراك، ومع ذلك، يُظهر تولستوي كيف أنّ هذه القضية التاريخيّة بالتحديد تكوّنت من السكارى والمؤيدين دون أدنى فكرة عن الطبيعة الحقيقية للحرب.

يمكن للمرء أن يستمر في الحديث عن آنا كارنينا طويلًا جدًا، ويُنصَحُ بقراءةِ الرواية كاملةً بدًلا من قراءة مقتطفاتٍ أو ملخصاتٍ عنها، لأن عالم آنا كارنينا هو واحدٌ من التناقضات الحادة بين الجمال والقبح، والألم والمتعة، والوعي الذاتي بعيد المنال.

نرشح لك: دليل إلى الكلاسيكيّات: آنّا كارنينا

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نغم المحيثاوي

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا