رحلة تولستوي في البحث عن معنى الحياة: صراع العقل مع الإيمان

ليو تولستوي مفكر وأديب وفيلسوف روسي، ينحدر من عائلة أرستقراطية، اعتنق الديانة المسيحية وتحديدًا المذهب الأرثوذكسي ولكن ما إن بلغ السادسة عشرة حتى أدرك بأن إيمانه بعقائد الكنيسة الأرثوذكسية واهن فتخلى عنه “حررت نفسي من كل ضروب العبادة والإيمان التي تعلمتها”، انقطع عن الصلاة وصيامات الكنيسة وامتنع عن حضور المناسبات والاحتفالات الدينية.

تولستوي

وبالرغم من اضمحلال ووهن إيمان تولستوي بعقائد المسيحية وتوقفه عن أداء شعائرها الدينية، إلا أنه لم يعلن بشكل صريح عن كفره بوجود الله ولكنه كان يجهل حقيقته وماهية تعاليم الدين المسيحي أو الأسس التي كان يقوم عليها. (١)

هوس الكمال والتقدم العام:

ما لبث أن أخذ إيمانه العقائدي الذي تشربه في صباه بالتلاشي حتى حل محله إيمان آخر وهو الإيمان بالكمال أو التقدم العام ولم يختلف كثيرًا هذا الإيمان عن سابقه حيث أنه لم يكن  أيضًا يعرف شيئًا عن ماهيته وكان يتخذ كافة الوسائل الممكنة لبلوغه. “كل الإيمان الذي كان لي كان ينحصر في عقيدتي بإمكانية البلوغ إلى الكمال الذي لم أكن أعرف شيئًا عن حقيقته أو نتائجه” .

حاول جاهدًا بلوغ الكمال العقلي بكثرة المطالعة والقراءة في شتى مجالات الحياة، كما أنه عمل على تنمية قدراته البدنية من خلال التمارين الرياضية المتنوعة وكان يرى في كل ذلك سلمًا يصعد إليه حتى يصل إلى الكمال الذي كان يطمح إليه والذي اتضح  لاحقًا أنه ليس كمالًا خالصًا لنفسه وإنما كمالًا يتفاخر به أمام الناس والذي ينحصر في الحصول على “الشهرة والثروة والمجد”(٢).

إعلان

كان تولستوي يؤمن بمبدأ الكمال العام ويراه شرطًا أساسيًا لعيش حياة أفضل، وجوابًا للسؤال الذي لطالما أرهقه “كيف أقدر أن أعيش أفضل مما أنا عائش؟” (٣)

حياة تكسوها الشهوات والملذات:  

أفنى تولستوي شبابه لاهثًا وراء أهوائه الجنسية “لم أترك سبيلًا من سبل الفسق والدعارة مع العواهر إلا سلكته، جرائم قتل وسرقة، علاقات محرمة، احتيال، نصب. كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام”  ولم يكن القلم بالنسبة إليه أداة لإيصال فكرة ما أو لترجمة مشاعر تختلج صدره بل كان في المقام الأول وسيلة لإرضاء غروره وظفر المزيد من الشهرة والأموال وتحققت غايته بالفعل وأصبح له صيت أدبي واجتماعي ذائع. (٤)

صراعه مع اللامعنى:

ظل تولستوي يتأرجح بين أسئلته الوجودية، “كيف أحيا بشكل أفضل؟ ماذا أعرف وما الذي أقدر أن أعمله للناس؟” ثم أخذت هذه الأسئلة تتعقد حتى وصلت إلى السؤال الوجودي الأعظم: ما معنى الحياة وما جدواها؟ ولعل هذا الأخير كان أصعبهم وأكثرهم تعجيزًا بالنسبة إليه حيث أنه شبهه بمرض خبيث أو ورم وجب استئصاله. بعد أن كان يسعى لبلوغ الكمال صار يبحث عن ما هو أبعد عنه، عن محركه، عن الدافع الحقيقي الذي يدفعه لتأليف الكتب وتربية ابنه وإدارة أملاكه وأراضيه، كل ما كان يسعى إليه باسم الكمال والتقدم العام يذوب الآن شيئًا فشيئًا ولا يترسب منه إلا سؤال واحد: “لماذا أعيش وأرغب وأعمل؟” (٥)

كل ما حققه وبناه  تولستوي اجتماعيًا وفكريًا وأدبيًا هدمه سؤال واحد عن معنى الحياة، وهو نفس السؤال الذي جعله يفكر في الانتحار، ولكن رغبة ما دفينة في داخله كانت تصده عن هذه الفكرة، فبالرغم من أنه لم يشعر بأي معنى لحياته إلا أنه حرص حرصًا شديدًا على أن يبحث عنه بكل الوسائل الممكنة. (٦،٧)

انكب تولستوي على دراسة جميع فروع العلوم والمعرفة، النظرية منها والتطبيقية في محاولة منه للإجابة على سؤاله عن معنى الحياة ولكنها كانت محاولة يائسة؛ ذلك أن تلك العلوم بما فيها الفلسفة لم تستطِع أن تقدم له جوابًا واحدًا شافيًا. كان كل منها يفصل إجابته على حسب الأسس المبني عليها ذلك العلم. فكانت علوم الطبيعة تجيبه على أنه مجموعة من الذرات المتحدة مع بعضها البعض، أما الفلسفة فكانت تقدم له أجوبة أكثر غموضًا وتعقيدًا من سؤاله نفسه. (٨)

العقل والإيمان: هل يغني العقل عن الإيمان؟

يطرحنا صراع تولستوي الوجودي أمام سؤال هو في الحقيقة جوهر ولب ليس فحسب رحلة تولستوي عن معنى الحياة، بل جوهر ولب حياة كل واحد منا: هل يمكن أن يعوّض العقل غياب عنصر الإيمان في حياتنا ـ أيًا كان شكل هذا الإيمان-؟ بمعنى آخر، هل العلم وحده كافٍ ليشعرنا بقيمتنا الوجودية في الحياة؟ صراع تولستوي مع وجوده أجاب على هذا السؤال بشكل صريح، ولا يخفى على أي عاقل بأن هذا الصراع ليس إلا أثر من آثار طغيان العقل والعلم على الإيمان. لقد تخلى تولستوي عن أحد أهم أشكال الإيمان التي لها الدور الأكبر في تحقيق التوازن النفسي وهو الإيمان بالله وراح يسعى وراء كمال عقله وجسده غافلًا عن حقيقة أن الإنسان مادة وروح وأن أي طغيان لأحدهما على الآخر سينشأ عنه نفس غير سوية، فخًفَت بذلك نور الإيمان بداخله أمام شمس العقل الساطعة حتى تلاشى ذلك النور تمامًا، “إن نور المعرفة والحياة قد أذاب قصور الإيمان المصنوعة من الشمع.” )

يجرّنا الجدل حول العقل والإيمان إلى كتاب الفيلسوف كانط “نقد العقل الخالص” والذي ينتقد فيه محدودية العقل. فبحسب رأي كانط حدود وقدرات العقل لا تتجاوز الطبيعة وتفسير ظواهرها، أما ما وراء الطبيعة أو ما يعبَر عنه في الفلسفة بـ”الميتافيزيقيا” فهو ليس من اختصاص العقل في شيء، ويشمل ذلك كافة أشكال الإيمان بما فيها الإيمان بالله الذي اهتدى إليه أخيرًا تولستوي من خلال شعور داخلي لا سلطة للعقل عليه. أثار هذا الشعور فيه الرغبة للتفتيش عن الله، (١٠ ) وبعد أن وجد ضالته عند الله عزم على أن يخفض صوت عقله الذي كان دائمًا ما يستجوبه عن حقيقة الفروض والشعائر والطقوس المسيحية التي كان يؤديها وسلّم نفسه للإيمان الذي وجد فيه ما عجز عقله عن منحه إياه. (١١)

لقد بالغ تولستوي في تقدير مكانة عقله موهمًا نفسه بأن العقل هو مفتاح كل أسرار الحياة وغافلًا عن حقيقة أن الإيمان وحده من يملك ذلك المفتاح، ولكن عندما جره عقله إلى هوة اليأس اعترف أخيرًا بذلك “إنّ حكمتنا مهما كانت مبنية على الحقيقة لم تمنحنا معرفة لحقيقة معنى الحياة.” (١٢

 

المصادر :

كتاب اعتراف تولستوي 
(١) ص ١٣ 
(٢) ص١٤
(٣) ص٢٢ 
(٤) ص١٧ 
(٥ ) ٤٣ 
(٦)  ص٣١
(٧) ٣٧ + ص ٣١
(٨ ) ص٥١ + ص ٥٣    
(٩ ) ص ١٣ 
(١٠)  ص١٠١ 
(١١ ) ص١٠٩
(١٢ ) ص٨٦

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: شيماء يوسف

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا