مترجم: هل نُدين القَتَلة الذين يعانون من تلف الدماغ؟

لقد عاش تشارلز ويتمان حياة عاديّة حتى الأول من أغسطس عام 1966، عندما قَتل 16 شخصًا بمن فيهم زوجته وأمّه! ترى، ما الذي حوّل جنديّ البحريّة هذا برتبة النسر الكشفيّة إلى واحد من أشرس القتلة على مستوى أمريكا؟  

يقترح تشريح جثّته تفسيرًا مقلقًا: لقد عانى تشارلز ويتمان من ورمٍ دماغيّ كان يضغط على اللوزة؛ وهي منطقة في الدّماغ مسؤولة بشكل حاسم عن العاطفة والتحكّم السّلوكي.

هل يمكن للقتْل أن يكون عَرَضًا لمرضٍ دماغيّ؟ وإذا كان اختطاف أدمغتنا سهلًا إلى هذا الحدّ، فهل نمتلك إرادة حرّة؟

يُلقي علماء الأعصاب ضوءًا جديدًا على هذه الأسئلة من خلال الكشف عن الطريقة التي تدفع بها الآفات الدّماغيّة الإنسانَ إلى ارتكاب سلوك إجراميّ. ففي دراسة حديثة تتضمّن أوّل بحثٍ منظّم لـ17 حالة إجراميّة مشهورة مسبوقة بظهور آفات دماغيّة، فهل هناك منطقة دماغيّة واحدة تُعنى دائمًا بحالات السّلوك الإجراميّ؟

لا… فقد وجد الباحثون أنّ تلك الآفات كانت موزّعة على نطاق واسع في مناطق دماغيّة مختلفة، رغم أنّها كلّها كانت جزءًا من منطقة واحدة في الشبكة الوظيفيّة؛ حيث تقع هذه الآفات في مناطق مختلفة لدائرة واحدة تسمح للخلايا العصبيّة في جميع أنحاء الدّماغ بالتعاون معًا لإنجاز مهامّ معرفيّة معيّنة. وكوننا في حقبة الإثارة المتزايدة حول رسم خرائط للدّماغ “الشبكة العصبيّة”، تتلاءم هذه النتيجة مع فهمنا لوظائف الدماغ المعقّدة على أنّها لا تقع في مناطق دماغيّة منفصلة، ولكنْ في شبكات عصبية مترابطة بكثافة ومنتشرة على نطاق أجزاء مختلفة من الدماغ.

إعلان

والمثير للاهتمام أنّ “الشبكة المرتبطة بالإجرام” التي حدّدها الباحثون، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشبكات المسؤولة عن اتخاذ القرار الأخلاقي، وبصورة أشدّ، ترتبط بمكوّنَين محدّدَين في علم النّفس الأخلاقي: نظريّة العقل واتخاذ القرار القِيَمي. وتشير نظريّة العقل إلى القدرة على تفهُّم المعتقدات والمشاعر ووجهات نظر الآخرين. وهذا يجعلك، على سبيل المثال، تعرف أيًّا من أفعالك سيتسبب بإخافة أو إيلام شخص ما. أمّا اتّخاذ القرار القيمي فيشير إلى القدرة على تقييم أفعال معيّنة وعواقب تلك الأفعال. ويساعدك هذا، بالإضافة إلى معرفة المخرجات المستقبليّة لأفعالك، على تحديد إذا ما كانت هذه الأفعال والمخرجات خيّرة أو شرّيرة.

فالرّسائل التي كتبها تشارلز ويتمان عشيّة ابتهاجه بقتل زوجته تفتح لنا نوافذًا تقشعرّ لها الأبدان على العقل الذي يفقد القدرة على فهم الخير والشرّ والآخرين: “بعد تفكير عميق، قرّرت قتل زوجتي، كاثي… أحبّها كثيرًا، طالما كانت زوجة جيّدة معي، كلّ رجُل يتمنّى أن يحظى بامرأة مثلها. لا أستطيع تحديد سبب منطقيّ واحد لفعل هذا.”

******   

هذا البحث يوجّه لنا جميعًا أسئلة مقلقة عن تشارلز ويتمان والأفراد الآخرين في الدّراسة. فإذا كانت أفعالهم ناجمة عن تلفٍ في الدّماغ وتعطًّلٍ في الشبكة العصبيّة، هل كانوا يتصرّفون بإرادتهم الحرّة؟ هل نعدّهم مسؤولين أخلاقيًّا عمّا ارتكبوه فندينهم في المحاكم؟ هل نعدّهم مرضى أم مجرمين -أم الاثنين معًا؟

تابع العلماء حالات مشابهة لحالة تشارلز ويتمان إلى المنحدر الزّلق، وصولًا إلى الاستنتاج الأكثر تطرّفًا: من خلال الكشف عن الأسباب البيولوجيّة للسّلوك، يُظهر علم الأعصاب أنّ “الإرادة الحرّة، كما نفهمها عادةً، وَهْم.”

ولكنّ هذه الحُجج ترتكز على مفهومٍ مغلوط للإرادة الحرّة. إذ يجب ألا تُفهم الإرادة الحرّة على أنّها قدرة غامضة مفصولة عن نشاطنا الدّماغيّ تتسبّب بأفعالنا. في الحقيقة، قد يكون العكس تمامًا هو الصّحيح: تتطلّب الإرادة الحرّة صِلاتٍ معيّنة بين أدمغتنا وأفعالنا. ففي النّهاية، أدمغتنا هي الأساس البيولوجي لهويّتنا؛ هناك تسكن ذكرياتنا وقِيَمنا ومخيّلتنا، بالإضافة إلى قدرتنا على المنطق؛ أي أنّ أدمغتنا تحتوي كلّ القدرات اللازمة لاتّخاذ قراراتنا الخاصّة والفريدة، ولتنفيذ الأفعال وفقًا لإرادتنا.

سيمكّننا هذا الفهم للإرادة الحرّة من طرح أسئلة أكثر تطوُّرًا فيما يتعلّق بالصّلات بين الدّماغ والسّلوك الإجرامي عند التعامل مع قضايا مثل قضيّة تشارلز ويتمان. فبدلًا من الاكتفاء بالإشارة إلى الحقيقة الواضحة التي تقول بأنّ لكلّ فعلٍ مسبّب عصبيّ، يمكننا تجاوز ذلك إلى السؤال عمّا إذا كان تلفٌ عصبيٌّ معيّن يُضعف القدرات النّفسيّة اللازمة للإرادة الحرّة -القدرة على تخيُّل المسارات الممكنة لفعلٍ ما، واستبصار الأسباب ذات الصّلة بالفعل، وإدراك السّمات الأخلاقيّة للأفعال ومخرجاتها، واتّخاذ القرارات التي تتلاءم مع قِيَمنا والتحكّم بالسّلوك في وجه قُوى الدّفع المتنافسة.

إنّ  المكوّنات المحدّدة في علم النّفس الأخلاقي والمعطَّلة جرّاء تلفٍ في الشّبكة المرتبطة بالإجرام قد تتداخل، بالضّرورة، مع هذه القدرات؛ إذ أنّ نظريّة العقل واتّخاذ القرار القِيَمي مهمّان لإدراك التأثير الأخلاقي لأفعالنا وفهمنا للطّريقة التي سيتلقّى بها الآخرون هذه الأفعال. فإذا عانى شخص من ضعف فعليّ في هذه القدرات، سيسيطر فقط على شكل مشوّه من الإرادة الحرّة. ونظرًا لذلك، يجب بشدّة أن يقيّم البحث المستقبليّ بشدّة درجة ضعف هذه القدرات وغيرها عند المصابين بتلفٍ في هذه الشبكة.

******     

 عند الانتقال من التساؤل بشأن الإرادة الحرّة إلى قضايا المسؤوليّة الأخلاقيّة والتجريم القانوني، يصبح من المهمّ تقييم كلّ حالة في ضوء نطاق واسع من العوامل، وعدم الاقتصار على الضّرر العصبيّ الذي أثّر على السّلوك. فقد خَلَص بحث سابق إلى أنّ السلوك الإجرامي يتأثّر بالوراثيّات، وإساءة المعاملة في مرحلة الطّفولة، وتدنّي احترام الذّات في مرحلة المراهقة، ونقص الدّعم الأبوي، والظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة السيّئة، والتمييز العنصريّ.

وإذا نظرنا مرّة ثانية في حالة تشارلز ويتمان، ستدفعنا معرفتنا عن وَلَعِه بالبنادق مبكّرًا -بعمر السنتين- وعن قسوة أبيه، إلى التساؤل عن أثر ذلك في تحوّله إلى العنف في وقت لاحق.

 

إنَّ الدّرس المتعلَّم هنا هو أنّ السّلوك البشريّ معقّد، وأنّ تلفًا دماغيًّا لا يُعدّ ضروريًّا ولا كافيًا لارتكاب سلوك إجراميّ: فهنالك حوالي 700,000 شخصٍ يعانون من تلف دماغيّ في الولايات المتحدة، وحوالي 800,000 شخصٍ تصيبهم سكتات دماغية كلّ عام، ولكنّ الحالات المعروفة التي انتهت بسلوك إجراميّ تُقدَّر بالعشرات. وهكذا، نحتاج إلى مزيد من البحث لنتمكّن من تحديد مدى احتماليّة ارتكاب المرضى الذين يعانون من تلفٍ في “الشبكة المرتبطة بالإجرام” الجرائم، مع توقُّع أنّ هذا التّلف سيكون عاملًا واحدًا من بين العديد من العوامل التي ترفع من خطر السلوك الإجرامي.

حقيقة أنّ العنف قد يكون عَرَضًا لمرض دماغيّ لا يصرِفُنا إلى القول بأنّ الإرادة الحُرّة وَهْم، بل إلى أنّها معرّضة للضّرر كأيّ قدرة بشريّة أخرى. هذه الحالات النّادرة من الاختلال الوظيفي تؤكِّد لنا أنّ أدمغتنا الصحيّة تمنحنا قدرات استثنائية للتخيّل والتفكير والتصرّف بحريّة.


 

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
اترك تعليقا