ما العلموية؟ (مترجم)
إنَّ العلموية كلمة غريبة نوعًا ما، فرغم أن هذا المصطلح قد صيغ في عهد ليس ببعيدٍ، فهو يشترك مع المذاهب الأخرى ذات التاريخ الطويل والمضطرب مثل المادية، الاختزالية، التجريبية، والوضعية في عددٍ من النقاط.
يعرُّف ريتشارد جي أولسون Richard G. Olson العلموّية بأنَّها: “الجهود الرامية إلى توسيع نطاق الأفكار والأساليب والممارسات والمواقف العلمية لتشمل مواضيع ذات جانب اجتماعي وسياسي.” أما الفيلسوف توم سوريل Tom Sorell فيرى أنها تتجلَّى في وضع قيمة مرتفعة للعلوم الطبيعية مقارنة مع باقي فروع المعرفة والثقافة.” في المقابل، يقدّم الفيزيائي يان هاتشينسون Ian Hutchinson نسخة قريبة من نفس المعنى السابق، لكن أكثر تطرفا، ويقول :”العلم، على غرار العلوم الطبيعية، هو المصدر الوحيد للمعرفة الحقيقية.”
هذه بعض التعريفات التي تصاغ للعلموية، وهو توجُّه تعود جذوره إلى أوروبا أواخر عصر النهضة، وقد ساهم، بشكل أو بآخر، وفي بداياته الأولى، في نشر روح البحث العلمي، إذ دعا إلى التركيز على المنهج التجريبي المستند إلى الأدلة والبراهين، لكنَّه تحوّل في عصور لاحقة من دعوة مستندة على مقَدِّمات صحيحة (استخدام العلم لتفسير الكون) إلى أيديولوجيا (العلم يقدم إجابات عن كل شيء) لا تختلف عن باقي الأيديولوجيات التي تروَّج حولنا.
تاريخ العلموية
تمتد جذور العلموية إلى أوروبا في أوائل القرن الـ17، الحقبة التي باتت تعرف باسم عصر الثورة العلمية. كان معظم العلماء حتى ذلك الوقت يحترمون التقاليد الفكريَّة السائدة، التي كان أغلبها خليطًا من تعاليم الكتاب المقدَّس والفلسفة اليونانية القديمة، لكن مدًّا من العلوم الجديدة في أواخر عصر النهضة انطلق يتحدَّى سلطة القدماء، ويعلن بذلك بداية تصدّع الأسس الفكريَّة القديمة المترهِّلة، إذ قاد كل من فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت وجاليليو جاليلي حركة أمميَّة أعلنت أسسًا جديدة لاستقاء المعارف والعلوم، حركة اهتمّت بدراسة الطبيعة على نحو دقيق، عوض اللجوء إلى تحليل النصوص الدينية القديمة لتفسير العالم.
استخدم ديكارت وبيكون لغة صارمة ومحكمة قصد إذاعة الأساليب العلمية الجديدة التي اقترحوها. زعمًا أنه من خلال معرفة كيفية عمل العالم المادي سيتسنَّى للإنسان أن يصبح سيد الطبيعة ومالكها، بحيث أنَّه سيتغلَّب على الجوع من خلال الاختراعات الحديثة في الزراعة، ويقضي على الأمراض من خلال الأبحاث الطبية، ويحسّن من نوعية الحياة عامة باستخدام التكنولوجيا والصناعة، وفي الأخير سينقذ العلم البشر من المعاناة غير الضرورية ومن ميولهم التدميريَّة، كل ذلك في هذا العالم، وليس في العالم الآخر.
بعد أن لاقت هذه الدعاوي الجديدة نجاحًا كبيرًا، بدأ طيف العلموية في الظهور، إذ أعلى بيكون وديكارت من أهمية استخدام العقل والمنطق في مقابل بخس القدرات المعرفية الأخرى، مثل الإبداع والذاكرة والخيال. جعل التصنيف الذي وضعه بيكون للتعلم كلّ من الشّعر ودراسة التاريخ في مرتبة متأخرة في سلم المعرفة، ووصفُ ديكارت للكون على أنه آلة عملاقة صماء أغلق المجال على الفنون وغيرها من أشكال التعبير الإنسانية الأخرى ووضعها في مرتبة متدنيَّة. من ناحية، فتح خطاب هؤلاء النهضويين آفاقا جديدة للتساؤل الفكري، لكنه من ناحية أخرى، ضيق المجالَ على ما يمكن أن يُعتبر أنشطة معرفية جديرة بالاهتمام.
بعد قرنٍ من الزمن أكمل مفكرو عصر التنوير علاقتهم مع العلوم الطبيعية، فزعموا أن بإمكان العلم تحسين الأخلاق مثلما بمقدوره تحسين نوعية حياة البشر. وكمثال على ذلك، كان الكاتب دينيس ديدرو يتوخى جمع وتنظيم والحفاظ على المعارف البشرية كلها، بحيث يمكن للأجيال الناشئة، إضافة إلى تعلّمها بصورة أفضل، أن تصبح في الوقت نفسه أكثر سعادة وفضيلة، وهو نفس ما زعمه فلاسفة فرنسيين قالوا أنَّ العلم يمكن أن يحل محل الدين، الأمر الذي بدا واضحا إبان الثورة الفرنسية، إذ جرى تحويل العديد من الكنائس الكاثوليكية إلى معابد للعقل تُقدّم خدمات شبه دينية لعباد العلم.
شهد القرن الـ19 أقوى صياغة للعلموية، وهو ما أطلِق عليه اسم الوضعية. شيَّد مؤسِّسها، أوجست كونت، فلسفته تلك انطلاقًا من التزام عميق بالفلسفة التجريبية الشكِّية للفيلسوف ديفيد هيوم، فزعم أنَّ المعرفة الوحيدة الصحيحة هي التي حصّلت من طريق الحواس، إذ أنَّ أيّ شيء يتعالى على الحواس أو ينتمي لمجال الغيب لا يمكن أن يكون ادعاءً صحيحًا وشرعيًا. كانت مهمة العلماء في هذا العصر تنقسم إلى شقين، أولًا: إثبات أن كافّة الظواهر، بما في ذلك السلوك البشري، تخضع لقوانين طبيعية صارمة لا تتغيَّر، وثانيًا: الحد من عدد القوانين الطبيعية حتى يتسنى لهم، في نهاية المطاف، توحيدها تحت راية قوانين الفيزياء.
كان لدى كونت، أيضا، رؤية تحدِّد المسار التاريخي لتطوُّر الفكر، ما سمّاه قانون المراحل الثلاث، ويقول هذا القانون أن كل فرع من فروع المعرفة يمر بثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية أو الوهمية، والمرحلة الميتافيزيقية أو المجردة، وأخيرًا المرحلة العلمية أو الوضعية، كما اعتقدَ أنه من خلال الارتقاء المستمِّر بالفهم البشري، سيتلاشى الدين، وستتحوَّل الفلسفة والعلوم الإنسانية إلى مجرَّد مبادئ طبيعية، وستصبح كافة المعارف البشرية في النهاية منتَجًا مباشرا للعلم، وأي أفكارَ خارجَ مجاله ستكون ضربًا من الخيال والخرافة والوهم.
لم تفقد الفلسفة الوضعية جاذبيتها في القرن الـ20، بل على العكس، فمع تشكل دائرة فيينا، أحييت المبادئ الأساسية للوضعية مع تعزيزها بالمنطق الصوري ونظرية السيمانطيقا، وهو ما أطلق عليه الوضعية المنطقية. داخل هذا النظام، لا يوجد سوى نوعين من العبارات ذات المغزى: العبارات التحليلية وتنتمي لمجال المنطق والرياضيات، والعبارات التجريبية التي تخضع للتحقُّق تجريبيًا في المختبرات.
تعرَّضت الوضعية المنطقية لمساءلة دقيقة وعميقة نظرا لمزاعمها الكثيرة، وقد أشار كارل بوبر إلى أن التصريحات العلمية التي يمكن في الواقع التحقُّق من صحتها تمامًا، محدودة، بحيث أن ملاحظة واحدةً كفيلةٌ بإبطال فرضية، وحتى نظرية، بأكملها. ولذلك اقترح أنه بدلًا من التحقق التجريبي، يجب أن يحدّد مبدأ القابلية للتخطيء ما يمكن وصفه بالعلم، وبالتالي، ما يمكن وصفه بالمعرفة.
نقطة الضعف الأخرى للموقف الوضعي هو اعتماده على التمييز التام بين النظرية والملاحظة. اعتبر الوضعيون الملاحظات (العنصر المهم في النهج التجريبي للعلوم) حقائق لا تقبل المساءلة، يمكن لأيِّ أحدٍ استخدامها لإنشاء وتقييم ومقارنة النظريات. ومع ذلك، أشار ويلارد فان أورمان W.O. Quine في مقاله “Two Dogmas of Empiricism” أنَّ الملاحظات نفسها تتشكَّل، جزئيًا، بناء على أسس نظرية، أي أنَّ ما يمكن اعتباره ملاحظة يتطلب، أولا، إطارا نظريا تفسيريا. وهذا الإدراك لا يلغي الممارسة التي تقوم عليها العلوم، لكنَّه يضعف دعوى الوضعيين بأنَّ العلم يعتمد على نحو كلِّي وحصري على الحقائق، وبأنَّه، بالتالي، ركيزة لا جدال فيها للمعرفة.
العلموية حاليًا
ما زالت العلموية اليوم على قيد الحياة، مثلما يتضح من أقوال مشاهير العلماء مثل كارل ساجان Carl Sagan (الكون هو كلُّ ما هو كائنٌ، كلٌّ ما كانَ، وكلُّ ما سوف يكون)، وستيفن وينبرغ Steven Weinberg (كلما بدا الكون مفهومًا كلما بدا أنَّه لا طائل منه)، وإدوارد أوسبورن ويلسون Edward Osborne Wilson (يمكن لنا أن نفتخر ككائنات حية لأنَّنا، بعد أن اكتشفنا أنَّنا وحدنا في الكون، ندين للآلهة بالقليل جدًا).
في حين أن هذه الأقوال لا تعكس سوى آراء أصحابها لا غير، إلَّا أنَّ تقديم مثل هذه التصريحات الجريئة ضمن مجال عِلمهم يطمس الخطَّ الفاصل بين العلوم القائمة على أدلة صلبة والتخمينات الفلسفية العامّة، وسواء اتفق المرء مع هذه الآراء أم لا، فنتيجة هذه التصريحات هو تنفير شريحة واسعة من المجتمع من العلم.
يقدّم الفيزيائي ايان هاتشينسون تشبيهًا لائقًا للخلافات الحالية في ميدان العلم، فهو يرى أنَّ العلموية لا تُحسِّن صحّة العلم، بل تهدّدها، فهي تثير، على أقل تقدير، ردَّة فعل دفاعية واستجابة مناعية عدوانيَّة من طرف التيارات الفكريَّة الأخرى، مقابل الغطرسة والإرهاب الفكري المميَّزين لها، مما يؤدي، تباعا، لتلوّث العلم وفساده.
وإذ يشير إلى أنَّ معظم الناس يرحِّبون بحماس بالتقدُّم العلمي، لا سيما في مجالات الرعاية الصحية والنقل والاتصالات، يرى هاتشينسون أنَّ الناس عامة ربما لا ينفرون، في الواقع، من العلم، ولكن من التصوُّر الذي يربط نفسه على نحو وثيق مع العلم، أي العلموية، وبالعمل على التفريق بين المفهومين، ستزداد فرص حشد تأييد الرأي العام للبحث العلمي، وذلك عوض محاولة إقناع ملايين الناس باعتناق توجُّه مادي يُغيَّب الإله عن الكون، ويقول أنَّ العلم هو الأمل الوحيد المتبقي.
التمييز بين العلم و العلموية
إذن، إذا كان العلم يختلف عن العلموية فما تعريفه؟
العلم هو نشاطٌ يهدف لاستكشاف العالم الطبيعي باستخدام أساليب محدَّدة ودقيقة، فنظرًا لتعقيد الكون، من المكونات الكبيرة إلى المكونات الصغيرة، ومن الكائنات غير العضوية إلى الكائنات العضوية، توجد مجموعة كبيرة من التخصُّصات العلمية، يعتمد كلّ واحد منها على تقنيات خاصة به لاستكشاف موضوع دراسته، ويتزايد عدد التخصُّصات العلمية باستمرار، ما يفتح المجال لطرح مزيد من الأسئلة واستكشاف مجالات لم تكن معروفة من قبل، أي أنَّ العلم يُوسّع مداركنا عوض وضع حدود لها.
العلموية، في المقابل، توجُّهٌ تخميني حول الحقيقة المطلقة للكون ومغزاها. فعلى الرغم من أنَّ هناك ملايين الفصائل على كوكبنا، فالعلموية تُركِّز بشكلٍ مبالغ فيه على السلوك البشري والمعتقدات البشرية، وبدل الاشتغال ضمن الحدود والمنهجيات التي يعمل داخلها العلماء، تُطلق العلموية تعميماتٍ حول كثير من التخصُّصات الأكاديمية وترفض كثيرًا منها لأنَّها، حسب قولها، أقل شأنًا. وبذلك، يمكن القول أنَّ العلموية تضع قيودا على قدرة البشر على طرح الأسئلة.
إنه لأمرٌ واحدٌ أن يُحتفل بالعلم لإنجازاته، وقدرته الاستثنائية على تفسير جملة واسعة من الظواهر في العالم الطبيعي، ولكن ادعاء استحالة معرفة شيء ما، خارج نطاق العلم، يماثل قول صياد ناجح أنَّ كلّ ما لا تستطيع شباكه أن تمسكه، لا وجود له، فبمجرَّد قبولك القول أنَّ العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة البشرية، تكون عندها قد اتخذت موقفًا فلسفيًا لا يمكن التحقُّق منه، أو تخطئته، باستخدام أدوات العلم نفسه. هذا الموقف هو، في هذه الحالة، موقف غير علمي.
المصدر: ?What is Scientism