كيف نعرف الإبادة الجماعية ولماذا يصعب إثباتها؟ (مترجم)
كثيرًا ما خطب «بان كي مون»، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، أمام قادة دوليين ودبلوماسيين رفيعي المستوى. لكنه خاطب جمهورًا مختلفًا عن هؤلاء ذات يوم من أيام عام 2014؛ إذ وقف أمام حشد ضاقت به جنبات الاستاد المحتضن للحدث، بلغ عدده 30 ألفًا من الروانديين المكلومين ممن شهدوا قبل عقدين من الزمان المذابح التي ارتُكبت بحق بني وطنهم، وراح ضحيتها ما يزيد عن 800 ألف منهم خلال مائة يوم من الرعب المتواصل، الذي عُرّف لاحقًا بوصفه “إبادة جماعية”. وسط صراخ ونحيب الناجين، قال بان كي مون حينها: “يجب ألا نبقى نكرر عبارة “ليس ثانيةً” مرارًا وتكرارًا“.
كانت مذابح رواندا المرة الأولى في التاريخ التي تدين فيها محكمة دولية أي شخص بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وهي الجريمة التي لم تعرّف رسميًا إلا في أعقاب الهولوكوست. أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا النقاشات المعاصرة حول مفهوم الإبادة الجماعية وتداعياته. نستعرض فيما يلي كيف ظهر مصطلح الإبادة الجماعية وأسباب صعوبة إثبات حدوثها.
نشأة المفهوم
لم يظهر مفهوم الإبادة الجماعية إلى حيز الوجود بصفته مفهوما قانونيا إلا في أربعينيات القرن الماضي. ويعود أصله إلى «رافاييل ليمكين – Raphael Lemkin»، رجل القانون اليهودي البولندي الذي عمل في مجال القانون الدولي،المستجد آنذاك. شعر ليمكين، وفقًا لما ذكره كاتب سيرته «دوغلاس إيرفين إيركسون – Douglas Irvin Erickson»، بأن “قوانين الحرب الموجودة كانت قاصرة عن معالجة الأشكال الجديدة من العنف السياسي التي كانت تعصف بالعالم”.
شهد العام 1933 أولى محاولات ليمكين لكتابة قانون جديد للحروب، بعد مضي 10 أشهر على تقلّد «أدولف هتلر» منصب مستشار ألمانيا وشروعه في سنّ قوانين قمعية معادية لليهود الألمان.
كتب ليمكين مقترحًا إلى عصبة الأمم، وهي منظمة دولية تأسست لحفظ السلم العالمي، يحثّها على تجريم ما وصفه بـ”الهمجية و”التخريب”. لكن المقترح لم يرَ النور، وفرّ ليمكين من بولندا فور احتلال ألمانيا النازية بزعامة هتلر لبلده.
انتهى المطاف بليمكين في الولايات المتحدة، حيث نشر في عام 1944 كتابًا بعنوان “حكم المحور في أوروبا المحتلة”، وفيه استخدم المصطلح الجديد «genocide» لأول مرة. صاغ ليمكين المصطلح في عام 1942 دامجًا بين لفظة «genos» اليونانية (وتعني العرق أو القبيلة) ولفظة «cide» اللاتينية وتعني فعل القتل. ولئن امتلكت بعض الثقافات لفظة خاصة بها تعبّر عن هذا المفهوم مثل لفظة «Völkermord» الألمانية، التي تعني الاستهداف المتعمد لعرق أو مجموعة أشخاص، فقد أراد ليمكين استحداث مصطلح جديد لا تستأثر به لغة واحدة.
لم يكن الحلفاء قد تبيّنوا حينها حجم جرائم الحرب التي ارتكبها هتلر. لكن في عام 1945، وعقب تحرير عدد واسع من معسكرات الاعتقال النازية، ظهر المدى الحقيقي لفظائع الهولوكوست. سعى ليمكين، الذي فقد والديه و47 من أفراد عائلته على يد النازيين، لإدراج المصطلح في لوائح الاتهام الخاصة بمحاكمات نورنبيرغ، التي فضحت مدى بشاعة ووحشية الهولوكوست. ونجح في مسعاه؛ ولذلك اكتسب المصطلح الجديد زخمًا كبيرًا بينما كان العالم مهجوسًا بكيفية حماية الأجيال المقبلة.
محددات الإبادة الجماعية
في ديسمبر 1946، وبعد نهاية المحاكمات، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإبادة الجماعية جريمةَ بموجب القانون الدولي. وبعد عامين من هذا التاريخ، اعتمدت الجمعية “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، وقد وصفت اتفاقية عام 1948 محاولة التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بـ”الآفة البغيضة”. ومنذ ذلك الحين، عُدّت الإبادة الجماعية جريمةَ في عرف المجتمع الدولي.
لكي تتم إدانة الطرف المتهم، سواء كان فردًا أم دولة، فلا يكفي لذلك أن يثبت عليه وجود النية إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، بل يجب أن تتبعها ممارسة أو أكثر من الممارسات التالية:
أ- قتل أفراد من المجموعة.
ب- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بالمجموعة.
ج- إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
هـ- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
من يُتهمون بارتكاب جرائم إبـادة جماعية يجب أن تتم محاكمتهم إما في محكمة دولية وإما في الدولة التي ارتُكب فيها الفعل المزعوم.
على المستوى القانوني، يوجد فارق بين جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب؛ إذ تقتصر الأخيرة على سياقات النزاعات المسلحة وتتضمن “القتل العمد” واتخاذ الرهائن والتسبب في إزهاق الأرواح أو إيقاع الإصابات. بيد أن الجرائم ضد الإنسانية يمكنها أن تطال تلك الجرائم التي تحدث في أوقات السلم وتشمل جرائم القتل والاسترقاق فضلًا عن الاضطهاد بسبب الجنس أو الإثنية أو الدين.
ومع أنه من الممكن أن تكتوي أعداد كبيرة من البشر بنيران هذه الجرائم جميعها، لكن ذلك لن يسوّغ ارتقاء تلك الجرائم لمستوى الإبادة الجماعية إلا إذا استهدفت مجموعة معيّنة من البشر وتوفّرت النية لـ”تدميرهم كليًا أو جزئيًا”. وإذ تصعب إقامة دعوى الإبادة الجماعية فإن المجتمع الدولي يجنح إلى توجيه تهم أخرى بدلًا منها.
جرائم الإبـادة الجماعية تجد طريقًا إلى المحكمة
رغم أن الإبادة الجماعية أضحت مجرمة قانونيًا في نهاية المطاف، إلا أن إنفاذ تجريمها على أرض الواقع قد استغرق من المجتمع الدولي عقودًا. حدث ذلك في عام 1994؛حين أنشأ مجلس الأمن الدولي محكمة جنائية دولية في أعقاب أعمال القتل الجماعي التي دارت رحاها أثناء الحرب الأهلية الرواندية؛حين أقدمت ميليشيات مسلحة تابعة لمجموعة الهوتو الإثنية على قتل مجموعات تابعة لأقلية التوتسي، إثر اغتيال الرئيس الرواندي «جوفينال هابياريمانا – Juvénal Habyarimana» في شهر أبريل من العام نفسه.
تختلف التقديرات حول العدد الحقيقي للضحايا، لكن يُعتقد أن ما لا يقل عن 800 ألف شخص قُتِلوا خلال 100 يوم فقط، كما عانى الناجون من المقتلة ويلات العنف الجنسي والتعذيب.
أدانت المحكمة الجنائية الدولية 93 فردًا بين عامي 1994 و2016، كان كثيرٌ منهم مسئولين من رتب عالية المستوى داخل رواندا، كما اقرّت بارتكاب 62 منهم لجريمة الإبادة الجماعية والتحريض عليها فضلًا عن ارتكابهم جرائم أخرى.
بعد ذلك اتُهمت صربيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية في البوسنة والهرسك خلال حرب البلقان مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع ممارسة القوات الصربية لأعمال تطهير عرقي بحق مسلمي البوسنة.أعدم أعضاء في جيش جمهورية صرب البوسنة مدعومين بمجموعة شبه عسكرية نحو 8000 من الرجال والفتيان البوسنيين بصورة ممنهجة.
في أعقاب تلك المذبحة، خلصت الأمم المتحدة إلى أنها ساعدت -دون قصد- على وقوع أعمال القتل الجماعي تلك جرّاء إحجامها عن التدخل. ورغم إدانة أفراد عديدين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إلا أن الأمم المتحدة برأت صربيا من مسئولية ارتكاب هذه الجريمة.
شاركت الأمم المتحدة كذلك في الجهود الرامية إلى التحقيق مع المتهمين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية إبان حكم الخمير الحمر لكمبوديا بين عامي 1975 و1979 فضلًا عن ملاحقتهم ومحاكمتهم. ذلك أنه كان يُشتبه في ارتكاب نظام «بول بوت – Pol Pot» جرائم تعذيب وقتل طالت زهاء مليون وسبعمائة ألف شخص. ورغم تعاون الحكومة الكمبودية مع المحكمة الدولية، فقد تعطل سير التحقيقات بشأن هذه الجرائم ولم يسفر إلا عن إدانة ثلاثة أشخاص.
لماذا يصعب إثبات وقوع الإبادة الجماعية
فور ظهور مصطلح الإبادة الجماعية، بدأ الباحثون في استخدامه لوصف الفظائع التاريخية التي تضمنت أعمال قتل جماعي، مثل عمليات القتل الجماعي لسكان كاليفورنيا الأصليين على يد المستوطنين الأنجلو أمريكيين، إضافة إلى ممارسات التعقيم التي ارتكبتها الصين بحق أقلية الإيغور خلال عام 2020، فضلًا عن المذبحة التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بحق الأرمن المسيحيين خلال عامي 1915 و1916 وراح ضحيتها ما لا يقل عن مليون ونصف مليون شخص.
على أن الفظائع الجماعية التي صُنّفت بوصفها إبادة جماعية بمعايير القانون الدولي ما زال عددها قليلًا للغاية. ورغم وضوح القانون بشأن ما يمكن اعتباره جريمة إبادة جماعية، يرى نقّاده أن المبدأ القانوني الحاكم لهذه العملية شديد التحديد، حتى إنه لا يكاد ينطبق على عمليات القتل الجماعي أو الأعمال الوحشية المُرتكبة بحق مجموعة من الناس.
فبحسب الأمم المتحدة: “تحديد نية الفعل هو الأمر الأصعب، التدمير الثقافي لا يكفي ولا حتى النية إلى تشتيت شمل المجموعة”.
عمليًا لا تستطيع الأمم المتحدة ملاحقة المدانين بالإبادة الجماعية إلا إذا تقاعست دولة مشاركة عن الوفاء بالتزاماتها في الملاحقة القضائية لمرتكبي الجريمة. وبناء على هذا المبدأ، فثمة طرق متنوعة وكيانات مختلفة يمكن من خلالها محاكمة جريمة الإبادة الجماعية.
يرى بعض الخبراء القانونيين أن مفهوم “الإبادة الجماعية” غير كافٍ في ذاته للحد من ارتكاب هذه الجريمة؛ ذلك أن صعوبة إثبات حدوثها تحول دون تمكّن المدعين العموميين من إقامة الدعوى في المحكمة إلا في حالات نادرة للغاية. وفي ذلك تقول «راشيل بيرنز – Rachael Burns»، أستاذة علم الجريمة في جامعة يورك: “لدى المجتمع الدولي الكثير من العمل اللازم إنجازه بهذا العدد الضئيل من حالات الإدانة”.
أضحت الإبادة الجماعية جريمة من أشنع الجرائم، بيد أن هذا المصطلح يظل قابلًا لإساءة الاستخدام من قِبل بعض الفاعلين السياسيين ممن يمكنهم أن يتخذوه سبيلًا للتعمية على جرائمهم.
في هذا الصدد، كتب «ماثيو كوبفر – Matthew Kupfer» و«توماس دي وال – Thomas de Waal»، من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أنه ومنذ أربعينيات القرن الماضي، استخدمت كيانات سياسية مثل الاتحاد السوفيتي السابق اتهامات الإبادة الجماعية وسيلةَ للتجييش الشعبوي. وأضاف الكاتبان أنه، وللمفارقة، فقد جُردّت لفظة “الإبادة الجماعية” من معناها القانوني الأصلي وغدت أداة من أدوات الحرب.
موقع الإبادة الجماعية ممّا يحدث في أوكرانيا
الكثير من أعضاء المجتمع الدولي اليوم -ومن بينهم الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي والرئيس الأمريكي جو بايدن- يتهمون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جريمة إبادة جماعية خلال حربه الحالية ضد أوكرانيا. في 12 أبريل الماضي، قال بايدن: “يتضح لنا بشكل جليّ أن بوتين يحاول إلغاء فكرة أن يكون بوسع المرء أن يصبح أوكرانيًا” بحسب ما نقلت عنه الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية.
وفيما يتجاهل بوتين تلك المزاعم، يظل حكم محكمة العدل الدولية معلقًا فيما إذا كان غزو روسيا لأوكرانيا سيلحق بعدد قليل من الصراعات التاريخية السابقة التي استوفت الشروط القانونية الحاكمة لتعريف الإبادة الجماعية.
المصدر