كورونا … تراجيديا فيروس من الوباء إلى الثورة
من الصعب إدراك التمايز بين المتناقضات داخل مشهد معيّن ونحن منغمسين فيه بالكامل، والخط الفاصل بين البلاء والابتلاء يتجلّى حين يستطيع الإنسان امتصاص لطمات القدر ويرتكن إلى هدْي العقل والحكمة. كوفيد-19 أو كورونا ليس نتاج معامل بيولوجية في إطار الحرب السرية بين الولايات المتحدة والصين كما تخيّل البعض؛ ولا هو تمحور جيني في مكونات الفيروس كما فسره روّاد المعامل والخبراء.
دعني أهمس لك ببواطن الامور وأخبرك بأن كورونا هو نتاج بشري بامتياز ، لم تصنعه الطبيعة مصادفة أو أيادي خبراء الجينوم؛ بل هو نتاج حاصل جمع مكونات حضارة هذا الكوكب في نسختها ما بعد الحداثية ! لا أريد أن أنسج ميثيولوجيا من هذا الفيروس، وهذه السطور ليست قراءة إشراقية أو لاهوتية في دلالات الفيروس العالمي الناشئ.
لكن عالمية هذا الفيروس استطاعت أن تُزيح عنه الرداء التقليدي الذي ألبسه إياه ولد آدم كـ”وباء” ، وإظهار الوجه الفوضوي الحقيقي له. ربما عجزْ أهل الكوكب عن تفجير ثورة عالمية تنتشلهم وتنقذ ما تبقى من الحياة في خضمّ الربيع المتناثر هنا وهناك، جعلنا نخلع عن الفيروس صفة التثوير ! يمر موكب كورونا الثائر –كأي ثورة – متلبّسًا بالعنف والضحايا لكنه محمّل بالحقائق والاستحقاقات، ولعلَّ أهمها السلام والعدل .
مع تفشّي الفيروس؛ فجأة خمدت آلة الحرب على الأرض لحدٍ كبير ، فضباع الحروب فى أمريكا وروسيا والصين والخليج وسوريا وأوروبا وإيران توقفوا إجباريًّا؛ لأن الوفرة الاقتصادية والمالية التي توقظ المعارك والسلاح متأثرة ومتراجعة كسبب رئيسي وجوهري، فما أغبى حاسوب النظام العالمي الذي يفرز الإرهاب والحرب مع رخائه الاقتصادي وتقاربه الاتصالي !!
بورصات المال والطاقة والنفط التي تدهس ملايين العمال والموظفين يوميًا تحت عجلات الإنتاج والاستهلاك تراجعت وانهارت ،فكانت الحصيلة مشهد تراجكوميدي من صنع الفيروس العجيب : فامبراطوريات المال والإنتاج التي شيّدت صروحها على أكتاف وحقوق وطاقات وحريات العمال والموظفين تقدم اليوم الراحة والسلام والحقوق للعاملين على أطباق من فضة وكأن منطق الديالكتيك الماركسي أصبح يمشي للوراء !. أتذكر في هذه اللحظة حركات التمرد والثورة فى وول ستريت، وباريس وغيرها من البلاد الصناعية الكبرى حيث كان المطلب الراديكالي للثوار تجاه النظام السياسي الاقتصادي القائم “حول تخفيض عدد ساعات العمل حتى يتسنى للمواطن الفرد أن يكون لديه وقت للعيش والسعي وراء أشكال من القيمة؛ فكانت الحاجة –ولازالت- إلى بطء وتيرة عمل آلات الإنتاج لأن المهمة الحقيقية للحياة ليست المساهمة في شيء يسمّى الاقتصاد بقدر ما أننا جميعًا مشروعات للإبداع المتبادل”، حسب وصف ناشط وول ستريت والباحث “بول غريبر”.
فهل ينصف فيروس كورونا الثوار الآن ؟!
قد يستطيع أصحاب قوى المال المعولم المتعدي للقارات والحكومات المحلية في النظام الرأسمالي النيوبرالي تفادي الصدمات والحروب التي تؤثر على أرباحهم من خلال انتقال رؤوس الأموال عبر القارات والفرار سريعًا من أي مركب يدركه الغرق، لكن ماذا عن عالم اليوم الذي لم يتبقَ فيه مكان آمن ؟ هل تتجه هذه الاموال وبورصاتها إلى دول إفريقيا القليلة المتبقية والناجية حتى الآن من ضربات الفيروس، حيث لا خزائن أو أسواق مثمرة ولا منتجعات فارهة للاستجمام؟ المفارقات عديدة، لكن المؤكد لدينا أن القلاع الآمنة التي يتحصن بها ضباع وذئاب الاستبداد والمال والسلاح في مرمى الفيروس الآن دون حيطانِ صد؛ السجون ومعتقلوها أصبحت خطرًا على سلامة السجان، فالشرطة تهرع لبسط الأمن والغذاء للرعايا ،بورصات المال تنزف خسائر بلا توقف، ساحات الحرب بلا ذخيرة ومعونة وربما فقدت الهدف، تجار الأديان بلا بضاعة اليوم فى سوق لا بيع فيه ولا شراء.
استند النظام العالمي الجديد فى مشروعيته على أكذوبة إمكانية السعي والوصول نحو حضارة إنسانية عالمية يتشارك فيها الجميع بشتى ثقافاته -وإن كان مركز الثقل يتمثل بالحضارة الغربية-.
انتظر سكان العالم هذه الحضارة العالمية المبشر بها بعد أن وضعت الحرب أوزارها وبعد أن بشّرنا ساداتها بنهاية التاريخ وسجلاته في ظل وفرة اقتصادية واتصالية لم يشهدها العالم من قبل، وانتظر الجميع شيوعية الرفاه الرأسمالي المنتصر وروايات الألفية السعيدة، لكنها لم تأتِ بـأيّة مؤشر في الأفق على قدومها.
كورونا اليوم أجبر العالم على شيوعية جديدة، شيوعية الأزمة والخطر بعد أن رفض قادة العالم المتحضر أن يشاركوا بقية أهل الارض فى رخائهم وسلامتهم، العالم اليوم يقبل ويرضخ أن يتعايش مع نقائض الهندسة الاجتماعية التي صاغها وفرضها كـحتمية طبيعية واجتماعية على سكانه !!
نعم؛ يستطيع بعض الضباع أن يمرروا مخططاتهم وسط زحمة الكوارث الجارية لأنهم متطفلين على الجيفة بطبعهم المعهود، لكن رياح الخسائر تبدو أقوى منهم، لكن يستطيع الفقراء والمعدمين أن يجدوا عزائهم فى معركة النجاة من الفيروس في جداول القدر السماوي والراحة من غبن آلة الإنتاج الرأسمالية وانتظار هبات الآخرة؛ وهذا أشد ما يزعج أباطرة المال والسياسة فى العالم ويجعلهم متسارعين فى طلب النجاة لضحاياهم وزبائنهم؛ فلا بأس من أن تتوقف آلة الإنتاج ومصارف الديْن الآن !
بالطبع لن تتوقف فصول هذا الفيروس الذي جعل سكان العالم يتابعون أخبار معامل الأدوية والباثولوجي ومنظمات الصحة بانتظام وشغف بعد أن هجروا مشاهير الفن والرياضة والدين والإعلام. فصول من التراجيديا ترتقي لتصبح مسرح سوريالي بامتياز، ستكون حكرًا وبراءة اختراع لهذا الفيروس الذي سيؤطر نفسه يومًا ما مُلهما ونبيًا للبشرية. الآن أصبحت السياسة تنوب عن الفن في تقديم مشاهد سوريالية؛ لهذا سيجد مؤرخ الأدب بعد زمن أن ما كان من صميم الثقافة والإبداع اختطفته السياسة وقام أباطرة المال والسياسة بالدور غير المنوط بهم على الإطلاق.
نرشح لك: فيروس كورونا.. القاتل النبيل!