«صنعة الحزن» للفيلسوف روجر سكروتون: الحزن بوصفه فريضة والانعتاق من نير الذاكرة
في مقالةٍ بليغةٍ تحت عنوان «الحداد والميلانخوليا»، يشرح سيجموند فرويد مفهوم «صنعة الحزن» على أنَّه آليَّةٌ نفسيَّةٌ يُروَى بموجبها موضوع عزيز الثرى في تربة اللاوعي، لتتحرَّر بعدها الذات/ الأنا من سطوة قبضته.
وإلى حين أن يتعلَّم الفرد صنعة الحزن، ستغدو كلُّ حياةٍ جديدة، وكلُّ حبِّ طارئًا، وكلُّ اصطدامٍ طريِّ العود مع العالم تجربةً عسيرةً وحرجة، إن ما كانت متعذّرة!
وتفسير هكذا حالة، أي الحالة التي كانت تُدعى فيما مضى «ميلانخوليا/Melancholia»، من وجهة نظر فرويد، هو العجز المتصلِّب الذي يرقد فيه الميت دونما أن يُدفَن على سطيحة الوعي، مُلقيًا التحيَّة مع كلِّ نظرةٍ فارغةٍ مغمومة.
في العموم، لست مقتنعًا بعلم النفس الفرويديّ، لكن في ما يختصُّ بهذه المسألة؛ فقد كان فرويد يجانب الصواب في تفسيره، إذ نتكبَّد الكثير من الخسارات في هذه الحياة، إلَّا أنَّ بعض الخسارات هي خساراتٌ وجوديَّة، هي خساراتٌ تسرق منَّا جزءًا من كينونتنا، وبُعَيد هكذا خسارة، نُرمى في أرضٍ بكرٍ من الجهالة، حيث ينتفي منها كلُّ من اعتمدنا عليهم فيما مضى.
خسارة أحد الأبوين، وتحديدًا في بداية الحياة؛ هي حدثٌ يقلب عالمنا؛ حدثٌ يوشَم في قلب اليتيم مدى حياته، وخسارة شريك العمر حدثٌ على نفس القدر في فجاعته، وكذلك موت أحد الأبناء؛ الذي يأخذ برحيله أرقَّ مشاعر أبويه وأكثرها عذوبة، مع ذلك، ومهما كانت الصدمة أليمة؛ فالحزن هو شكلٌ من أشكال التشافي الذي يقود إلى النجاة، إذ من خلال الحزن؛ يواري الموتى الثرى، لنقيمهم بعدها من بين الأموات، لا بوصفهم كينوناتٍ حيَّة، وإنَّما أصنامًا طاهرة، مغسولةً الذنوب وقد حوَّرها غفراننا وتغاضينا. تعود هذه الأصنام مبجَّلة، كما لم تُبجَّل وهي على قيد الحياة، لأنَّها الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا الهرب من شعورنا الدفين بتأنيب الضمير: تبجيلهم هو غفراننا.
ويتأتَّى تأنيب الضمير من الحزن المتدفِّق على رحيل الفقيد وتوبيخنا إيَّاه على هجرنا، وتوبيخنا أنفسنا على قدرتنا النجاة دونه، وشيئًا فشيئًا، يأخذ الحزن هيئة محادثة؛ محادثة يتباحث فيها الطرفان (المحزون والراحل) ويلتمسان غفرانًا تحرِّكه فكرةٌ هي: كلُّ باطلٍ منسيّ، ودعنا نعقد الصلح!
لكن ليس من اليسير التوصُّل إلى هكذا حوار، إذ أنَّه يشتمل على لقاء، وجهًا لوجه، ربُّما بعد مضيِّ سنواتٍ من محاولة تفاديه، فثمَّة، حسب ما يشير المعالجون النفسيُّن، فترةٌ يعتريها الاستياء و اللوم الموجع للآخر المرتحل الذي خيَّل آمالنا نهائيًّا، ويمكن لهذا الاستياء أن يرتدي قناعًا استبداديَّا فاضحًا، متَّهمًا الآخر بأنَّ رحليه كان خطَّةً خفيَّة، قرارًا محبوكًا، حبكةً حِيكت لإقصائنا من وجوده بوصفنا عبئًا ثقيلًا، وذلك في الحين الذي احتجناه أشدَّ الاحتياج، وفي بعض الأحيان، لا نقدر على التحرُّر من الموتى إلَّا بعد قتلهم للمرَّة الثانية، كسيلفيا بلاث التي أشارت إلى ذلك في قصيدتها العظيمة «أبي»:
«يا أبي، لقد توجَّب عليَّ قتلُك
إذ قد فارقتَني قبل الأوان
باردٌ الرخامُ يا أبي، كيسٌ أثقلته الآلهة»
الحزن فريضة والحداد معراج نحو مراتب الآلهة:
إن التفجُّع على رحيل الأحبَّة طقسٌ شعائريّ، وفي بعض الظروف هو فريضةٌ أيضًا؛ فريضةٌ نؤدِّها للميّت المرتحل عنَّا؛ فالحزن هو دَينٌ علينا سندفعه إلى حين نتوصَّل إلى الغفران للراحل وتتلاشى ذكراه، وقد تعامل اليونانيُّون مع هذه المسألة بجديَّةٍ بالغة؛ إذ عندما عاد «عوليس» لزيارة «هيديس»، كانت هناك روح «إلبينور» الذي كان قد سقط ميتًا عن سطيحة قصر «سيرس» وتُرِك جسده هناك في عجلتهم للفرار، وهناك تخاطبه الروح قائلة:
«أستحلفك، أستحلفك بكلِّ من رحلت وهجرتهم وراءك، بزوجتك، بأبيك الذي ربَّاك صغيرًا، بولدك تيليماخوس الذي تركته مستوحدًا في قاعاتك، أستحلفك أن تحطَّ رحالك، مبحرًا من مملكة هيديس بفلكك الطيّب، في جزيرة أيايا. وهناك يا سيِّدي، أرجوك ألَّا تنسَني وألَّا تهجرني دونما رثاء، دونما أن تواريني في الثرى، وإلَّا فإنِّي متدفِّقٌ عليك كغضب الآلهة. فلتحرق جسدي ها هناك، جسدي كلَّه حتى يدي، وارتفع بهضبةٍ على شاطئ البحر الأشهب، في ذكرى رجلٍ شقيٍّ تعِس، لكي يستذكرني كلُّ من ليس لهم بي قِبَل. افعل هذا الصنيع لأجلي، وعلى ضريحي، ازرع المجذاف الذي كنت مستمسكًا به بينما كنت على قيد الحياة، المجذاف الذي استمسكت به وجذَّفت إلى جانب رفقائي»
يطالب إلبينور بحقِّه في جنَّاز مهيب، وفي الوقت نفسه يطالب بحقِّه في أن تُبكي ذكراه، إذ ينادي عوليس: «أرجوك ألَّا تنسَني وألّا تهجرني دونما رثاء، دونما أن تواريني في الثرى». يسوق إلبينور فكرة أنَّ فريضة الحداد على روحه دورٌ لا سبيل إلى الخلاص منه؛ خيطٌ من نسيج وشاح الرفعة والعهد الذي أوشى به البطل الإغريقي، أي عوليس، حياته فيه. وتكمن الفريضة في سفك الدموع، على الصعيد الفرديِّ والجمعيِّ الجنائزيّ، سفك الدموع إبان رحيله عن العالم إكرامًا لذكراه، ويذكر إلبينور احتمالية نزول الغضب الإلهي على عوليس، وذلك لأنَّ فريضته هي إحدى فرائض الطاعة والتعبُّد، وإلى حين تأديتها سيُنزلُ الكون عقابًا على الخطيئة الغيبيّّة.
تسري الفكرة ذاتها في مسرحيَّة «سوفوكليس» الإبداعيَّة «أنتيجون»، التي تناقش التناقض بين فروض الطاعة (الدينيَّة) والفروض السلطويَّة، إذ تستجيب أنتيجون للدعاء الذي يناديها أن تدفن أخاها، «بولينيسيس»، الذي حكم عليه عمُّها «سريون» ملك «ثيبيس»، بأن يرقد جثمانه دونما أن يوارى في التراب خارج أسوار المدينة. من وجهة نظر أنتيجون، واجبها في أن ترثي أخاها وأن تودِّعه إلى لحده لهُوَ واجبٌ حتميّ، وتتابع الوفاء بواجبها بصلابةٍ وتعنُّتٍ إلى حين وفاتها. لا يشير النصُّ المسرحيُّ أو حوارات أنتيجون إلى أنَّ أخاها سينال أيَّما منَّةٍ جرَّاء أفعالها أكثر من جنازةٍ شرعيَّة، لكن العهد الذي قطعته في إنزال الستارة على نهاية حياته هو عهدٌ حتميٌّ ويتحتَّم عليها الوفاء به. هو عهدٌ في ذمَّتها، وسيبقى عالمها مهشَّمًا إلى حين أن تؤدِّي المهمَّة. والنقطة المفصلية التي يستعرضها سوفوكليس على الجمهور، هو الدَين الذي في ذمَّة أنتيجون لأخيها الميِّت، وإن هي ما اضطلعت الوفاء بفريضتها؛ فإنَّها هي من سيكابد العناء ساقطةً من المرتبة الجليلة لروحٍ طليقةٍ باسلة إلى بؤرةٍ من الوجود التافه الذليل، الذي يعتبر أنَّ أسمى فرائضه مجرَّد البقاء على قيد الحياة.
لقد غدت هكذا فرائض، في المجتمعات الحديثة، ضربًا من الفولكلور، إذ على الأرجح سنُعنى بما يدين به الفقيد لنا من ميراثٍ أكثر مما ندين به له من حزنٍ وتفجُّع، وبالطبع، ما زلنا نضطلع بشئون الجنازة؛ الجنازة التي تحمَّل هو نفقاتها، ونتحسَّر على رحيله كما يجب لنا أن نتحسّر، إلَّا أنه نادرًا ما نعمد إلى بناء صرحٍ ما، أو حتَّى أن ندفن المرتحل في ضريحٍ نتردَّد عليه في لاحقات الأيام، وتعكس عادتنا في إحراق الجثمان ومن ثم نثر الرماد اعتقاداتنا المتنصِّلة عن الاعتقاد الديني في القيمة التي يُُختَزَل فيها الإنسان في عيد موته، وهي: لا شيء!
إذ نختطف حفنةً من العدم ونشاهدها كيف تتلاشى مغادرةً أيادينا، التي غدت الآن خاويةً دونها، وفي قرارة أنفسنا ترقد الفكرة المواسية أنَّ كلَّ الديون قد وُفّيت برحيل الشخص عن وجه العالم. مراسم الحداد التي ترافق إحراق الجثمان هي أشبه بتمثيليَّةٍ بهلوانيَّة، وبما أنَّ الفريضة هي زورٌ مبهرَج، يغدو الإشباع المرافق لها نوعًا من الادّعاء الطقوسيّ، مناسبةٌ لاستعراض مشاعر هابطة؛ مشاعر الكيتش، ومع ذلك؛ فإنَّ في هذه الممارسة نوعٌ من الشفاء، بما أنَّها تلقي ضوءًا على حياة الفقيد الراحل وتعيد قولبتها بوصفها ضربًا من الزور والبهتان؛ حياته وحياتنا ومشاعرنا تجاهه أثناء حياته ما حملت أيَّ قيمةٍ صادقةٍ أكثر من المشاعر التي راودتنا عند نهايتها، لذا؛ فلنحوِّلها إلى معرضٍ مسرحيّ، ولنتجاوز الأمر!
عند التصرُّف بهذه الطريقة ننكر شيئًا ما بطبيعة الحال؛ ألا وهو أنَّ المقرَّبين منا، أولئك المقرّبون حقًّا، لا ينفضّون من حولنا كما تنفضّ بقاياهم ورمادهم. إذ يتناسلون في ذواتنا، وفقًا لرؤية فرويد، منتظرين ما بإمكاننا الجود به تكريمًا لذكراهم. وهذا هو أحد الأسباب التي تدفعنا، حتى في عصرٍ انتشرت فيه المحارق وسيلةً لتأبين الفقيد، ما زلنا نحفل بالشعائر المرافقة للحداد، مراسمٌ نحيي بها الراحل بوصفه فرضًا يقع على عاتقنا أجمعين، فرضًا يعلو بالفقيد إلى مرتبةٍ بديعة في المجتمع؛ بيتٌ من طمأنينةٍ وأمان لا رغبة له في مبارحته أبدًا. ومهما كانت المراسم مبهرجةً وبهلوانية، إلا أنها ضرورةٌ أخلاقية، ضرورةٌ بدونها سنغدو مسكونين ومُحاصَرين كما كان عوليس محاصَرًا بشبح ألبينور.
لكن الشعائر ليست بكافية، إذ ينبغي علينا أن نعلن الحداد. وهذه هي الجزئية الشائكة، إذ تُحتِّم علينا أن نبني ضريحًا للفقيد في تربتنا النفسية، ضريحًا نزوره مستذكرين كلّ ما فقدناه ونتمرّن على إحياء روابط متأصّلة في أمورٍ غير قابلةٍ للتغيير. وتتطلّب منا أن نعقد السلام مع الفقد والخسارة، دامغينها على جبهة مستقبلنا، ليغدو كلّ ما كنّاه وكلّ ما سنصبحه جزءًا من كمٍّ واحد. فمن خلال الحزن نضّطلع بمسؤولية خساراتنا، ونعترف بها على أنها تخصّنا وحدنا؛ دينٌ يتحتّم علينا الوفاء به. وخلاف ذلك، أي أن نرفض الحزن، يعني العيش في مستوى من الحياة الذليلة، منسلخين عن روابطنا وناكرين الماضي وما حفره فينا من هوية جديدة.
يشتمل الحزن، بالنسبة إلينا كما بالنسبة لأنتيجون، رفضًا للحساب والمساءلة، ونزولًا من وجودٍ شخصي إلى عالمٍ يفوح بشهية الدم. وكلّ ذلك مضمَّنٌ في شفقتنا على الحزانى وتضامننا مع محنتهم، الذين، كأنتيجون، ارتقوا إلى المستوى الروحي الأسمى:
«طوبى للحزانى، فإنهم يُعزَّون»، وذلك كما جاء على لسان السيد المسيح في عظته. إذ أن الحزانى يتركون عالم البشر الذي يفوح بشهوة الدماء، صاعدين إلى مصافي الآلهة.
الخسارة قربان والإيمان بلسم لجراح القلب:
تتيح المعتقدات للناس إمكانية تكبّد الخسارات. ليس لأنها تزرع أملًا في لقاء الراحلين بالضرورة، بل بالأحرى لأنها تغلّفهم وتلفّهم بختمٍ مصون من الشعائر، كما تصطنع المحارة اللؤلؤة محاطةً بكومة من الرمل. وإن كانت المعتقدات الدينية توفّر نوعًا من العزاء أم لا، هو تفقّهٌ ستكشفه الحياة الآخرة. لكن ما هو مؤكَّد أنها تؤمّن لنا سبيلًا واضحًا للتعامل مع الفقد بوصفه شريعةً تعني المجتمع بأسره. وهكذا، فإن فقدان الإيمان بأيّة عقيدةٍ دينية، سيحمل معه خساراتٍ أثقل وأحزانًا أكبر.
الخسارة أمرٌ حتمي لا مفرّ منه ضمن سياق الشرط الإنساني، لكن تتباين المجتمعات في قدرتها على الإحاطة بمفهوم الخسارة وتقبّلها. إذ تحضّ بعض الثقافات على تحرير النفس من كلّ رابطة، وذلك لنسمو إلى مرتبةٍ من الغبطة تغدو عندها الخسارة أمرًا عاديًّا لأننا لا نملك شيئًا من الأساس. هذه العظة هي شكلٌ من أشكال الفنّ والفلسفة التي تجعل المعاناة الإنسانية أخفّ وطأة، وتترفّع عن الخسارات التي نُمنَّى بها في هذا العالم. لكن في تضادِّ مُبين، أسهبت الثقافة الغربية في مفهوم الخسارة جاعلةً منها الثيمة الجوهرية للفنّ والأدب. إذ زخرت لوحات القرون الوسطى ومنحوتاتها بمشهديات الحداد وشعائره. فالمسرحيات عامرةٌ بالمآسي والقصائد الغنائية اتّخذت من ضياع الحب وتلاشي الموضوع المحبوب ثيمةً رئيسة. لم تكن المسيحية هي ما أضفى هذا المنظور، إذ إن «إينيد» فيرجيل هو صياغةٌ واضحة لمرجاة «إينيس» وتطلعاته، التي رعتها الآلهة، إلى حين قضاء غايته التي حوّرت حياته في إيطاليا، رحلته هي رحلةٌ عابقةٌ بالخسارات. فخسارته لزوجته، أقصوصة «دايدو» المروّعة، موت «أنكيز»، زيارته لعالم الأموات، صراعه المدمر مع «تورونُس»، كلّها تنويعات على مقام الخسارة، تنويعاتٌ تثبت لنا أن أعظم مرامينا لا تقودنا إلّا إلى فجائع أعظم. عالم «إينيس» هو عالمٌ ديني من شعائر ومذاهب، من مطارح مقدّسة وأوقات حرُم. هذا وقد نزل قضاء الآلهة على «إينيس»، فطُرد من رحمتهم أحيانًا، وأحيانًا ناصروه مؤيدين، لكنه دائمًا ما كان مُساءلًا وعارفًا بوجودهم في عالم الاختبار. ولذلك كان قادرًا على مواجهة خساراته والإفادة منها بإبقائها على مبعدةٍ من المساس بتلابيب قلبه. إذ تتأتّى خسارته، ليس بمثابة نازلةٍ غامضة، وإنما بمثابة امتحانٍ وتجربةٍ وقضاءٍ قدريّ. يصارع أقداره وينتصر عليها. وكلّ خسارةٍ تشدّ من أزر طوّيته دونما مساسٍ لنياط روحه.
يعكس هذا الموقف من مفهوم الخسارة روح الثقافة الغربية الاستنطاقية النقدية. فالاستجابة في الثقافات الغربية لموضوعة الخسارة ليست في استئصال النفس ونفيها من الدنيا، وإنما في احتمال الخسارة والتفجّع عليها ومن ثم تجاوزها، وذلك بالنظر إليها بوصفها ألمًا مقدّسًا. هذا الموقف في صميمه هو موقفٌ ديني، إذ يقدّرنا الإيمان على تكبّد الخسارات، ليس لأن الدين يعد بنوعٍ من التعويض عن هكذا خسارات، بل لأنه يراها من زاوية عين الإله. وبالنظر إلى الأمر من هذه الزاوية، تبدو الخسارة أضحيةً لا بلاءً عقيمًا. فبالنظر إلى الخسارة على أنها تضحية، تعلو إلى مرتبةٍ أسمى من ذاتها، وبذلك تتبع نمطًا شرحه الفيلسوف «رينيه جيرارد» في نظريته الجريئة، والتي درس فيها الأصول الضارية لقدرة الإنسان على تمييز ما هو مقدّس. وأعتقدُ أن هكذا يقدر من فقدوا أبناءهم على تقبّل خسارةٍ بهذا الحجم، وذلك باستشفافهم من هذه الخسارة أمثولةً عليا تأخذ أبناءهم إلى حيّزٍ وجودي آخر. فولده الفقيد كان قربانًا، وهو الآن ملاكٌ يومئ إليه من العالم الآخر، مباركًا حياته التي لا تزال تجري في العالم المادي.
في حضارتنا، الدين هو القوة التي مكّنتنا من تكبّد عناء الخسارات ومواجهتها بوصفها تجارب تخصّنا وحدنا. وتلاشي الوازع الديني/ الإيماني يجعل من الخسارات أثقل وأصعب، وعليه يفرّ الناس من مواجهتها بتخفيفها وتحويلها إلى تنميقٍ أجوف أو بطرد كلّ ما يشير إلى أنّها أمرٌ حتميّ. فيلجأ أبناء العصر الحديث إلى سلوان المخدرات، المُتع الآنية، تسليع الممارسة الجنسية، وذلك لتفادي كلٍّ من الحب والحزن، والوصول إلى نقطةٍ يغدو عندها التجاوز والنسيان لا طائل منهما لأنه ما عاد ثمّة ما ننساه. يكون تجاوز فقدان الحب ممكنًا في حالٍ واحدة؛ وهي إن تعلّمنا كيف نحبّ. ولذلك، في عالمٍ هجره الإيمان، نرى انبعاثًا لوباءٍ أشبه بتحجّرٍ للروح، اعتقادٌ يعمّ الأرجاء بعدمية المآسي والأحزان والفجائع، إذ لا من أمرٍ يستحقّ عناء التفجّع على خسارته. لا من محبّةٍ أو بهجة في هذا العالم، إنما سعيٌ نحو المتعة. فخسارة الوازع الإيماني، إذًا، هي الخسارة الأعظم.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نترك المسألة تنتهي بهكذا رسالة تشاؤمية، إذ أمّنت لنا الحضارة الغربية ملجأً آخر، حيث يمكن لخساراتنا أن تغدو مقبولةً ومفهومة؛ وهو الفن. فقد تموضعت سمات الحضارة الغربية، التي جعلت من الخسارة طابعًا رئيسًا لتجربة الوجود، حول المأساة بوصفها صميمًا للمنتج الأدبي. فأعظم الأعمال الفنية هي تأمّل في مفهوم الخسارة بجميع أشكالها؛ خسارة النعيم، خسارة الإله بحد ذاته.
ما تثبته هذه الأعمال الفنية بصورةٍ مبتكرة هو أن الناس المبارَكين هم الأكثر قدرةً على امتلاك بصيرةٍ واضحة بماهية الوجود المقدَّس، وذلك بواسطة تكويناتٍ دينية بدائية. لربّما هذا ما عناه «نيتشه»، عندما كتب قبيل تردّيه في لجّة الجنون: «نجترح الفن، لكي لا يسحقنا الواقع». وقد يرى العلم أيضًا حقيقة وجودنا، إلا أنه ليس إلا جانبًا وحيدًا من جوانبه. أما ما تبقّى من حقيقة الوجود؛ الوجود الأخلاقي وقدسية التكوينة الإنسانية وفقره المعتكف للقداسة، فينبغي استرجاعه بسبلٍ أخرى. وأعتقد، من هنا تتأتّى أهمية شعراء كراينر ماريا ريلكه وتِ. إس. إيليوت. إذ تزخر أشعارهم بمرانٍ روحي يمكّننا من إنقاذ المفاهيم القديمة للقداسة والطهارة من حالتها الذابلة بجعلها مطواعةً ونابضة؛ نياطٌ حقيقي لقلب طويتنا. وعليه، حتى في عصرٍ انتفى منه الإيمان، يمكننا إعادة اكتشاف مفهوم القداسة بصورةٍ متنصّلةٍ عن الإيمان، وبلوغ:
«حالٍ من البساطة السابغة
بساطةٌ قدرها لا يقلّ عن كلّ شيئ
وبعدها، كلّ أمرٍ سيغدو حسنًا
كلّ صيغ الأمور ستغدو صالحة
عندما تُطوى ألسنة النيران
في أنشوطة اللهب المتوّجة
وتغدو حينها النار والورة كلًّا واحدًا»
يرنّ في الأبيات الآنفة صدى من مصادر مسيحية، عودةٌ استئناسية إلى اختباراتٍ لا تتطلب بالضرورة إيمانًا عميقًا، بل مخيّلةً خصبة، وذلك لكي نهتدي إلى جدواها المعنوي. إذ تستعرض حالة روحٍ انقطعت عن الحزن، ليس لأنها فرّت هاربةً من الحزن والتفجّع، بل لأنها أتممت عهود التفجّع، وبزغت طليقةً وحرّة لتقدّم الحب من جديد.
مراثي العصر الحديث ونعمة الغفران:
لقد حقّ القول، أن إبان بداءة الحرب العالمية الأولى، كنّا قد عشنا في ثقافةٍ رثائية القوام. إذ أن المرثية هي سبيلٌ للرضى بحقيقة فقدان أمرٍ عزيز. وتتهلّل المرثية بفكرة أنّ الموضوع العزيز كان أعطيةً عن طيب خاطر. وإن كانت مرثيةً شجيّة، فإن شجنها من النوع الرضيّ. فخطاب المرثية قوامه: لقد مُنحنا هذه الهبة، والآن ضاعت الهبة. لكن ينبغي أن نكون شاكرين أن أُعطيناها، ولنحاول أن نعقد السلم مع ذكراها.
في إنكلترا، خبيرون نحن بالفن الرثائي. إذ عرّتنا الحرب العالمية الأولى من نظامنا الاجتماعي، وأسلوب الحياة الرعوي والمطامح النبيلة للذات الإنكليزية، وهجرتنا على حين غرّة، وبعنف، في أحضان العالم الحديث. ومعظم فننا الحديث وموسيقانا هو استجداءٌ لما فقدناه وحُرِمنا منه. فأعمالٌ مثل الأبيات المقتبسة أعلاه من رباعيات تِ. إس. إليوت، لوحات «الأخوين ناش» و«ستانلي سبينسر»، كونشيرتو «إلغار» على آلة التشيللو، السيمونية الخامسة ل «فوغان ويليامس». تلتمس هذه الأعمال أصولنا الرعوية المفتقَدة بتحسّرٍ حنونٍ وشجيّ. وتقدّم لنا شجنًا طيّعًا، والذي بدوره نوعٌ من أنواع التشجيع والدفع. إذ تنادي: ها قد بقي من ماضينا بضعة مآثر، ذكرياتٌ نحنّ إليها، عتادٌ نعيد صياغته وسبكه، في محاولةٍ جديدة للعيش على نحوٍ ملائم. فمن خلال التفجّع على ما فقدناه، نستعيده بهيئةٍ أخرى متبدّلة؛ هذا ما تخبرنا به المرثية!
المراثي هي محاولاتٌ في المسالَمة والانعتاق من الخطيئة؛ أي صَنعةٌ حزينة كما عناها فرويد. والحداد، وفق التعريف الذي منحته إيّاه، هو حلُّ سلمي يُعطى فيه الميت حقّه في مفارقة الحياة. ولذلك، فكلّ الشعائر الجنائزية وكلّ المراثي ترمي إلى إضاءة فضائل الفقيد وحسانته وتحجيم مثالبه وعثراته. لكن ماذا لو لم نقدر على اجتراح الأعذار للفقيد؟ وماذا لو كانت خطايه من الرسوخ بمكان حيث لا ينفع معها أي غفران؟ حينها يغدو الحداد على روحه مهمّةً مستعصية.
كان ذلك ما شعره الألمانيون بعيد الحرب العالمية الثانية. ألمانيا التي عرفناها فنًّا وأدبًا وموسيقى، ألمانيا الكاتدرائيات القوطية، والمدن التي تفوح برائحة كعكة الزنجبيل، ألمانيا غوته وشيللر وكانط وهيجل، ألمانيا التي أنجبت أعظم شعراء الحقبة الرومانسية وأعظم المؤلفين الموسيقيين. ألمانيا تلك، كانت قد سُمِّم ذكرها لاقترانها بشخص «إدولف هتلر». لكان من السهل التعامل مع سنوات حكم هتلر لألمانيا لو أنها فُرِضت بتأثير قوى خارجية لمخلوقاتٍ فضائية هدفها طمس ذكر هذه الحضارة العظيمة، كما أباد المغول حضارة بغداد، وكما يبيد الصينيون اليوم حضارة التيبيت.
لكن الحال ما كانت كذلك، إذ نصّب النازيون أنفسهم ورثَةً شرعيين للأمّة الألمانية. وهتلر ما كان مجرد رجلٍ معتوهٍ وسواسي، فقد كان ذوّاقةً ومثقّفًا. وكستالين، شدّد في كل خطاباته على تاريخ الأمة وإنجازاتها، وتذرّع بما أنتجه الشعب الألماني من فنٍّ وأدبٍ وفلسفة ذرائع لقضيته ومواضيع لتفاخره وزهوّه. وتبعه الألمانيون على طريق غزواته مشاركينه انتصاراته، ولاحقًا هزائمه الماحقة. مدنهم، أعظم المدن الأوروبية، اختُصِرت إلى حفنة ركام، أما المدنيون فوقعوا بين مطرقة القنابل وسندان الجيش السوفييتي، وما بينهما من محارق وعذابات. لقد دُمِّر وطنهم عن بكرة أبيه، وكان من المتعذّر كليًّا الحزن على دمارٍ بهذا الحجم. وقد درس هذه الحالة، بصورةٍ تأملية، كلٌّ من المحللين النفسيين «مارغريت نيلسون» و «أليكساندر ميتشرليش» في كتابهما المنشور عام 1967 «العجز عن الرثاء». فالألمانيون لا يقدرون على رثاء موتاهم وفي الوقت ذاته تقبّل ما اجترحه هؤلاء الموتى من أهوال. وحتى تضحيات أبطال الجيش الألماني على الجبهة الروسية ما كان من الممكن أخذها على أنها فضيلةٌ من نوعٍ خاص. فالكلّ مذنبٌ ومسؤول، ليس عن دمار وطنهم فحسب، وإنما عن كلّ الجرائم التي ارتكبها النازيون بحقّ الأمّة والإنسانية جمعاء. وقد أصرّ العالم على أن يتحمّل الألمان ثقل خطاياهم، أي حرمهم من حقّهم في رثاء ما خسروه. وبقي موتاهم دونما أن يوارَوا الثرى على سطيحة وعيهم الجمعي، كبولينيس المسجّى خارج أسوار ثيبيس!
ويوضّح ما تلى تلك الحقبة من تاريخ، ما الذي قد يحدث إن نحن ما استطعنا أن نرثي ما فقدناه. فالألمان، الذين ما استطاعوا دفن جثث موتاهم التي طافت في بحيرة وعيهم النفسي وعبّرت عن نفسها في ثقافتهم، في إحساسهم المتعاظم بتأنيب الضمير والذنب الذي لا يُغتفر. إذ لا يقدرون على مواجهة ماضيهم ولا على إشاحة وجههم عنه وتجاهله. وعليه، لمّا يتقنوا «صنعة الحزن». ولذلك يعاني الألمان شكلًا من أشكال الشلل الحضاري، من الميلانخوليا الجمعية، من البطء الحزين. وكلّ ذلك يُرى بوضوح في ألمانيا العصر الحديث. سياستهم فيما يخصّ اللاجئين، البروباغندا ضد من يحاول إعادة إعمار برلين على الصورة التي كانت عليها قبل عهد هتلر، التوجهات الفنية العدمية، الوفاء الأصولي للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك افتقار الساحة الفنية والثقافية لأي عملٍ رثائي يعود إلى حقبة الحرب العالمية. لقد اختبأت ألمانيا وتوارت عن الأنظار، لكن يمكنها إعادة خلق ذاتها مجددًا تحت شرطٍ واحد؛ عليها أن تتعلم كيف ترثي ماضيها. لكنها حُرِمت نعمة الحزن، وعليها أن تنام على مُصابها دونما غفران.
وما قرار «آنجيلا ميركل»، وفئةٌ لا يستهان بها من الشعب الألماني، فتح الحدود أمام أفواج اللاجئين، إلا تنويعٌ على مقام شعور الشعب الألماني العميق بتأنيب الضمير. عارفين الاحتمالية الضئيلة لانخراط هؤلاء اللاجئين بالثقافة الألمانية أو تحقيقهم لنمط الحياة الديموقراطي والمنفتح الذي طمح الألمانيون في يومٍ من الأيام إلى تحقيقه. وهذه الكلفة العالية، على كلّ الأصعدة، مردّها الشعور بالذنب. ومهما كانت دوافع هكذا قرارات نبيلة، إلا أنها لن تمنح الأمّة ما تحتاجه؛ وهو أحقية الأمّة الألمانية بمكانها في المجتمع الدولي. وإلى حين يمتلك الشعب حرفة الحزن، ستبقى ألمانيا المُطهرة من ذنبها ضربًا من الأحلام، وستبقى ذنوبها غير المغسولة ماثلةً للعيان.