في ضيافة الملك المجنون
قصر نيويشفانشتاين Neuschwanstein القصر الذي استوحت منه ديزني شعارها سابقا.
السفر تجربة ذاتية بكل المقاييس، كثيرة هي التقارير السياحية التي تحاول تنميط تجربة السفر وحصرها في إطار ضيق، كأن يقال لا يكتمل السفر إلا بخوض مغامرة رياضية، أو من يحدد ماهية السفر باستكشاف مكان جديد، أو من يتشدق بحتمية زيارة المتاحف أو المعالم الأثرية وإلا فإن سياحته لا تعدو عن كونها إهداراً للوقت والمال! ويتجاهلون أن للبشر غايات ومقاصد من سفرهم تختلف حسب تكوينهم الشخصي، والظروف المحيطة بهم، وفلسفتهم في الحياة، فهناك من يقتنص السعادة وهو مسترخٍ أمام مشهد طبيعي، وآخر من لا تكتمل متعته إلا بتذوق أصناف جديدة من الطعام، بل إنه على أتم الاستعداد ليشد الرحال لمئات الكيلومترات بحثا عنها، وهناك من يستهويه ضجيج المدن، ومشاركة الحشود في الكرنفالات الشعبية، وآخر يجد راحته في توثيق رحلته بالصوت والصورة، فلا تعرف كاميرته الهدوء مطلقاً.
فهل يمكن أن ننكر على أي منهم غايته في السفر؟
منذ الطفولة تشبّعت مُخيلتي كأبناء جيلي بقصص المكتبة الخضراء، لا أُخفيكم سرا أنني كنت أتوجس أيّ حركة في حديقة المنزل علني أقابل قزما ما، وأدعو الله مخلصة أن أضيع في المتنزه القريب من بيتنا علني أهتدي إلى قصر الأميرة الحسناء، تأملت السماء جيداً وخاب أملي حين لم ألمح أية ساحرة بأنفٍ معكوفٍ أو غير معكوف تطير بمقشّتها في الفضاء.
لا وجود للأكواخ ذات المداخن الآجرية في مدينتي، لا وجود للقلاع القروسطية، ولا التنانين ولا الغيلان، أدركت ذلك باكرا، وبعد عقود من الزمن تحقق الحلم في زيارة قصر ملك الحكايات والأساطير.
إلى الجنوب من مدينة ميونيخ في ألمانيا، في طريق تحفُّه الغابات من كل جانب وتعانقه قمم جبال الألب الشاهقة، يتناهى إلى أذنيك صوت هدير الماء الصاخب من ذلك النهر، أو يصادفك انسياب شلال من قمة جبل لم تذب بعد كل الثلوج عن رأسه.
محطتنا الأولى بدأت بزيارة بلدة غارمش ـ بارتنكيرشن
كيف أصف لكم الأمر؟ هل جربتم يوما شعور أليس في بلاد العجائب حين ترى عالماً مختلفاً كلياً عما عهدته؟
هكذا كان الأمر في بارتنكيرشن التاريخية، بيوت مزينة جدرانها برسومات تعكس نمط الحياة البافاري، ألوان زاهية، لوحات جدارية وشرفات مغطاة بأصيص الزهور الملونة، أينما تلتفت تجد لمسة فنية تمنح كل منزل طابعه الخاص به، هذه الحديقة المنزلية مثلا تزينها تماثيل الأقزام، بينما تجد تماثيل الضفادع تزين منزلا آخر.
مما دفعني للتساؤل: لماذا باتت مساكننا علبًا اسمنتية وظيفية تقتصر على إيواء أجسادنا المنهكة بينما الروح فينا متعطشة للمسة جمال تنقذنا من صخب الحياة؟
بعد أن تجولنا بالبلدة التي اكتظت بالسياح العرب، قادتنا خطواتنا إلى خانق Partnachklamm.
تسحرك الخوانق بمفاجآتها التي تختبئ بين جنباتها، تلك الممرات المائية التي تقع بين جبلين، وتنتهي بشلالات أحيانا، لم يسبق لي أبدا رؤية شيء مماثل! بعد أن عبرنا المدخل المزدان بتماثيل اثني عشر قديسا، مشينا على امتداد ٧٠٢ مترا ورذاذُ مياه الشلالات تبلل أجسادنا. عبرنا أنفاقا رطبة معتمة منحوتة بالصخر، تتصدرها أيقونة للسيدة العذراء.
كنا نقف في الكثير من الأحيان نلتقط صورا لمياه النهر الفيروزية التي تشق طريقها بين تجاويف الصخور، ونراهن كل مرة بأن هذه اللقطة لا مثيل لها لنجد أنفسنا أمام مشهد أجمل.
لم تُتَح لنا فرصة الصعود إلى إحدى عربات التلفريك السبعة عشر الموزعة في البلدة، ولا صعود أعلى قمة جبلية في ألمانيا Zugspitze التي تشرف على البلدة. واكتفينا بمشاهدة الملعب الأولمبي الذي احتضن فعاليات ألعاب الدورة الشتوية في عام ١٩٣٦، يبدو أن جمال غارمش لم يجذب السياح فقط بل العسكريين أيضا، فالبلدة تحتضن مركز جورج مارشال الأوروبي للدراسات الأمنية، وقد كان تابعا مسبقا لدول الاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية.
غادرنا غارمش لزيارة بلدة هوهينشفانغاو Hohenschwangau
أتذكرون قصر الأميرة النائمة في أفلام ديزني؟ ذلك القصر الذي بقي شعارا لها حتى ٢٠٠٦، فقد كان مستوحى في تصميمه من قصر نيويشفانشتاين.
على إحدى هضاب البلدة يتربع قصر ملك الحكايات” قصر نيويشفانشتاين” الذي يقع على التلة المقابلة للقصر الأصفر”هوهينشفغاوا” الذي شهد طفولة لودفيغ الثاني.
أو كما يحب البعض تسميته بالملك المجنون، هكذا يلقب الملك البافاري لودفيغ الثاني الذي ولد في عام ١٨٤٥ ومات في ظروف غامضة غرقا في بحيرة شتارنبرغ في عام ١٨٨٦.
لم تشغل السياسة وشؤون الحكم اهتمام الملك لودفيغ الثاني المتيم بقصص الفرسان والملاحم الجرمانية والأساطير والموسيقى، فقد كان مولعا ببناء القصور التي تحاكي في هندستها القلاع والقصور القروسطية كقلعة فارتبورغ في تورينغن التي تنتمي إلى ما يسمى بالمدرسة المعمارية “التاريخية”.
هناك حنين غريب عند البشر لكل ما هو قديم، حنين يجعلهم يتغاضون عن كل البشاعة التي قد يحملها القديم بين طياته، فالقصور والقلاع في القرون الوسطى لم تكن أبدا عمائر رومانسية، بل في كثير من الأحيان كانت ملطخة بالدماء التي سالت في حروب لا طائل منها، دفاعا عن حكم إقطاعي! تلك القلاع العامرة بغرف التعذيب وأدواته الوحشية، وسجون في قعر بئر خاوية لا يخرج السجين من غياهبها إلا جثة هامدة، لكن كل ما نذكره الآن عنها هو قصص الفرسان والبطولة والأبراج التي تحتجز فيها أميرة حسناء، تتدلى ضفائرها من نافذة برجها لأميرها الوسيم.
في فيلم “LUDWIG II” من إخراج بيتر سير وماري نويل، حاول المخرجان أن يظهرا نفاذ بصيرة الملك لودفيغ الثاني، وأن على المرء أن يتشبث بأحلامه، فقد اتهم الملك المولع ببناء القصور والموسيقى بتبذير أموال الدولة لتحقيق أحلامه، فيما الحروب تحيط بمملكته من كل جانب، وهذا ما جرّ عليه سخط السياسيين واتهامه بالجنون، ثم عزله عن الحكم لاحقا، فقد لجأ إلى تعويض خسارة سيادته على مملكته بتشييد القصور الخاصة به.
يبدو أن علاقة العسكريين وقادة الحروب مع الفنون لم تكن دوما على وفاق، فلغة الحرب لا تعترف إلا بالقوة والخشونة، فلا مكان فيها لميوعة الفن والموسيقى كما يدّعون.
كلما شاهدت قصرا أو قلعة أو كاتدرائية أتساءل: هل يمكن لهذه المباني العظيمة أن توجد لولا بعض الاستبداد والظلم؟
من أين جاءت تلك الأموال الطائلة التي موّلت بناء هذه العجائب، ألم تكن على حساب الفقراء والفلاحين من ضرائبهم لسادتهم النبلاء والإقطاعيين؟ يبدو أن للظلم وجها آخر قد أنجب جمال هذه التحف المعمارية وأن لطيش الملك المجنون جانبا مشرقا.
تذكرني هذه التساؤلات بالفلسفة الطاوية الصينية، ودائرة الين واليانغ التي تعبر عن أن كل شيء يحوي طاقتين متعاكستين، مثل الخير والشر، والليل والنهار، لكن وجود كل منهما مشروط بوجود الاخر.
أليس ذاك الهوس ببناء القصور هو الذي جعل القصر في عصرنا يشكل مردودا ماليا مجزيا لخزينة الدولة الألمانية ولأهالي المنطقة، فهو يجذب أكثر من مليون ونصف زائر سنويا؟!
أليس غريبا هذا التماهي بين الخير والشر؟!
بدأت ألحان أوبرا لوهينغرين للموسيقار ريتشارد فاغنر، الصديق المقرب للملك لودفيغ الثاني، تندفع إلى ذاكرتي وأنا أتأمل القصر الذي سميّ نسبة إلى فارس البجع، لوهينغرين، إحدى شخصيات أوبرا فاغنر.
يحمل اسم قصر نيويشفانشتاين معنى “حجر البجع الجديد“، وقد استلهمت الكثير من تصاميم غرفه من أعمال فاغنر الفنية.
في رسالة كتبها الملك لودفيغ الثاني إلى صديقه فاغنر يحدثه فيها عن حلمه الرومنسي قائلا:
أردت أن يكون هذا الطراز الحقيقي لقلعة فارس، إنه أجمل مكان يمكن العثور عليه مقدس ومنيع، إنه معبد لصديق مقدس.
ولأن الحرية تعيش على الخيال وخيالات الملوك لا تعرف المستحيل، فقد كلف الملك لودفيغ الثاني المهندس كريستيان يانك وضع مخططات قصر نيويشفانشتاين، لا يهم المدة الزمنية التي قد يستغرقها بناء هذا القصر ولا المبالغ التي قد يحتاجها، المهم أن يصبح الحلم حقيقة، وهذا ما كان فبعد سبعة عشر سنة اكتمل بناء القصر بطوابقه الأربعة لكن القدر لم يمهل الملك التمتع بقصره سوى ١٧٢ يوما قبل موته المريب.
بدأنا نرتقي التلة التي يتجاوز ارتفاعها ٣٠٠ م، وغابات البندق وأشجار الصنوبر تحيط بنا، هناك من فضل ركوب العربات التي تجرها الخيول، لكن الرائحة التي تخلفها من بعدها جعلت هذا الخيار مستبعدا بالنسبة لي.
قطعنا تذكرة الدخول واصطففنا في طابور طويل من السياح.
تدهشك صور القصر في الصيف محاطا بخضرة الغابات، وتبهرك الحلة المخملية التي تحيط به خريفا، أما في الشتاء فتجلله الثلوج ببياضها الناصع.
كيف يمكن رؤيته دون أن نستحضر عشرات القصص الخرافية التي قرأناها. من سيقنعني الآن أن زمن الفروسية قد انتهى؟
كنت أتساءل وأنا أشاهد المكان الذي اختاره الملك لقصره” أيعقل أن يعيش أحد بمثل هذه الطبيعة الخلابة دون أن يصبح شاعرا أو فيلسوفا أو مترعا بالخيال؟”
في غمرة تأملاتي بدأت السماء تلقي علينا بسيل منهمر، احتمينا من المطر بالوقوف تحت إحدى شرفات القصر إلى أن يأتي دورنا للدخول.
لأوروبا جو متقلب يباغتك المطر فجأة في شهر حزيران، وقد تسقط الثلوج في بدايته فوق القمم الألبية الشاهقة كما حدث حين زرنا انترلاكن في سويسرا.
وقد تباغتك شمس محرقة تقارب حرارتها الأربعين في فيينا، بينما تجد الأمطار سيولا في هالشتات على بعد أقل من ٣٠٠ كم من فيينا!
كمن يسافر عبر آلة الزمن كانت زيارتنا تلك لغرف القصر تنقلك كل غرفة منه إلى عصر ماض.
لقاعة العرش بأعمدتها المطلية باللون الأزرق الملوكي المفضل عند ملك الحكايات رهبة دور العبادة وسكينتها، فقد استوحي تصميم القاعة من كنيسة ميونيخ، أينما تلتفت كنت أرى أعين القديسين الذين ازدانت برسوماتهم جدران القاعة تحدق بي، لكن يبدو أن جميع القديسين لم يكفلوا للملك دوام حكمه أو حتى يشهدوا جلوسه على العرش الذي خلت القاعة منه، بل لم يشهدوا تواجد عرشه أبدا وبقيت قاعة العرش بدون عرش إلى يومنا هذا.
لم يكن من المسموح لنا التقاط الصور، فكل الوصف سيكون قاصرا في التعبير عن جمال الأرضية التي تعد تحفة فنية من الفسيفساء ضمت مليوني قطعة!
توقفت قليلا عند إحدى النوافذ المطلة على الجسر الذي يعلو الشلال المقابل للقصر، قطرات المطر تطرق زجاج النافذة بعنف، هدير الشلال يختلط بصوت الرعد، لا شيء يعيق جموع السياح الذين توافدوا لالتقاط الصور التذكارية، والقصر كحسناء تتيه في خيلائها تبتسم لوميض كاميراتهم.
أكملنا جولتنا لندخل غرفة نوم الملك، هل ينام الملوك على أسرّة مثلنا؟ لا أقصد إن كانوا ينامون هانئي البال خلوا من تأنيب الضمير، لا نريد تعكير صفو جولتنا بحديث السياسة فكل ما قصدته، هل كانت أسّرتهم تشبه ما نعرفه؟ لكن لودفيغ الثاني لم يكن ليرضى بأن يكون سريره مجرد سرير.
واو! ارتفعت أصوات السياح حين سمعوا المرشد السياحي يحدثنا عن سرير الملك الذي استغرق بناؤه وحده أربع سنوات وعمل على زخرفته أربعة عشر نجارا. بينما غطيت جدران غرفة نومه برسومات تمثل مأساة حب “تريستان وأوزولده”، لا أدري مدى صحة ما تردد حول أمنية هتلر بأن يقضي ولو ليلة واحدة على ذاك السرير كل ما نحن متأكدون منه هو أن هتلر قد رسم لوحة لهذا القصر الجميل وقد عرضت في مزاد ألماني، لنعذره، فلم يكن لديه متسع من الوقت، فقد كان عليه أن يخطط لهجماته العسكرية في مقره الجبلي البرغهوف، فالخطط الدموية تحتاج إلى التفكير بها في بيئة خلابة!
هل يكتفي الملك بهذه الأبهة؟
لا، فقد أمر ببناء كهف اصطناعي وشلال يضاء بالأنوار. مع أن القصر يطل على شلال طبيعي!
كيف تكتمل زيارة القصر دون أن نرى غرفة المغنيين؟
لطالما ارتبط الفن بالترف، أجمل الأعمال الفنية والمنحوتات كانت تحت رعاية بلاط الملوك دوما، من أمثال أسرة مديتشي راعية الفنون في عصر النهضة.
كذلك هو الحال في علاقة لودفيغ الثاني بالموسيقى، وخاصة مع صديقه الموسيقار ريتشارد فاغنر، فقد تناثرت مشاهد أوبرتي لوهينغرين والبارسفيال على جدران قاعة المغنيين المرصعة بالأخشاب والأحجار الثمينة.
كثيرة هي الأساطير التي تروى حول القصر ومالكه، فقد قيل إن لودفيغ الثاني قد استهلك أموال الخزينة الألمانية في بنائه، وهذا ما لم يثبت صحته تاريخيا، فقد أنفق عليه من ماله الخاص.
هذا الولع ببناء القصور الذي جرّ على صاحبه الويلات، قد كان سببا في إنقاذ كنوز ألمانيا، فقد كان القصر مستودعا لحفظ أموال الخزينة الألمانية وكنوزها في الحرب العالمية الثانية، لحمايتها من قصف الحلفاء.
انتهت الجولة في مطبخ القصر ولم نزر بطبيعة الحال جميع غرفه٣٦٠، فأربعة عشر غرفة هي ما قد تم تزيينها، فيما بقيت الأخرى خالية من أي أثاث أو زينة.
ماذا عن باقي قصور الملك المجنون؟ وما صحة ما تردد حول الركن الموريسكي في قصر ليندرهوف؟ وهل حقا ما قيل عن أنه مسجد كما يحلو للبعض وصفه؟ سيكون لنا وقفة مع قصر آخر في ضيافة الملك المجنون لودفيغ الثاني لاحقا.