سائق التاكسي الذي لا يسكن مدينتنا

“سائق التاكسي” Taxi Driver أحد أيقونات السينما، سواء على مستوى الكتابة أو الإخراج أو الأداء الاستثنائي للنجم “روبيرت دي نيرو” في دور “ترافيس بيكل”.

هو نبيّ.. هو انتهازيّ
حقيقي أحيانًا.. وإلى حدٍ ما خيال

بهذه الكلمات من أغنية لـ”كريس كريستوفرسون” وصفت “بيتسي” سائق التاكسي “ترافيس بيكل” في لقائهما الأول، سائق التاكسي الذي يقتحم فراغ شاشة السينما في المشاهد الأولى للفيلم بسيارته الصفراء المكللة بدخان أبيض، ويظهر بعدها بعينيين حمراوين من أثر سهاد لا يرحم، جندي المارينز السابق، حامل وسام الشرف العسكري لحربٍ خاسرة في فيتنام، يجوب شوارع مدينته بحثًا عن تسليةٍ لا يجدها لا في شوارع نيويورك الصاخبة ولا في حاناتها ولا حتى في مسارحها التي تعرض أفلام البورنو.

كيف بدأت قصة سائق التاكسي:

ذكر كاتب السيناريو “بول شريدار” في مقابلة تليفزيونية مع “توم شنايدر” في برنامجه Tomorrow show في عام 1981 أنه قد اقتبس سيناريو فيلم Taxi Driver من حياته الشخصية في بداية السبعينات، حينما انهار زواجه وهجرته الفتاة التي يحبها فهام على وجهه في شوارع نيويورك، يعيش في سيارته غارقًا في الكحول، مدمنًا لمشاهدة الأفلام الإباحية في مسارحها.

الزمن: السبعينيات أو ما اصطلح على تسميته بالعصر الذهبي للبورنو، يفكر مرارًا في الانتحار، يصاب بقرحة في المعدة ويتم نقله إلى إحدى المستشفيات، يكتشف بعد حديثه مع الممرضة أنه لم يتحدث مع إنسانٍ منذ أسبوعين، وهنا يأتيه الإلهام. سائق التاكسي الذي يجوب الشوارع في سيارته/كفنه المعدني، لا ينام، لا يتحدث مع أحد، يعيش في عزلة ووحدة. وهكذا أنجز شرايدار السناريو في وقت قصير، ليخرج الفيلم للنور في العام 1976، من إخراج مارتن سكورسيزي، وبطولة روبيرت دي نيرو وجودي فوستر وهيرفي كايتل وسيبيل شيفارد، رُشح الفيلم لأربع جوائز أوسكار -لم يفز بأيٍ منها-، كما فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي.

ترافيس بيكل: نبيّ الوحدة

لا مفر.. أنا أكثر رجال الله وحدةً

الوحدة شبح ذلك الشاب القادم من حرب ضروس في غابات فيتنام، ليواجه حربًا أخرى في شوارع مدينة لا ترحم، مدينة تفوح منها رائحة العفن والفساد، تلعن حرها صيفًا ولا تطيق صقيعها شتاءً، مدينة أقيمت على جزر منعزلة تربطها جسور لكن أهلها متفرقين، يعيشون فيها من كل جنسٍ ولون. ترافيس يكره العنصرية لكنه يمارسها دون قصد حين يصف زبائنه بالحثالة، أو حين يطلق النار على الفتى الزنجي سارق محل البقالة بدمٍ بارد، ثم يسأل بعدها البائع الإيطالي عن سعر حاجياته البسيطة التى اشتراها.

إعلان

مدينة ظاهرها النظافة وناطحات السحاب والجسور المعلقة، باطنها الفساد والعهر والعفن، وترافيس يأكله اكتئابه في صمت، يعيش نهارًا في شقته الأشبه بصندوق قمامة، ويجوب ليلًا أحياء المدينة وحيدًا في كفنه المعدني، زبائنه عاهرات وقوادون وساسة، وزوج تخونه زوجته فينتظرها في التاكسي وهو يشاهد طيفها الشبق تعكسه الأضواء على الشباك.

تلك المدينة/العاهرة التي صورها سكورسيزي غارقةً في أحمرها/الرغبة، بينما تصدح في الخلفية موسيقى خفيفة مراوغة بأنغام “ساكسفون” يداعب أذهاننا، و”هارب” يوترنا حينًا، و”ترومبيت” نسمعه حين يطل علينا وجه ترافيس بيكل الذي بدا في أول الفيلم بريئًا قبل أن تقتله وحدته.

عودة ترافيس من حربه الخاسرة في فيتنام ربما كانت السبب في إصابته بمرضه النفسي الواضح تمامًا، الذي يبدو أنه اضطراب ما بعد الصدمة، بدا ذلك واضحًا جدًا مما يعانيه من أرقٍ مزمنٍ وضياعٍ بادٍ في ملامحه، وظهر ذلك أكثر فيما يكتبه من رسائل لوالديه أو ما يكتبه في ما يمكن اعتباره مذاكراته الشخصية.

“Someday a real rain will come and wash all this scum off the streets”

هو وحيد أغلب وقته، صوّره سكورسيزي في أكثر كادرات الفيلم وحيدًا أو مع آخرين في أقصى الكادر، والسؤال الذي يبرز في ذهني كلما شاهدت فيلم Taxi Driver: هل كان حقًا “تشارلز بالانتاين” سياسيًا فاسدًا؟

أم كانت تلك رؤية ترافيس أن الساسة هم بالضرورة فاسدون؟ أم كان ذلك مجرد حل ابتكره ترافيس لاستعادة تجربته المؤلمة في الحرب باختراع عدو وهمي لابد من مجابهته وإعداد أسلحته والتدريب على قتالٍ محتمل؟

يشتري مسدسات ويحضّر نفسه بدنيًا من خلال تمرينات بدنية قاسية، يقص شعره على طريقة “الموهوك”، يرتدي سترته الكاكي، يحرق الورد الذي لم تتسلمه “بيتسي” أبدًا ثم يذهب لحربه، ليواجه عدو، سياسي فاسد يحاول أن يستمد شرعيته باقتباس شعار رنان –نحن الشعب– أو حتى اقتباس أبيات شعر لـ”والت ويتمان”، يرسم ترافيس علامة الصليب بخنجره على الرصاصة التي سيطلقها على “بالانتاين” وكأنه ذاهب لحربه المقدسة.

لكن ماذا يحدث حين يفشل في اغتيال المرشح الرئاسي؟ ببساطة يبحث عن عدوٍ آخر فيه سمات فساد مدينته العاهرة بشوارعها القذرة، القواد الذي يستغل فتاة صغيرة في أعمال الدعارة بمساعدة رجل مافيا يضطر لرشوته من الحين للآخر بالنقود أو وبجسد الطفلة “إيزي” تارة أخرى.

سائق التاكسي ترافيس بيكل: نبي التناقضات

“He is a walking contradiction”

لنعد لرؤية “بيتسي” له، هو بالفعل الشيء وضده، أو كما تقول الأغنية: هو سائر في تناقضاته.

يرى بيتسي ملاكًا ترتدي الأبيض، وحين يدعوها للسينما يجعلها تشاهد فيلم إباحي، يريد تطهير المدينة من العفن وهو غارق في شرب الكحول ويذهب لمسارح البورنو، وهو يحيا حياة راهبٍ لا يقرب الجنس.

ذات مرة قال أحد أصدقاء “سكورسيزي” -مخرج فيلم Taxi Driver – أنه في شبابه كان مغرمًا برواية “الإغواء الأخير للمسيح” لـ”نيكوس كازانتزاكس”، والتي أخرجها فيما بعد في فيلم يحمل نفس الاسم، المخرج النيويوركي المغرم بالتطهير وانتظار المخلِّص من كل ذاك العفن، لكن أي نبيٍ يسعى لتطهير المدينة ويقرر ذلك وهو يشاهد فيلم بورنو! ببساطة هو ترافيس بيكل “نبي اللاشيء”.

الذي يقدم قربان الخلاص للإله بارتكابه المذبحة التطهيرية الأخيرة ضد قوادي الفتاة الصغيرة لإنقاذها من كل ذلك العهر، وقد قام سكورسيزي بتصوير المشهد باستخدام زاوية كاميرا علوية (عين الإله) ليبدو ذلك العنف/الخلاص الذي مارسه ترافيس قبل أن يحاول بعدها الانتحار على طريقة الهاراكيري، لكن ينقذه نفاد رصاصاته، وتبدو لنا الفوضى النهائية من زاوية الرب الغاضب على كل هذا العنف والعهر والفساد.

“ورأى الرب ذلك غير حسنْ”

خاتمة

أما عن النهاية Taxi Driver فكانت أكثر إرباكًا، ذلك القاتل الذي مجّدته الصحافة وصنعت منه بطلاً، خطابات الشكر من والد الفتاة، ليبدو لنا أن ترافيس قد نجا من العقاب، أم هل كانت تلك الرؤى محض خيالٍ في رأس ترافيس؟!

ينهي سكورسيزي Taxi Driver وبطله يجوب شوارع المدينة مرةً أخرى في التاكسي/الكفن، بعينيه المرهقتين من السهاد، يغضبه أحمر المدينة وإضاءاتها المستفزة، وفي الخلفية يصدح صوت الساكسفون وحيدًا.

قد يعجبك أيضًا: فورست جامب: السّاذجُ الّذي ربح الرّهان!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أبومازن

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا