“بحسب ما أتذكر” لا يزال Goodfellas أعظم أفلام العصابات على الإطلاق

عند وصوله إلى مهرجان البندقية السينمائي، شعر مارتن سكورسيزي بغصة في حلقه وألم حاد في بطنه. كان ذلك في العام 1988، قبل عامين من صدور فيلمه “Goodfellas“. لكن حين حطَت طائرته الخاصة في مطار ماركو بولو، كان رجال العصابات في بروكلين آخر ما قد يخطر في باله.

كان سكورسيزي في فينيس؛ لكشف النقاب عن فيلمه الجريء، والذي يعيد رواية قصة العهد الجديد، الإغواء الأخير للمسيح. وسط مخاوف من مواجهة شرسة مع المسيحيين المتشددين، كان من المخطط أن يكون هناك طوق أمني من 100 شرطي من فرق الخيالة حول قصر السينما في فينيسيا مساء العرض.

بدا ذلك حكيمًا بكل ما للكلمة من معنى. فقبل العرض الأول بعدة ساعات، نظم رئيس أساقفة معزول مسيرةً احتجاجيّة في ساحة القديس مرقص (ساينت مارك) متبوعةً بصليبٍ خشبي كُتب عليه: “فيلم سكورسيزي تجديفي“.

كانت أعصاب المخرج متوترة، بينما كان يمشي في بهو فندقه في الجهة المقابلة للبالازو. ازدادت حدة هذه التوترات عندما قفز شاب صغير من الظل مادًا يده، نزلت مجموعة من حراس الأمن على الرجل الذي تعرّف عليه سكورسيزي على أنه ممثل صاعد في فيلمه القادم.

قال سكورسيزي لمجلة “جي كيو” في 2010: “رأيت راي ليوتا في “شيء جامح” لجوناثان ديمي، وأعجبت به حقًا”. “تحلّق حولي الكثير من حراس الأمن”. “اقترب راي مني في بهو الفندق فاتجه الحراس نحوه، قام برد فعل مثير للاهتمام حينها، فقد ثبت في مكانه لكنّه جعلهم يفهمون أنه لا يشكل تهديدًا. أعجبني تصرفه في تلك اللحظة.”

إعلان

كان فيلم سكورسيزي التالي بالطبع هو Goodfellas. آتت جرأة راي ليوتا ثمارها؛ فقد تجاوز المخرج منتجيه المترددين، ووضع ممثلًا غير مشهورٍ، يبلغ أربعة وثلاثين عامًا في البطولة، بينما يحتفل Goodfellas بعامه الثلاثين في التاسع عشر من سبتمبر. سينظر الممثل -الذي كان في البندقية من أجل فيلمه الايندي “دومينيك وأوجيني”- إلى الخلف نحو ذلك اللقاء مع سكورسيزي ويمتنّ للوضوح الذي تحلى به.

لا تخفى على أحد حقيقة أنّ “Goodfellas” هو تحفة فنيّة؛ فلن ينجح أحد في أداء دور الموجهين للوافد الجديد إلى عصابة ليوتا، هنري هيل، كما فعل روبيرت دينيرو وجو بيشي (دينيرو كان قلقًا من كونه كبيرًا على دوره الذي كان قد عرض في البداية على جون مالكوفيتش). العنف صادم، والشتائم لا تنتهي، وGoodfellas سيسجّل رقمًا قياسيًا جديدًا في استخدام الـ F-word لثلاثمائة مرة، وسيتفوق عليه سكورسيزي نفسه مع تتمته الروحية لعام 1995 كازينو. مشاهدته قد تكون صاخبة كما أنه غالبا ما يكون مضحكًا.

Goodfellas

يمكن القول أن هذا هو السبب وراء تفوقه على “العرّاب” بجزئيه الأول والثاني، وفيلم سيرخيو ليون “once upon a time in America“. هذه ملاحم مهمة وقوية في أفلام العصابات قد وقعت في فخ عظمتها الدرامية، أما “Goodfellas” فعلى العكس من ذلك، هو صيحة وطفرة، فالعديد من أفضل مشاهده هي مشاهد كوميدية. إعلانات موريس (موري) كيسلر للشعر المستعار، واستياء أصدقاء هنري منه لانفصاله عن زوجته، والارتياب الذي تسببت به المخدرات لهيل في الثلث الأخير من الفيلم. عرف سكورسيزي أن أفضل وسيلة لجذب المشاهد نحو هذا العالم المظلم البشع، كانت النكات والحماقات العبثية.

أثبتت النكات تصميم سكورسيزي على عدم صنع مجرد فيلم عصابات آخر وحسب؛ فلم يحظ هذا النوع باهتمام بالغ من قبل المخرج خلال حياته المهنية. صحيح أنه استلهم فيلمه Mean streets عام 1973 من حياته القاسية في ليتل ايتالي في نيويورك، كما لامس الجانب المظلم من نيويورك في فيلم “Taxi driver” بعد 3 سنوات.

أحد الأسباب هو يقينه من أن سير الأمور بشكل مختلف قليلًا كان ليودي به إلى ما انتهى إليه هنري هيل. شخصية هنري مبنية على رجل عصابات حقيقي في بروكلين يحمل الاسم نفسه، وهو ينتمي إلى عصابة لاتشيز الأسرية (واحدة من العصابات الأسرية في نيويورك). دخل هيل إلى نظام حماية الشهود عام 1980 بعد أن أصبح عميلًا  لدى الـ FBI، ومع ذلك فقد طرد بعد ذلك بسبع سنوات إثر إدانته بتجارة المخدرات.

بصرف النظر عن الكوميديا، فقد خاض “Goodfellas” في كل أنواع المخاطرات، إذ نضع في الاعتبار استخدامه التعليق الصوتي لهنري، الأمر الذي يُنظر إليه في هوليوود على أنه ابتكار مبتذل. قبل مرور خمس دقائقٍ على بداية الفيلم، نرى تومي (بيشي)، وجيمي (دينيرو) يطعنان ويطلقان النار على رجل ملطخ بالدماء في صندوق سيارة، ثم يكبّر سكورسيزي الصورة على وجه هنري الذي يقبع في نصف إضاءة ويعتريه لون وهج أحمر شيطاني. ويأتي هنا واحد من أشهر المونولوجات في السينما، “بحسب ما أذكر، وعلى أبعد تقدير، لطالما أردت أن أكون رجل عصابات”.

Goodfellas

كتب سكورسيزي السيناريو مع نيكولاس بيليجي الذي سجّل صعود هنري هيل وسقوطه في كتابه الأكثر مبيعا “wise guy” في العام 1985،(والذي كان من المفترض أن يكون اسم الفيلم، ولكن أُشير إلى أن مسلسلًا  تلفزيونيًا آخرًا في الثمانينات كان يحمل الاسم نفسه). هذه التجربة كانت الأولى بالنسبة إلى بيلجي، فقد كان مذهولًا بالحدة التي استطاع بها سكورسيزي كتابة المشاهد، وبهوس المخرج بالزخم.

يعتقد سكورسيزي قبل كل شيء أن الفيلم بحاجة إلى التفكيك على طوله، فالقطعة الافتتاحية على سبيل المثال، كان من المفترض أن تظهر في منتصف الفيلم، فتأتي بعد الهجوم على حانة شخصية فرانك فنسنت أي بيلي باتس الذي تسبب بالكثير من المتاعب إثر تذكيره تومي بماضيه كماسح أحذية في صغره. يقول بيلي: “الآن اذهب إلى منزلك واحصل على علبة التلميع اللعينة” فيبرحه تومي وهنري وجيمي ضربًا حتى يفقد وعيه، ثم يرمونه في صندوق السيارة حتى يتفاجأوا لاحقًا باكتشافه أنه ما زال حيًا يتنفس غارقًا في دمائه.

شيء ما بخصوص الإعداد والتسليم أزعج سكورسيزي؛ فقد أدرك في النهاية أن خط الفيلم كان مستقيمًا بشكل مبالغ فيه. كل شيء يحصل كما هو متوقع، لذا وضع موت باتس في البداية، وأقرنه بعبارة “لطالما أردت أن أكون رجل عصابات”. لقد صنعت هذه العبارة الافتتاحيّة مدويّة، كما أنها تتيح لك معرفة ما تخوض فيه.

قال بيلجي عام 2004 في الوثائقي “غوودفيلاز: ذا مايكنغ اوف آ كلاسيك“: “كثيرًا ما يستخدم التعليق الصوتي لترقيع شرخ ما في السيناريو، دون أن يفلح في ذلك. أحبَّ سكورسيزي الفكرة في أن يقود هؤلاء الشبان الثلاثة السيارة بوجود جثة في صندوقها كطريقة لبداية القصة”.

كان بيلجي مصدومًا أيضًا باستخدام سكورسيزي للارتجال. أحد الشروط التي وافق بموجبها جو بيشي على القيام بـ”Goodfellas” كان أن يتمكن من مشاركة بعض النوادر التي التقطها حول رجال العصابات في نيو جيرسي خلال فترة مراهقته. المثال الأشهر على ذلك هو مشهد “كيف تظنني مضحكًا؟”، الذي ينقلب فيه تومي على هنري بعد إشادة رجل العصابة الأصغر بحسّ الفكاهة الذي لدى زميله. قال ليوتا في عرض عام لفيلم غوودفيلاز بعد سنوات: كان جو يعمل في مطعم في برونكس أو بروكلين، وقال لأحد رجال العصابات: “أنت مضحك”، وبطريقةٍ ما، انقلب الرجل عليه”.

تمت كتابة هذا التبديل بسرية تامة بين سكورسيزي وبيشي وليوتا، وتأكد المخرج من ألّا يعرف أحدٌ من الممثلين الثانويين به. عند تدوير الكاميرات، استخدم لقطات متوسطة غير قريبة لالتقاط دهشتهم بشكل حقيقي.

أدهشت المقاربة بيلجي الذي صُدم أكثر بعد نيله لاحقًا الإشادة على “كتابة” مشهد بديل لم يكن له فيه أي دور. وقد تلقى درسًا جديدًا من قدرة سكورسيزي الاستثنائية على تحقيق أكبر استفادة من فريق عمله، وذلك عندما رأى كيف استغلّ المخرج غضب ليوتا بسبب اعتلال صحة والدته التي كانت تقترب من الموت بسبب السرطان أثناء تصوير الفيلم. كان ليوتا يحمل همومه معه إلى الموقع كلّ يوم.

هذه المشاعر تضخّمت في تسلسل الأحداث الذي يقوم فيه هنري بضرب جار حبيبته كارين (لورين براكو) بقبضة مسدسه بعد أن قلل من احترامها. يقول مارك ايفانس جايكوب الذي أدى دور الجار لـ “جي كيو”: كان راي يغلي من الغضب، بقي على بعد شارع مني، واحتفظ بكل ذلك لقطة بعد الأخرى. حاولنا إبقاء غضبه تحت السيطرة، لكن في إحدى اللقطات كان الأمر قريبًا جدًا وتلقيت الضربة.”

لم يكن سكورسيزي الشخص الأكثر ودًّا في موقع التصوير. يقول شهود عيان أنه يحظى ودينيرو بعلاقة عمل تآمرية، حيث كانا يقضيان وقتًا كبيرًا في إجراء المحادثات هامسين. حتى ليوتا الذي يعد بالاسم أحد النجوم، شعر وكأنه مستبعد، ولا يعني ذلك أن المخرج لم يكن مستمتعًا. لقطة التعقب الشهيرة التي بلغت مدتها ست دقائق التي تعقب دخول هنري وكارين إلى ملهى كوباكابانا الليلي، على سبيل المثال، كانت بالأساس محاولة خادعة لتجاوز براين دي بالما.

كان دي بالما قد حظي بالثناء على سلسلة مشاهد برافورا بالكاميرا الثابتة في فيلم the untouchables (1987)، وكغمزة هادئة لصديقه ومنافسه، استخدم سكورسيزي لقطة أطول من أجل مشهد كوباكابانا. تقول الممثلة اليانا دوغلاس (زوجة روزي) لـ”جي كيو”: كان براين دي بالما قد نفذ هذه اللقطة الطويلة والعظيمة بالكاميرا الثابتة في فيلم the untouchables، وقال مارتي: “إنّه من المسلّي لو حاولنا تصوير واحدة تتجاوزها بدقيقة كاملة”. يدرك العالم الأمر على الشكل التالي: “أوه مشهد كوباكابانا” لكن الحقيقة هي أن المخرجين خلف الستار يتبادلان المزاح.

قد يعجبك أيضًا

مع ذلك، يخدم مشهد كوباكابانا هدفًا أكثر جديّة؛ فالسياق يوضح مدى غواية كارين بأسلوب حياة هنري، أما عبقرية سكورسيزي فكانت في قدرته على أن يضعنا في مكان كارين، ويجبرنا بشكل أساسي على مشاركتها رهبتها. كتب المنتج ايروين وينكلر في كتاب مذكراته عام 2019 a life in movies: “وجد مارتي طريقة لجعل هنري هيل يبهر صديقته كارن، ليس ذلك فحسب، بل ليري الجمهور سبب جاذبية غوودفيلاز وبريقه أيضًا.”

في الوقت نفسه، فقد تم تعزيز أصالة الفيلم من خلال استخدام رجال عصابات حقيقيين كإضافات. أحد الممثلين بدأ بتمرير دولارات مزورة في موقع التصوير، وتمت إدانة آخر وهو المحقق في شرطة نيويورك لويس ايبوليتو بارتكاب 8 عمليات قتل جماعية.

أدرك المشاركون جميعًا أنهم كانوا يصنعون شيئًا مميزًا، باستثناء شركة الانتاج التي كانت تستشعر بعض الخطر والتردد. لم يتلق الجمهور التجريبي Goodfellas بشكل جيد، فقد بدا العنف هو المشكلة الكبرى. غادر العديد من المشاهدين في العرض المسبق أثناء المشهد الذي يطعن هنري فيه بيلي باتس سبع طعنات وهو ينزف في صندوق السيارة. وافق سكورسيزي على تقليصها إلى أربع “الثلاث الأخيرة تكون مسموعة غير مصورة”.

كتب وينكلر أيضًا: “من الصعب إلقاء اللوم عليهم بسبب قلقهم، نظرًا لرد فعل الجمهور. بعض الأفلام لا تحتاج سوى لوسائل الإعلام، والنقاد وبعض الأحاديث الشفوية؛ ليعلم الجمهور أنها أفلام مميزة. تلك كانت حال Goodfellas، وبالكاد غيرنا في النهاية شيئًا من العروض المسبقة المريعة”.

كما توقع وينكلر، كانت الاستجابة النقدية مبهجة، حيث أشادت صحيفة نيويورك تايمز، قائلةً: “يبدو فيلم Goodfellas كأنه يجب أن يكون أصيلًا تمامًا”. وكتب روجر ايبيرت في شيكاغو تريبيون: “لم يتم إنتاج أي فيلم عن الجريمة المنظمة يفوقه، ولا حتى العراب”. وكتبت التايم: “أسرع وأذكى رحلة تمتد على ساعتين ونصف في تاريخ الفيلم الحديث على الإطلاق”، مع التركيز على هوس سكورسيزي ببسط سلطانه.

تم ترشيح Goodfellas لستّ جوائز أوسكار، إلا أنه حصد جائزة فئة واحدة منها فقط. ألقى جو بيشي أثناء تسلمه جائزة “أفضل ممثل مساعد” أقصرَ خطاب قبول في تاريخ جوائز الأكاديمية قائلا: “هذا شرف لي، شكرًا لكم”، ثم رحل. في الحقيقة أن الشرف كان لنا جميعًا، لم يكن سكورسيزي قد أعاد اختراع أفلام العصابات  بفيلم مضحك وشجاع على حد سواء فحسب (ناهيك عن تمهيد الطريق لـ the sopranos)، بل أعطانا أيضًا أفضل فيلم في مسيرته، وعملًا كلاسيكيًا حديثًا حقيقيًا.

نرشح لك: حدث ذات مرة في هوليوود: التفاصيل وحدها لا تكفي!

إعلان

مصدر
فريق الإعداد

إعداد: أفراح مروة

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

ترجمة: أفراح مروّة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا