تاريخ موجز للصفر
متى وكيف نشأ الصفر؟
عندما كنتَ طفلاً صغيرًا، حتّى قبل أنْ تصطدم بمشكلتك الأولى في فصل الرياضيات، ربما كان عليك حلُّ مشكلة مثل هذه:
لديك أربع حلويات، وقمت بأكل أربعة منها. فكَم تبقى معك؟
هذا صحيح: الحزن. وأيضًا لا شيء، ولكن على الرغم من أنَّ الأطفال الصغار يمكن أن يفهموا مصطلح “لا شيء”، فإنَّ مفهوم “الصفر” هو في الواقع أكثر تقدمًا قليلاً.
هذه هي قصة اختراع الصفر، وكيف انتهى قدر كبير من لا شيء بتغيير العالم.
البداية: صنعُ شيء من لا شيء
يبدو أنه من المستحيل تقريبًا أنَّ الناس القُدامى لمْ يكن لديهم مفهوم “الصفر”. حتّى الحيوانات تستطيع أن تفهم مصطلح “العدم”- فقط دع الطبق فارغًا لقطتك إذا لم تصدّقنا-، لكن هناك فرق كبير بين “لا شيء” كالفراغ الملموس “والصفـر” كمفهوم رياضي.
قبل 400 سنه ق.م، ابتكر السومريّون أول نظامِ عدٍّ معروف. في البداية، كانوا يستخدمون مساحة فارغة للإشارة إلى قيمة “لا شيء”، ثم تطور الأمر في منطقة بابل -مرَّ المفهوم من السومريين إلى بابل عن طريق الحضارة الأكدية-، حيث بدأوا في استخدام زوج من الأوتاد مزدوجة الزوايا كعنصر نائب لمساحة فارغة. لكن إلى حدّ ما، يشير هذا الرمز إلى عدم وجود رقم، وليس رقمًا في حد ذاته.
وبعد 600 عام و12000 ميل من بابل، طوَّر شعب المايا صفرًا كعنصر نائب. واستخدمه للدلالة على الصفر في أنظمة التقويم الخاصة بهم. على الرغم من كونهم متخصصين في الرياضيات من ذوي المهارات العالية، إلّا أنَّ شعب المايا لم يستخدموا الصفـر في المعادلات. يصف روبرت كابلان -مؤلف كتاب “هذا هو اللاشيء: تاريخ الصفر الطبيعي”- اختراع المايا للصفر بأنَّه “المثال الأبرز على الصفـر الذي ابتُكر كليًا من الصفر.
الصفر الهندي
يمكن العثور على مواضع مشابهة لقيمة فارغة في أنظمة العدّ الأخرى، بما في ذلك أنظمة المايا والبابلييّن. لكن معظم العلماء يتفقون على أنَّ الصفر كمفهوم رياضي نشأ في الهند والبعض الآخر يرى أنَّه انحرف من المفهوم البابلي. ولكن يأتي أقرب استخدام للرمز الدائري الذي سيصبح الصفـر العالميّ من “مخطوطة باخشالي” 〈1〉: وثيقة التاجر تشرح المعادلات الرياضية لمختلف المعاملات التجارية. كما شملت عنصرًا نائبًا على شكل نقطة سوداء صغيرة.
يقول بيتر جوبيتس – مؤسس مشروع الصفر، وأمين مؤسسة 〈2〉”ZerOrigIndia”، والذي تتكون منظمته من أكاديميين وطلاب دراسات عليا مُكرّسة لدراسة تاريخ الصفر-:
“نحن نرى أنه في الهند القديمة توجد العديد من السوابق الثقافية التي تجعل من المعقول اختراع الصفـر الرياضي، “ويفترض مشروع الصفـر أن الصفر الرياضي (‘shunya’، باللغة السنسكريتية) ربما يكون قد نشأ من فلسفة الفراغ المعاصرة أو شونياتا – والتي تعني فارغ باللغة السنسكريتية”.
وفقًا لكتاب “The Crest of the Peacock؛ Non-European Roots of Matharies” للدكتور “جورج غيفرغيز جوزيف-George Gheverghese Joseph”، فقد ظهر مفهوم الصفر لأول مرة في الهند حوالي عام 458 ميلادي. ويقترح جوزيف أن الكلمة السنسكريتية”śūnya” تعني الصفر، وهي مشتقة من عقيدة بوذية قديمة تعنى “الفراغ”، أو “إفراغ” العقل من الانطباعات والأفكار.
وآخر مرحلة تمَّت عام 628م، حيث تم استخدام الرمز من قبل الباحث والعالم الرياضي الأسطوري “Brahmagupta- براهماجوبتا” 〈3〉، حيث كتب أقدم تفسير وصل لنا عن كيفية عمل الصفر بالضبط: “عندما يُضاف الصفر إلى رقم أو مطروح من رقم، يبقى الرقم بدون تغيير. الرقم مضروبًا في صفر يصبح صفرًا.”
كما أضاف أيضًا أنَّه عندما نقوم بطرح عدد موجب من الصفـر يعطيك عددًا سالبًا، وأنَّ طرح رقم سلبي من الصفر يعطيك عدد موجب. هذا هو أول حساب معروف لمعرفة كيفية عمل الصفر بالنسبة للأرقام الأخرى.
وهذا يعتبر أفضل تطبيق لمقوله:
“اترك الصفر(اللاشيء)، واحصل على كل شيء”.
“Ditch the zero, get with the hero.”
يقول جوبتس، أمين مؤسسة “ZerOrigIndia”
” إنَّ الصفر الهندي (أو العددي)، يُنظر إليه على نطاق واسع كأحد أعظم الابتكارات في تاريخ البشرية، فهو يعتبر حجر الزاوية في الرياضيات والفيزياء الحديثة، بالإضافة إلى التكنولوجيا المترتبة على ذلك.”
الوصول للعالمية
بعد أن تم اختراعُ الصفر في شبه القارة الهندية، لم تكن سوى مسألة وقت قبل أنْ تبدأ الثقافات الأخرى في إدراك أهميته. كانت الصين وشبه الجزيرة العربية في المقام الأول (على الرغم من أن بعض المؤرخين يعتقدون أنَّ الصفـر العربي كان سليلًا مباشرًا من السلائف الصفرية لسومريا وبابل)، وأصبح في نظام الأرقام العربية يأخذ شكلًا بيضاويًا فارغًا. وأطلق عليه علماء الرياضيات المسلمين اسم “sifr- صفر” (الملقب بـ “الشفرة-cipher”)
وفي نفس الوقت، اقترح عالم الرياضيات الفارسي، محمد بن موسى الخوارزمي، أنَّه ينبغي استخدام دائرة صغيرة في الحسابات إذا لم يظهر أيُّ رقم في مكان العشرات. ووصفها العرب بعد ذلك بـ “sifr” أو “صفر”. كان الصفر حاسمًا بالنسبة إلى الخوارزمي، فقد استخدموه لاختراع الجبر في القرن التاسع. كما طور الخوارزمي طرقًا سريعة لمضاعفة الأعداد وتقسيمها، والتي تُعرف باسم الخوارزميات- نسبة لاسمه.
وجد الصفر طريقه إلى أوروبا من خلال الفتح المغاربي لإسبانيا، وقام بتطويره عالم الرياضيات الإيطالي فيبوناتشي، الذي استخدمه للقيام بمعادلات دون عداد، والتي اصبحت أكثر الأدوات استخدامًا للحساب. كان هذا التطور شائعًا للغاية بين التجار، الذين استخدموا معادلات فيبوناتشي التي تنطوي على الصفر موازنةً لمعاملتهم.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن
فقد أصدر الزعماء الدينيين في العصور الوسطى في أوروبا قرارًا بحظر استخدام الصفر. لأنهم رأوا أنَّه شيطاني على حد تعبيرهم.
” كل شيء من صنع الله، وكل لا شيء (صفر) من صنع الشيطان.”
لكن العدد لم يتوقف عند ذلك القرار، وكان التجار يعرفون ذلك جيدًا. لذلك عندما قاموا بكتابة أصفار على دفاترهم، فعلوا ذلك سرًا – وكلمة “تشفير -cipher” أصبحت مرادفاً لـ “الرمز -code” في العمليات السرية.
بحلول عام 1600م، تم استخدام الصفر على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا. فقد كان ذلك أساسيًا في نظام الإحداثيات الديكارتية عند رينيه ديكارت وفي حساب التفاضل والتكامل، الذي طوره بشكل مستقل نيوتن وليبنيز. ومهدت طرق التفاضل والتكامل الطريق للفيزياء والهندسة وأجهزة الكمبيوتر والكثير من النظريات المالية والاقتصادية للظهور.
ويقول جوبتس:
“إنَّ مفهوم الفراغ أصبح الآن محوريًا في الفيزياء الحديثة: فالكون المعروف يُنظر إليه على أنه “لعبة صفرية” من قبل الآخرين، مثل ستيفن هوكينج “.
هوامش 〈1〉: مخطوطة بخشالي: يعود تاريخ المخطوطة إلى جواليور في الهند وتحديدًا القرن التاسع، واعتبر أقدم مثال مسجل على الصفر، وذلك وفقًا لجامعة أكسفورد، حيث تم استخدام مادة الكربون التي يرجع تاريخها لتتبع أصل الرقم إلى اللوح الهندي القديم الشهير. وأتضح أنَّ تاريخ النص يرجع إلى القرن الثالث أو الرابع، مما يجعله أقدم استخدام مسجل للرمز. 〈2〉: ZerOrigIndia: مؤسسة غير ربحية مقرها هولندا هدفها البحث عن أصول الصفر، وصاحبة مشروع الصفر. 〈3〉: براهماجوبتا- Brahmagupta: كتب عالم الرياضيات والباحث الفلكي الهندي العظيم براهماجوبتا في القرن السابع الميلادي بعض الأعمال الهامة في الرياضيات والفلك. كان من ولاية راجستان شمال غرب الهند، وأصبح فيما بعد رئيس المرصد الفلكي في الهند. تتكون معظم أعماله في شعر إهليلجي، وهو ممارسة شائعة في الرياضيات الهندية في ذلك الوقت. يبدو من المرجح أنَّ أعمال براهماجوبتا، وخاصة نصه الأكثر شهرة، "براهماسوتدهيدتا"، تم جلبها من قبل الخليفة العباسي المنصور في القرن الثامن إلى مركز التعلم الذي أُنشئ حديثًا في بغداد على ضفاف نهر دجلة، مما وفر رابطًا مهمًا بين الرياضيات الهندية وعلم الفلك، وقدم طفرة في العلوم والرياضيات في العالم الإسلامي