بين الماركسية واللينينيَّة: تَجَلِّيَات الانْحِرَاف

ما يراه أغلبية المناصرين للماركسية –فِكْرًا– أن الماركسية اللينينيَّة أُولَى منابع التطبيق والمُمارَسة العمليَّة للنَظَريَّة الماركسية، ولم يتم الاقْتِصَار على ذلك، بل أصبحت المَاركسيَّة اللينينيَّة إضافة نَظَرِيَّة لِمَا سبق، ما دامت اللينينيَّة أُضِيفَت إلى المَاركسيَّة وكأنها نَظَرِيَّة معزولة، لكن في هذا الملف، نقف وقفة تأمُّل حول الماركسية اللينينيَّة في مختلف تَجَلِّيَاتها لنرى هل حقًا أسَّس البلاشفة للمجتمع الاشتراكيّ فترة حكمهم للاتِّحاد السُّوفيتِّيّ -في شخص لينين-؟ 

بداية، لا بُدّ من التأكيد على أن الفِكْر المَاركسيّ ينطلق من الاقتصاد وينتهي به ما دام هو المُحدِّد والمُؤثِّر الأساسيّ في البنية الفوقيَّة (السياسيَّة، الحقوقيَّة، والآيديولوجيَّة)، وكونه أيضًا السبب وراء تغيُّر طبيعة الأنظمة السياسيَّة، لذلك سنؤخِّر الحديث عن السياسة الاقتصاديَّة للينين آخر الملف.

مَرجِعُنا في هذا الملف ثورة على الرؤوس في الماركسية والاشتراكيَّة واليسار” للمُفكِّر المغربيّ عبد الإله بلقزيز.

قبل أن نعرج إلى دراسة هذه السياسية، حَرِيٌّ بنا أن نقف عند بعض المفاهيم التي أسَّس لها ماركس.

حاول ماركس أن ينظر للمجتمعات البشريَّة وَفْق نظرة عِلميَّة دقيقة (الماديَة)، بعيدًا عن التصوُّرات الميتافيزيقيَّة، فأسَّس بذلك الماديَّة التاريحيَّة باعتبارها المقاربة المنهجيَّة المُعَالِجة لتاريخيَّة المجتمعات البشريَّة وتطورها. مفاد المقاربة: أن الظروف الماديَّة لطريقة الإنتاج في المجتمع، وعلاقات إنتاجه تُحدِّد بشكل ٍأساسيٍّ تنظيم المجتمع وتطوُّره.

إعلان

تنبّأ ماركس من خلال تحليله الماديّ للتاريخ، انهيار النظام الرأسماليّ، والانتقال نحو المجتمع الاشتراكيّ. الطبقة العاملة الأكثرُ اضْطِهَادًا على مستوى الإنتاج هي المُؤسِّسة لهذا الانتقال، معناه أن النظام الاشتراكيّ لن يؤسَّس إلا ضمن نظام رأسماليّ متطوُّر إنتاجيًّا، فكانت بذلك بريطانيا أنضج شروطًا في تشييد هذا المجتمع، لكن نحنُ أمام التاريخ وليس مُختبرًا عِلميًّا، والتاريخ يخضع للنسبيَّة والتغيُّر.

ينطلق كارل ماركس في تحليله لميكانيزمات نظام الإنتاج الرأسماليّ، إلى أن التناقض الواقع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج المُحدِّدُ لكسر القوى المُنتِجَة لإطار العلاقات الرأسمالية التي تحكمها، وتحقيق الثَّوْرة الاجتماعيَّة، مفاد ذلك أن الثَّوْرة الاشتراكيَّة وَفْق تحليل ماركس لن تتم إلا ضمن مجتمع رأسماليّ.

شرط لم يكُن حاضرًا في روسيا القيصريَّة التي كانت ترزخ بين شكلين من الأنظمة –نسبيَّا– رأسماليّ وإقطاعيّ. في هذا السياق يقول عبد الإله بلقزيز: “في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ما برحت –روسيا– تعيش أوضاع التأخُّر قياسًا بمثيلاتها في أوروبا (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا…)”.(1)

ضمن هذا المُنطلق أُسُّ من أساس الدَّوْلة الاشتراكيَّة تَمَّ تحريفه –لنقل تَمّ تغيير مساره قياسًا بالأوضاع الروسيَّة– ما يجعل الشَكّ في اشتراكيَّة الاتِّحاد السُّوفيتِّيّ محل جدل قائم.

لكن، قبل أن نعرض تجلِّيات ذلك، لا بدُ ّمن التأكيد على أن لينين كان مُرغمًا في انعراجه عن خط المَاركسيَّة، إذ –حسب بلقزيز– كان عليه أن يُطوِّع المنظومة الفِكْريَّة لماركس كي تُجيِب عن حاجات المجتمع الروسيّ وأوضاع طبقاته الكادحة، هو لم يستنسخ تعاليم ماركس لأنه كان وَفيًّا لمجتمعه وحاجاته.

نبدأ أولًا

  • اضْمِحلال الدَّوْلة سمة أساسيَّة عوَّل عليها ماركس كدورٍ تمهيديٍّ نحو بناء المجتمع الشيوعيّ الذي تنتفي فيه الدَّوْلة.

الدَّوْلة عنده ثمرة الصراع الطبقيّ، ليست بالبداهة جهازًا حياديًّا سياسيًّا مُنْصِفًا في تعاطيه مع طبقاتٍ مُتصارِعَة، الدَّوْلة عنده مُنْحازة. إن الطبقات الاجتماعيَّة تشكَّلت بعد زوال المجتمعات المشاعية، برزت بذلك حاجة ضرورية عند الطبقة السائدة كأداةٍ لحماية مصالحها الطبقيَّة للهَيْمَنة على وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج، وكانت هذه الأداة هي مؤسَّسة الدَّوْلة.

مع الاشتراكيَّة تُلغى المِلكيًّة الفرديَّة لوسائل الإنتاج، ويزول صراع الطبقات، وبذلك تزول معه الحاجة إلى الدَّوْلة، هكذا تصوَّر ماركس الاشتراكيَّة.

موقف لينين من ذلك يُلخِّصه بلقزيز قائلًا: “التمثُّل اللينيني لموضوعة ماركس حول سَيْطَرة المُنتجين المباشرة على وسائل الإنتاج –كسمةٍ رئيسيَّةٍ لمرحلة الانتقال الاشتراكيّ– ترجم نفسه، ماديًّا وسياسياًّ، في سَيْطرة الدَّوْلة على وسائل الإنتاج وعلى الاقتصاد، أي (ترجم نفسه) في دَوْلَنِة الاقتصاد وإخْضَاعه لسياسات التخطيط المركزيّ. هكذا أصبحت الاشتراكيَّةُ تعني سَيْطرة الدَّوْلة السُّوفيتِّيَّة على الإنتاج، وإدارة القطاع العام، بوصفه التمثيل الأمين للاقتصاد الاشتراكيّ. قامت الدَّوْلة، في هذا النموذج، مقام المنتجين؛ نابت عنهم في إدارة الإنتاج والسَّيْطرة عليه”.(2)

قد يعجبك أيضًا

حلمُ البناء الاشتراكيّ بدأ يَنْحرِف عن مساره منذُ تقلَّد لينين مفاتيح الحُكْم. لم تَعُد الاشتراكيَّة والشيوعيَّة على الأبواب، بَيْدَ أن زَيْغ لينين عن الطريق كان لهُ أسباب وعلل، أولها: اكتشافه بعد الثَّوْرة الحجم المتواضع لمُمثِّلي البلاشفة في السُّوفييتات –تنظيميًّا– إضافة إلى انتضامه تحت سقف الحاجة إلى الجواب عن حاجاتٍ تاريخيَّة في روسيا، بناء دولة قوية أنهكتها الحَرْب العالميَّة، إلا أنه ما يُؤخَذ على لينين نسبة موقفه إلى التصوُّر المَاركسيّ.

هذا من جانب. الجانب الآخر، يرتبط بديكتاتوريَّة البروليتاريا.

عَنَت هذه الأخيرة عند ماركس: السَّيْطرة على مصادر قوة الرأسمال، وكذا منع القوة البورجوازيَّة من التمثيل، كون مصالحها متعارضة مع مصالح المجموع الاجتماعيّ.

السَّيْطرة لا يمكن أن تتحقَّق إلا بإرادة الطبقة العاملة، بمعنى ثَوْرة العُمَّال أنفسهم عبر تتظيمهم في حزبٍ ثَوْريٍّ يهدف إلى التحرِّير الذَّاتيّ للطبقة العاملة وحيازة هذه الطبقة للسُّلْطة حيازة كاملة. إلا أنه مع لينين اتخذ مسارًا آخر، يُلخِّصه عبد الإله بلقزيز: “في المسألة الثانية (ديكتاتوريَّة البروليتاريا)، اختزل لينين الطبقة في حزبها (الشيوعيّ) وأحيانًا، اختزل الحزب في قيادته، وأتى ستالين –بعده– يختزل الحزب والقيادة في الأمين العام! عنى ماركس بديكتاتوريَّة البروليتاريا حيازة هذه الطبقة للسُّلْطة، وفرض مصالح الطبقات المُنْتِجَة والمجموع الاجتماعيّ، بينما عنت عند لينين أو في تأويله إياها، ديكتاتوريَّة الحزب الشيوعيّ، وحيازته الكاملة للسُّلْطة، وإلغاء مُعَارضيه”.(3)

 في المثالين السابقين دلائل وقرائن على أن اللينينيَّة زاغت إلى حدٍّ ما عن التصوُّر الماَركسيّ، بل بشكلٍ أدق، يمكن القول إنها تأويلٌ لها واجْتِهادٌ فرديّ تابع ستالين من بعده نفس الطريق لإخراج التروتسيكية من حومة الماركسية.

السياسة الاقْتِصَاديَّة الجديدة *La NEP: رأسماليَّة الاتِّحاد الُّسوفيتِّيّ

قلنا سلفًا إن المجتمع الروسيّ قبل الثَّوْرة وبعدها عَرَف شكلين اقتصاديين: (الإقْطَاع، والرأسماليَّة نسبيًّا).

يذهب بلقزيز إلى أن: لينين تجاهل، مُتعمِّدًا، النهايات المنطقيَّة لتحليل ماركس (لتناقضات النظام الرأسماليّ)، إلا أنه جَهِد في سدِّ الثُّغر النَّظريَّة التي تخترق موقفه السياسيّ، مُحَاوِلًا الإيحاء بأنه لم يتصرَّف في فِكْر مارس، بل ظل وفيًّا لمُنْطلَقات هذا الأخير، هكذا، مثلًا، كتب حول تطوُّر الرأسماليَّة في روسيا ليُقنِع غيره بأن البلد الذي يعمل فيه البلاشفة صار بلدًا رأسماليًّا تنطبق عليه أحكام نظريَّة ماركس، بل ذهب –أبعد من ذلك– إلى بيان كيف أنها انتقلت من الطور الصناعيّ ورأسماليَّة المنافسة الحُرَّة إلى طور الرأسماليَّة الاحتكاريَّة، وباتت جزءًا من المنظومة الإمبرياليَّة. كان ذلك فصلًا من فصول تبرير ثَوْرة اشتراكيَّة قادمة في روسيا”.(4)

غير أنه بعد الثَّوْرة، تنصَّل لينين لكل ما قاله من قبل، وأدرك حاجة روسيا إلى المرور بمرحلةٍ رأسماليَّة، وهو ما أشار إليه لينين نفسه: “ففي نظر لينين، لم يكن في وسع الثَّوْرة الاشتراكيَّة أن تنتصر بصورةٍ نهائيَّة في بلدٍ مثل روسيا –يشكِّل فيه عُمَّال الصناعة أقلية، ويُشكِّل فيه المزارعون الصغار أغلبية– إلا بشرطين: الأوَّل، أن تدعِّمها، في الوقت المناسب، ثَوْرة اشتراكيَّة في بلدٍ أو في عِدَّة بُلْدَان أوروبيَّة متقدِّمة. والثاني، أن يتحقَّق التفاهم بين البروليتاريا، التي تمتلك زمام السُّلْطة السياسيَّة، وبين غالبية السُّكَّان من الفلاحين”.(5) فكان أن أطلق مشروعه “السياسة الاقتصاديَّة الجديدة La NEP” باسم “الحزب الشيوعيّ“.

بدايةً، لا بُدّ من النظر إلى السياقات التي فُرِضَت على البلاشفة –في شخص لينين– أن يتبع هذه السياسة.

عام 1921 تحرَّرت روسيا بشكلٍ كاملٍ من القوات الأجنبيَّة، وانتهاء الحَرْب الأهليَّة التي أودت بحياة أزيد من مليوني شخصٍ. حروب أنهكت روسيا اقتصاديًّا، ما طرح على السُّلْطة السُّوفيتِّيَّة ضرورة إعادة بناء اقتصادها في وضعٍ عَرَف افتقادًا للموارد الأوَّليَّة، وقيام أكثر من مائتي مصنعٍ بإغلاق أبوابه وتسريح العُمَّال، وانتشار المجاعة على نطاقٍ واسع.

إن توجُّه لينين نحو “النيب” كان هدفه بداية تخفيف القيود المفروضة على الفلاحين، وبذلك تقرَّر بدل مصادرة المنتجات الغذائيَّة فرضُ اقتطاع جزء من فوائض الفلاحين، ليتحوَّل من بعدُ إلى ضريبةٍ نقديَّةٍ سنة 1924.

من زاوية الصناعة، كانت أغلب قطاعاتها الحيويَّة في أيدي الدَّوْلة، لكن، حسب ماهر الشريف في مقالٍ له: “فقد تقرَّر، في إطار هذه السياسة الاقتصاديَّة الجديدة، تمكين رأس المال الفردي الخاص من الاستثمار في التجارة الداخليَّة، وتبادل المنتجات الصناعيَّة في مُقابِل المنتجات الزراعيَّة، بحيث أصبحت التجارة هي الشكل الأساسيّ للعَلاقات الاقتصاديَّة بين المدينة والريف وبين قطاع الدَّوْلة والقطاع الخاص. كما أُعيدَت المصانع الصغيرة والمؤسَّسات الحِرَفيَّة التي يقل عدد عُمّالها عن عشرة عمَّالٍ، وجرى تأميمها في ظل نظام “شيوعيَّة الحَرْب” إلى مالكيها، الذين صار في وسعهم بيع منتجاتهم بحُرِّيَّةٍ في الأسواق”.(6)

في ظل هذه السياسة تَمّ تشجيع *الرَسامِيل Capital الأجنبيَّة، والاعتراف الضمني بحقوق المِلكيَّة الشَّخصيَّة.

 سياسة “النيب Nep” سياسة يمكن القولُ إنها تركيبة بين الرأسماليَّة والاشتراكيَّة، تقوم على اقتصادٍ مشتركٍ تتعايش فيه التركيبتين معًا. وإن كان لينين يرى في هذه السياسة تكتيكًا لتطوير القوى المُنتِجَة، إلا أنه يعد تراجعًا للسياسة الاشتراكيَّة التي نادى بها وانْبَنَت عليها الثَّوْرة، وهو ما أقرَّه بلقزيز قائلًا: “هو مشروع مبناه على تركيبة اقتصاديَّة رأسماليَّة يقودها حزب شيوعيّ… وما من شَكٍّ اليوم في أن تلك السياسة الاقتصاديَّة الجديدة، أتت تُشكِّل، في حينه، الحجر الأساس لنموذج رأسماليَّة الدَّوْلة في الاتِّحاد السُّوفيتِّيّ”.(7)

ليس الهدف مُحَاكمة فترة حُكْم لينين الاتِّحاد السُّوفيتِّيّ اقتصاديًّا، لأن هذه السياسة ساهمت في تحسين الأوضاع داخل الاتِّحاد: من تحسينٍ للأوضاع في الأرياف، وتحقيق تقدُّم في مستويات الإنتاج الصناعيّ. لكن ما يُنْكَر على لينين نسب هذه الفترة، كونها مُمَارسة عمليَّة للماركسية. ما من شَكٍّ أنها إذا كانت تنتمي للينينيَّة -قطعًا- فهي على أوجه أكثر قطعًا لا تنتمي لفِكْر ماركس.

هوامش:

  • 1- عبد الإله بلقزيز: ثورة على الرؤوس في الماركسية والاشتراكية واليسار، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع.
  • 2- المرجع نفسه.
  • 3- المرجع نفسه.

*LA NEP : Nouvelle politique économique هي سياسة اقتصادية جديدة وضعها لينين عام 1921 لمحاولة حل المشكلات التي تسببت فيها الشيوعية، كمشكلة قلة الإنتاج.

  • 4- عبد الإله بلقزيز: المرجع السابق.
  • 5- لينين، تقريرعن النشاط السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي (البلشفي) في روسيا”، المختارات في 10 مجلدات، المجلد 10، موسكو، دار التقدم، 1977.
  • 6- ماهر الشريف: مقال؛ السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب): استراحة محارب – الذكرى المئوية لثورة أكتوبر، مجلة الحوار المتمدن، العدد 5457، 11/3/2017.
  • *- الرساميل: CAPITAL: مصطلح اقتصادي يقصد به الأموال والمواد والأدوات اللازمة لإنشاء نشاط اقتصادي أو تجاري.
  • 7- عبد الإله بلقزيز: المرجع السابق.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عدنان زقوري

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا