مُعضِلة النمو السكاني في مصر.. حقيقة أم سراب؟

يبدو للوهلة الأولى ومن دون أيَّة مقدِّمات؛ أنَّ التزايد السكاني أو بالأحرى -اقتصاديًّا- النمو السكاني ، أمرٌ غيرُ مرغوبٍ فيه لدى الكثير من الدُّول، ولدى العديد من مُفكِّري ومُنظِّري علم الاقتصاد أمرٌ مُسلَّم به ولا يجب الخوض في غِماره أو الاقتراب نحوه؛ إذ يرى هذا الفريق أنَّ النمو السكاني المضطرد وغيرَ المتَّزِن ما هو إلّا مصدر تهديدٍ للنُّموِّ الاقتصاديِّ، وآفةً مُضرَّةً لحالة استقرار الماليّة العامّة، ناهيك عن دورِه في خفض جودة البيئة، وعدم الاعتداد بحالة الأمن والرَّفاهِ البشري.

لعلّ هذا يرتكنُ على الرؤيةِ المالتوسيَّةِ التي مفادها: “أنَّ معدَّلَ نموِّ السكان يتبع متواليةً هندسيَّةً في الوقت الذي تزيد فيه الموارد بمتواليةٍ حسابيّة”؛ مما يعني مزيدًا من السُّكان، وبالتّالي مزيدًا من هدر الموارد. وارتباطًا بنظريَّة “الأجر الحديدي”، فإنَّ المدرسة الكلاسيكية قد رأت مُجسّدة في هذه الرؤية؛ أنَّ ارتفاعَ الأجورِ سيؤدِّي إلى زيادة عرض العمل في الأجل الطَّويل، مما يُخفِّضُ -مرَّةً أخرى- الأجورَ لتعودَ إلى مستوى الكَفاف؛ لكنَّ (ماركس) قد رفضَ هذا المنطقَ المالتوسيَّ، ورأى أنَّ فيه تشهيرٌ بالجنسِ البشري، وأشار إلى أنَّ العمَّال ليسوا من الحماقةِ؛ حيث أنَّهم يميلون إلى زيادةِ نسلهم عَقِب زيادة الأُجور.

وبالعودةِ إلى استكمال مسار المثالب الخاصّة بالنُّموِّ السُّكاني، تبدو قضية الضَّغط على المواردِ، وفقدان ما تُحققه التنميةُ من خطواتٍ، ما هو إلا الآفةَ الكبرى التي يُنظَرُ للنموِّ السكانيِّ من خلالِها، إضافةً إلى ذلك ما يؤول إليه الأمرُ من ضغوطٍ على أوجُهِ الإنفاقِ المختلفة، خاصة الإنفاق الإستثماري في القطاعات الإنتاجيَّة.

وفي المُقابل، يرى فريقٌ آخر أنَّ النمو السكاني يمكن أنْ يُمارِسَ دورًا إيجابيًّا على مستوياتٍ عدَّة: اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّة، شريطةَ أنْ يُحْسِنَ استخدامَ هذا النُّمو، وأنْ يُدارَ بطريقةٍ تتَّسِمُ بالتوازن والإستقرار المدعوم برؤيةٍ تنفيذيَّةٍ تسبقها خطواتٌ بل أميالٌ من التنميَّةِ ترتكزُ عليها وتُصَحِّحُ مسارها وتُعظِّمُ أوجُهَ الاستفادةِ منها أكبر ما يمكن، مُستشهدين في ذلك بما تُحقِّقُه الصين، صاحبة أكبر تعدادًا سكانيًّا على مستوى العالم، والتِّنين التنموي الذي خرق كل قواعد التنمية، وعلى وشك الوصول إلى قيادة العالم، إذا ما استمر على ما هو عليه الآن.

وهنا باتتِ العلاقةُ بين السُّكانِ والتنميةِ من الموضوعاتِ الهامّةِ التي تمحوَرَ حـولها كثيرٌ من الجدلِ والبحثِ واهتمامِ المعنيينَ بالتنميةِ ومستوياتِها، وزاد هذا الاهتمام بزيادة انعكاساتهِ على التنمية المستدامة لا سيما في القرنِ العشرينِ وحتّى الآن. ويمكنُ اعتبار السكان أحد العوامل المحفِّزة لإحداث معدلاتِ تنميةٍ مرتفعة، إذا ما أُحسن استخدامهم، من خلال ارتفاعِ مستوى المعرفةِ باستخدام الوسائلِ التكنولوجيةِ المختلفةِ؛ ممّا يعملُ على زيادةِ الطلب على إنتاج السلع والخدمات، وإذا لم يُحسنْ استخدام المكوِّن السُّكاني سيصبح عـامـــلًا ذا تأثيرٍ سلبيٍّ في التنمية، ويكون عقبةً أمام نموِّ الدَّخلِ القوميّ، ويُؤدِّي إلى استنزافِ الموارد.

إعلان

وفي مصر، تُرى القضيَّةُ السكانيَّةُ من قِبَل الحكوماتِ المتعاقبةِ على أنَّها عِبءٌ ومصدرُ تهديدٍ دائمٍ وجب التصدي له، بل والأدعى من ذلك هو الخلل القائم بين ما يتم طرحه من حلولٍ وما يتم تنفيذه على أرض الواقع، حيث البيئة غير الخصبة وغير المواتية، والتي تعجُّ بمستوياتٍ تعليميَّةٍ وثقافيَّةٍ لا تتلائم مع الطرح الذي يقضي بتنظيمِ النسلِ وتحديدِه وهذا القبيل من المصطلحات، ناهيك عن وجودِ خللٍ بل بالأحرى معضلةٍ تنمويَّةٍ تُرى بالعين المجردةِ ويتحسَّسُها كلُّ أفراد المجتمع، خاصةً ذوي الدخولِ المنخفضةِ، وأصحاب العملِ غير المستقر.

وعلى ضوء أنَّ القضية السكانية ليست بمعزلٍ عن التغيراتِ الحادثة في عمليَّة التنمية، بل تكاد تكون أحد أهمَّ أوجهها التي تتصدَّع دومًا بشرخٍ لم يلتئمْ بعد. يبدوا أنَّ التركيبَ العضويَّ للنموِّ السكانيِّ لا يُعزى لحديثٍ اقتصاديٍّ أو اجتماعيٍّ فقط، بل يمتد لعواملٍ سياسيَّةٍ أيضًا؛ ممّا جعلها تكترث بأوجهٍ شتّى وعناصرَ جمَّة، خاصةً ذلك التأثير المباشر بينها وبين عمليةِ التنميةِ أو على وجه الدقة عملية التشابك بين عدد السكان ومعدَّلات نموِّهم  وخصائصهم وتوزيعهم الجغرافي، مع إمكانات التنمية وتحسين نوعية الحياة والحدّ من البطالة والتقليل من الفقر، كما يؤثِّر على ثقافاتهم وقيمهم، بإعتبار أنَّ معيار القيم والأخلاقيَّات وسلوك المجتمع ما هي إلا مرآةً لتقدِّمه أو لتُأخره.

ولأنَّ النظر للقضيَّة السكانيَّة -كما سبق وأشرنا- لا يجب الخوض فيها دون وضعها في قالبها باعتبارها قضيةً شائكةً تسترعي الانتباه من كافّة المجتمع؛ فإنَّه ثمة عواملٌ موضوعيَّةٌ من شأنها أنْ تؤثِّر على علاقة السكان بالتنمية، سواءً في إتجاهها من السكان إلى التنمية أو الإتجاه الآخر من التنمية إلى السكان، وهي: عدد السكان، ومعدّلات النمو، ومتوسط دخل الفرد، ومعدلات البطالة، ومعدلات التضخم، ومعدل المساهمة في النشاط الاقتصادي،  ونسب الإنفاق على التعليم والصحة وكفاءة هذا الإنفاق، ومعدلات الأميّة والفقر، وكذلك توقُّع الحياة عند الميلاد. وعلى نفس النهج، توجد أيضًا عوامل ذاتيّة تتعلق بتركيبة وخصائص السكان والقيم والأخلاقيّات التي يتمتعون بها وسلوكيَّاتهم المختلفة، وغيرها.

لذا، فإنَّ علاقةَ السكان بالتنمية تستدعي الانتباه الشديد، والتعاملَ معها على عدَّة مستوياتٍ وليس مستوًى واحدًا وعلى مدى وأفق زمنيّ طويل. وعلى ضوء ما تقدّم، نحاول تقديم عدد من المحاور التي من الممكن أن تكون ذات مساهمةٍ في تعزيز فهم العلاقة بين السكان والتنمية والتأثيرات التي تكون بينهما، ونعرضها كما يلي:

المحور الأول: التركيبة السكانيّة والهوية التنمويَّة

بادىء ذي بدء، تعرف التركيبة السكانية على أنها: عناصر السكان ومكوناتهم التعليميّة والثقافيّة والاقتصاديّة، وعلى ضوء أن مصر تعاني من مشكلة في التوزيع الجغرافيِّ للسكان حيث التركز في الخط الواقع على جانبي الدَّلتا حيث المياه والزراعة، فإنّ خصائص التعليم المتمثلة في متوسط سنوات الدِّراسة، ومعدَّلات التسرُّب من التعليم، ومعدَّلات الأُميَّة، وتراجع نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة والتعليم، وتدني مستوى الحصول على الخدمات، وتزايد التحدِّيات البيئيَّة، مثَّلت العوامل الأولى لطمس الهويةِ التنمويةِ للسكان، وتراجع دورهم في عمليَّة التنمية على مدار الزَّمن.

المحور الثاني: السُّكان والقِيَم

 فالأمم التي تتقدم تبدأ بتعديل سلوكيَّات أفرادها نحو المُثل العليا، والقيم المُثلى التي يُراعى فيها الإنسان وكل ما حوله من كائنات، وفي مقدِّمتها البيئة التي ينشأ ويترعرعُ فيها؛ إلّا أنّه على مدار الوقت بدت الدولة المصريَّة تُحاط بثقافاتٍ مغايرةٍ لأُصوليَّاتِها الثقافيَّةِ ولقيَمها الدينيِّة، وهو الأمر الذي جعل السَّكان في حالةِ استنفارٍ دائم، والتطلع لأنماطٍ معيشيَّةٍ وثقافيَّةٍ تختلفُ كليًّا عن واقع الحال في مصر.

المحور الثالث: النمو السكاني وسوق العمل

وهنا تأتي القضيَّة الكبرى؛ فالعامل الذي لا يجد عملًا يقتاتُ ممّا قُدر له، سرعان ما تتغيَّر سلوكيَّاته وعادته، وربما تتغيَّر أفعاله تجاه المجتمع ودرجة الإنتماء، فوجود نسبٍ مرتفعةٍ للبطالة وتعدُّد أوجهها يمثِّل قضيةً تنمويَّةً بالأساس تبدأُ من التنمية وتنتهي إلى السكان؛ وبالتَّالي فزيادة معدَّلات البِطالة تعني -في ذات الوقت- نقصًا في التشغيل، تحدث مع توتراتٍ اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ أيضًا، ولنا في ما حدث من ثوارتٍ خلال السنوات القليلةِ الماضية عبرة؛ إذ كانت بواعثها اقتصاديَّةً، شكَّلت البطالة والعيش الكريم أُولى مطالبها ونداءاتها. كما يُحمل على الاقتصاد المصريِّ بمعدل إعالةٍ وَصَل إلى 62.95% كنسبةٍ من السكان في سنِّ العمل، بحسب بيانات البنك الدوليّ، وهو ما يُشكِّل ضغطًا كبيرًا على العاملين وعلى مستوى إنتاجيتهم في الوقت الذي تتَّسم أجورهم الحقيقيَّةَ بالإنخفاض والتراجع على مدار الوقت. كما تراجعت نسبة التشغيل إلى عدد السكان إلى نحو 44% عام 2017، في الوقت الذي بلغ معدّل المشاركة في القوة العاملة 47% في ذات العام.

المحور الرابع: العائد الديموغرافي

حيث غاب -خلال العقود الماضية- عن أذهان صانعي السياسة الاقتصاديَّة وجود فئةٍ سكانيَّةٍ نشطةٍ؛ فبحسب ما أكَّده الجهاز المركزيُّ للتعبئة العامة والإحصاء في بياناته أنَّ المجتمع المصريَّ يُعتبر مجتمعٌ فتيٌّ، حيث تُشكِّل الفئة العمريَّة أقل من 15 عام حوالي ثُلُث السكان بنسبة 34.2%، ولعلّ ما غاب أيضًا على حكوماتنا هو تشجيع السياسات التي يمكن أنْ تساعد على تحقيق هذا العائد، والتي تشمل تحسين الحصول على التعليم الجيِّد والوظائف، وكذلك الاستثمار في الصحة، خاصة الصحة الجنسيَّة والإنجابيَّة للشباب. ولعلّ ما جاء في إعلان القاهرة عام 2013 مثالٌ للتَّأكيدِ على أهميَّة تحقيق هذا العائد، من خلال النقاط التالية:

  • تحسين جودة التعليم والحصول عليه من أجل استجابةٍ كافيةٍ لاحتياجات سوق العمل.
  • ضمان حق الشباب في العمل اللائق من خلال السياسات الفعَّالةِ التي تولِّد توظيفًا يتمتع بالاستقرار والأمان والأمن وينعدم فيه التمييز، خاصةً فيما يتعلق بالنوع الاجتماعيِّ.
  • تطوير قدرات الشباب للتفاعل وبناء علاقاتٍ اجتماعيَّةٍ سليمة، ومنع العزلة الاجتماعيَّة، وتعزيز الوعي اليقظ حول الصحة الجنسيَّة والإنجابيَّة.
  • الإلتزام بمنح الأولويَّة لخلق فرص العمل وقوة العمل الماهرة؛ من خلال زيادة الاستثمار الذي يدعم الشباب في مجال ريادة الأعمال، وتوفير بناء القدرات للشباب.
  • إشراك الشباب على نحوٍ فعَّالٍ في السياسات والبرامج الوطنيَّة والإقليميَّة.
  • تمكين الشباب من المشاركة الفعَّالة كمتطوعين وقادةٍ للتغيير الاجتماعيِّ، من دون إخضاعهم للاستغلال أو العنف أو الحرمان من الحقوق.
  • تفعيل الآليات العديدة والمؤسّسات التي تتناول قضايا الشباب من أجل دعم مزيدٍ من الكفاءة والجدوى.
المراجع
أحمد عبد العزيز أحمد البقلي، التركيبة السكانية وآثارها في التنمية المستدامة ببلدان مجلس التعاون الخليجي (دراسة حالة دولة الكويت)، مجلة بحوث اقتصادية عربية، العددان 74-75، مركز دراسات الوحدة العربية، القاهرة، ربيع صيف،2016، ص60.
زكي، رمزي، ( 1998)، الإقتصاد السياسي للبطالة: تحليل لأخطر المشكلات الرأسمالية المعاصرة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، عدد رقم 226، أكتوبر، الكويت، 1998، ص 201.
هالة يوسف وماجد عثمان وفرزانة ردوي – فهيمي، الاستجابة للنمو السكاني السريع في مصر، موجز السياسات، الأمم المتحدة، جنيف، بدون تأريخ نشر.
صندوق الأمم المتحدة للسكان، العائد الديمغرافي
بيانات البنك الدولي 
بيانات البنك الدولي عن الزيادة السكانية

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حازم حسانين

تدقيق لغوي: مرح عقل

الصورة: gettyimages

اترك تعليقا