النبيُّ مُحَمَّد في عُيُون المُسْتَشْرِقِ المَجريِّ جولدتسهير
الدين الإسلامي من منظور جولدتسهير
يرى جولدتسهير أنَّ الناسَ يختلفون في تعريف الدين وبيانِ أصلِه؛ فحينًا يعني الإدراكَ الفطريَّ في الإنسانِ للسببيَّة، وأنَّ الأسباب لا بُدَّ أنْ تنتهيَ عند سببٍ أخير، وحينًا يعني شعورَ الإنسانِ بتبعيَّةٍ لقوةٍ عُليَا، وحينًا يعني حدسَ اللانهائي، وحينًا يعني الزهدَ في العالَمِ واطِّرَاحَه. ومع تَعَدُّدِ هذه التعاريف؛ فإنَّ مستشرقَنا يرى أنَّ الدينَ بشكلٍ عام ظاهرةٌ من الظواهرِ النفسيَّةِ المُرَكَّبَةِ التي لا يمكنُ إرجاعُها إلى سببٍ واحد لا غير.
وإذا ما انتقلنا إلى الدين الذي يحاول الباحثُ دراستَه هنا، وهو الدين الإسلامي؛ فإنَّه يرى أنَّ الاسمَ الذي أُطْلِقَ عليه يدلُّ على طابَعِهِ الأساسيِّ فيه؛ ذلك أنَّ اسمَه يحملُ معنى الانقيادِ؛ انقيادِ المؤمنين لله؛ فكلمة الإسلام كلمة مُصْطَبِغَةٌ بشعور التبعيَّة القوي الذي يُحِسُّ به الإنسانُ إحساسًا قويًّا أمام قدرةٍ غيرِ مَحْدُودَةٍ.
ولأنَّ الدينَ، أيّ دين ذو قيمة مطلقة لدى أتباعه، وقيمة نسبية لدى عقل الفيلسوف والناقد؛ فإنَّ جولدتسهير -لهذا السبب- لا يرى مانعًا من نقد الإسلام ونبيِّه؛ لأنه ينظر إليه من خارجٍ لا من داخلٍ بعقل فيلسوف ناقدٍ. يقول:
إنَّ الإسلام إذًا، شأنه في ذلك شأن سائر الأديان، ليس شيئًا مُجَرَّدًا حتى يمكن عزله عن الظواهر والنتائج التي يبدو بواسطتِها.
لا يحاولُ الباحثُ هنا وهو يدرسُ الإسلامَ ونبيَّه أنْ يدخل في التفاصيل الخاصَّة المذهبيَّة للإسلام، ولكنه يحاول أن يُلْقِيَ ضوءًا خاطفًا على العواملِ التي أسهمتْ في تكوينه التاريخي في جانبَيْهِ؛ العَقَدِيِّ والتَّشْرِيعِيِّ. إنَّه يرى أنَّ العواملَ التي كانت سببًا مُؤَثِّرًا في التكوين العَقَدِيِّ والتَّشْرِيعِيِّ للإسلامِ ونبيِّهِ تنتظم كلُّها في نوعَيْنِ؛ الأول منهما ما في النظام الإسلاميِّ نفسِه من قوىً داخلية ذاتيَّة تدفعه نحو التطوُّر خلال التاريخ، والثاني: تلك التَّأثيراتُ الروحيَّة التي وردت عليه من الخارجِ، وقد أَكَّدَ الإسلامُ استعدادَهُ وقدرتَه على امتصاص هذه الآراء الخارجيَّة وامتصاصها.
دعوة طريفة؟!
إنَّ محمدًا في نظر جولدتسهير لم يأتِ بجديدٍ من الأفكار في الحقيقة، ولم يمدنا كذلك بجديد فيما يخصُّ علاقةَ الإنسانِ بما هو فوق حسِّه وشعوره. والسبب في ذلك أن تبشيره لم يكن غير مزيجٍ منتخب من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التي تأثر بها تأثيرًا عميقًا. إنَّ تأثُّرَ محمد بهذه الآراء الدينيَّة صار عقيدةً انطوى عليها قلبُه، واعتبر مثل هذه التعاليم غير الجديدة وحيًا إلهيًّا درجة أن اعتقد اعتقادًا جازمًا أنَّه أداة للوحي الألهيِّ.
إنَّ شعور محمد بهذا الوحي واعتقاده به جعله ينشر مذهبَه للمرة الأولى بحماسٍ شديدٍ لم يفتر، وبعقيدة ثابتة بأنَّ هذا المذهب يحقِّقُ صالحَ الجماعةِ الخاصَّةِ. إنَّ الكاتبَ يَعُدُّ محمدًا لذلكَ أولَ مُصلح حقيقي ظهر في الشعب العربي من الوجهة التاريخية، تلك كانتْ طرافتُه -من وجهة نظر الكاتبِ- برغم قلة طرافة المادة التي كان يُبَشِّرُ بها.
إنَّ الكاتب يُلَمِّحُ تلميحًا إلى أنَّ السببَ وراءَ هذا الشعور الذي كان يشعر به محمد حالةٌ مرضيَّة اعْتَرَتْه، تلك الحالةُ تُصِيبُ الرجالَ الذين هم فوق مستوى البشر العاديِّين. قد كان النبي العربيُّ يمارسُ تأملاته في النصف الأول من حياته معتزلًا الناس بعد أنِ اتَّصَلَ بأوساطٍ استقى منها أفكارًا تغلغلت داخل نفسه؛ الأمر الذي جعله يخرجُ بأفكار وعقائد تناقض العقليَّةَ الدينيَّةَ والأخلاقيةَ لقومه وأقاربه.
إنَّ أولَ ما أبغضه محمد تلك الماديةُ التي كان يرتع فيها الجاهليُّون، وما كان يحاوله الأغنياءُ من بَسْطِ سُلطان القهر على من دونهم من الطبقات الفقيرة؛ فأخذ يشكو من اضطهاد تلك الفئات الضعيفة، وتعتمل في نفسه مشاعرُ مناوئة لطبقة الأغنياء؛ تندِّدُ بسوء معاملتهم، وعدم المبالاة بالصالح العام وواجبات الحياة الإنسانية. اعتملتْ كلُّ هذه المشاعر الإنسانية في نفسه حتى بلغ الأربعين من عمره، وفي خلواتِه تلك كان نَهْبًا للأحلام القوية والرُّؤى الدينيَّة التي كونت في نفسه شعورًا بأنَّ الله يدعوه ليذهبَ إلى قومه منذِرًا إياهم بما قد يؤدِّي بهم إلى الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
وفي البدء كانت التَّأَمُّلات المُحَمَّديَّة تفرض نفسَها على مخيلته في شكل أمثالٍ مضروبة للحياة الأخرى، نزوعًا إلى رفض تلك الحياةُ التي كان يرتع فيها قومُه؛ فكانتِ الحياةُ الأخرى هي الفكرة الأساسيَّةُ التي قام عليها كلُّ تبشيره، وهي الأساس الذي قامتْ عليها دعوتُه؛ إذ كان يدعو قومَه إلى الندم والخضوع والاستسلام لله اعتمادًا على تمثيلاتٍ تتعلَّقُ باليوم الآخر قبل أيّ شيء. إنَّ محمدًا قَدْ فَقَدَ الأملَ في هذا العالَم الأرضيِّ، ولم يبقَ له ثمَّة بريق فيه؛ فالتفتَ نحوَ العالم الآخر.
وكانَ من نتائج إدراكه المطلق بالتَّبَعِيَّةِ لله أنْ نبذَ الشركَ الذي تحطُّ عقائدُه من شأن القدرة الإلهيَّة التي لا حَدَّ لها وتوزِّعُها بين كثيرين؛ لأنَّ اللهَ -في رأي النبي العربي الجديد- لا يوجد من يُقاسِمُه شيئًا من سُلْطَانِه غير المحدود في إصدار أحكامه النهائية التي لا مَرَدَّ لها.
إنَّ الجانبَ السلبي من الدعوة المحمدية –من وجهة نظر جولدتسهير– جديرٌ بالاحترام؛ لأنه أنقذَ شعائر العرب وعباداتهم وحياة القبائل التي كانوا يعيشونها من ضروب الوحشية والفظاعة البربرية التي كانت سائدة في الوثنية العربية، والتي كان يسميها محمد الجاهليةَ في مقابل الإسلام. أما تلك الشعائر التي كانتْ ذاتَ طابع انتخابيٍّ مما سبقه، فلم تكنْ ذاتَ طرافة في ذاتها؛ لمَجيئِهَا مُستقاةً ومُسْتَمَدَّةً من غيرها؛ فعلى سبيل المثال، كانتْ شريعةُ الصلاةِ بصورتها الأولى بما فيها من قيام وقراءة وركوع وسجود تَتَّصِلُ بالمسيحية الشرقيَّة، وكان الصومُ -الذي كانَ أولًا في يوم عاشوراء- مُحاكاةً للصوم اليهوديِّ الأكبر، وكان الحجُّ إلى الكعبة ممَّا احتفظ به النبي محمد عن الوثنية القديمة، لكنه جعله متَّفقًا والتوحيد.
المدينة والميلاد الحقيقي للدعوة
يحكي الكاتبُ بعد ذلك تاريخَ محمد بعد أنْ سَخِرَ منه قومُه ولم يقبلوا دعوتَه؛ فاضطر إلى الهجرة حيث يثرب التي كان أهلُها أكثر استعدادًا لقبولِ النظام الدينيِّ الجديد؛ لأنها لم تكن غريبةً عنهم تمامًا، إن لم تكن مألوفةً إلى أكثرهم بسبب وجودِ اليهود بينهم بكثرة. وفي يثرب -مدينة الرسول الجديد- تَلَقَّى عونًا بالغًا من أهلها، وهناك اتَّخَذَتْ دعوتُه شكلًا جديدًا؛ فلم تَعُدِ الرُّؤى المُشَبَّعَةَ بالدار الآخرة تسيطر على عقله سيطرة تامةً مثلما كان يحدث من قبل، بل إنَّ حالتَه الجديدةَ في المدينة جعلتْ منه غازيا، ومجاهدًا، ورجل دولة، ومُنَظِّمَ جماعة آخذة في الاتِّسَاع.
كل هذا فرض على محمد فَهْمًا جديدًا للعالَمِ الأرضيِّ مُؤَسَّسًا على الحُكمِ الإلهيِّ. إنَّ الإسلامَ لم يظهرْ له طابعٌ خاصٌّ إلا في المدينة في صورة الهيئة المُكَافِحَة، وفي المدينة وُلِدَ الإسلامُ مرة أخرى، وفيها رُسِمَتِ الخطوطُ الرئيسة لحياتِه التاريخية التي سيتطور فيها؛ ففي المدينة التي تختلف اختلافًا كبيرًا عن بيئة مكة، ظهر الإسلامُ كقوة مناوئة، محاولًا إصلاح العقائد المخالفة له، وتثبيت دينِ إبراهيم وإعادته إلى أصله كما كان يرى محمد. من أجل ذلك كانتِ السنوات العشر الأولى من المدينة عصر دفاع وهجوم بالسيف واللسان.
يقول جولدتسهير:
إنَّ من الواجب علينا أن نُوَجِّهَ النَّظَرَ إلى الطَّرِيقَةِ التي حَدَّدَتْ [للنبي محمد] رسالتَه وتحقيقها، خصوصًا في العصر المدنيِّ؛ أي في الأثناء التي حدث فيها أَنْ تَحَوَّلَ من المُتَقَشِّفِ المُسْتَسْلِمِ الصَّابر إلى رئيس الدولة المُحَارب.
إنَّ الكلمة لم تكن أقوى من السيف في المدينة، ولم يَعُد مجردُ الإعراضِ عن المشركين كافيًا، بل كان لا بدَّ من لهجة أخرى أكثر عُنفًا وهجومًا من ذي قبل.
انقضتِ المرحلةُ الثانيةُ من رسالتِه وهي تتوسَّل مصالح هذا العالم، وتَتَأهَّبُ دائمًا للحرب. ولا شكَّ نجد أنَّ رؤيتَهُ عن الله قد تغيَّرت أيضًا؛ فقد أصبح اللهُ في هذه المرحلة يقود مُحَارِبِيهِ، وصار إلهَ حَرْبٍ يقاتلُ أعداءه بواسطة النبي وأصحابِه.
القرآن وموقعه من الدعوة المحمدية
إنَّ الحالةَ الجديدةَ التي فرضتْها المدينةُ قد أثَّرَتْ في الأسلوبِ القرآني وشكله الأدبيّ؛ فهناك تمييز واضح بين السور المكيَّة والسور المدنيَّةِ لا تُخْطِئُهُ العين أبدًا. إنَّ الشكل الذي جاء عليه القرآنُ في مكةَ كانَ خياليًّا وحادًّا وتلقائيًّا وذاتيًّا، ولكنَّ حميَّة النبوة وحِدَّتَها في المدينة جعلتْ تهدأ رويددًا رويدًا، بل أخذتِ البلاغة في هذا العصر تَتَلبَّسُ وجهًا شاحبًا، وأصبح النصُّ القرآنيُّ في أحايينَ كثيرة أقرب إلى مستوى النصِّ النثريِّ.
وحتى يُثْبِتَ جولدتسهير فكرتَه تلك أخذ يُقَارِنُ بين السجع في القرآنَيْنِ المكيِّ والمدنيِّ؛ ففي القرآنِ المكي نرى محمدًا يسردُ رؤاه الكشفيَّةَ في فقراتٍ مسجوعة وفق ضرباتِ قلبه المحموم، أما في القرآن المدني فنجدُ السجعَ مُجَرَّدًا من اندفاعاته وقوته حتى وإنْ كانَ يتناولُ نفس الموضوعات التي يتناولها القرآنُ المكيُّ.
يرى جولدتسهير أنه وإن كان القرآن هو الكتاب المقدس لدى المسلمين، إلا أنه لا يمكن بحال أنْ نؤسِّس حكمًا على الإسلامِ اعتمادًا عليه وحده بهذا الاعتبار؛ لأنَّ القرآنَ لم يحكم الإسلامَ في الحقيقة إلا في خلال العشرين سنة الأولى من نُمُوِّه فحسب. نعم، كان القرآنُ أساسًا للإسلام في أطواره المُتَتَاليَة، وهذا أمر طبيعي، لكنه لم يكن الميزان الوحيد الذي كانت توزنُ به الأمور في العصور المتأخرة.
الوَحْدةُ العربية تحتَ لواء الدينِ الجديدِ
إنَّ العربَ لم يكونوا أمةً تُقَدِّرُ القيمَ الأرضيَّة أبدًا، ولكنَّ النجاح الذي حقَّقَه النبيُّ العربيُّ وخليفتُه الأول على معارضي الإسلام قَوَّى عند العرب الاعتقادَ بالنبيِّ ورسالته. وكان للنجاح أثر تاريخي كبير في الانضواء تحت لواء هذا الدين، ورغم أنه لم يُحَقِّقْ تلك الوَحدة التامَّة بين قبائل العرب إلا أنه أسَّسَ رابطةً أقوى جمعتْ بينهم وأَلَّفَتْ بين أواصرهم وإن تخالفوا. وبعد موت النبي اتَّسَعَتْ هذه الرؤية اتِّساعًا كبيرًا بفضل الغزواتِ التي نجحتْ نَجاحًا لم يكن له مثيل في تاريخِ العالَم.
إنَّ الصورة التي رسمها المسلمونَ للنبي محمد كانتْ أخلاقية شديدةَ المثاليَّة؛ مِمَّا جَعَلَهم يَتَّخِذونَه مَثَلًا أعلىً يُحْتَذَى بِهِ. إنهم لم يتركوا لأنفسَهم فرصة معرفةَ محمد إلا كما رسَمَهُ المُتَكَلِّمُون لا كما يرسمه التاريخُ الصادقُ، ولا كما كان محمدٌ يرى نفسَه؛ ضعيفًا، مدركًا إنسانيَّتَه وعيوبَه البشريَّة، وأنه لم يكن يشعر في نفسه أنه قِدِّيس واجب الاتباع في كلِّ شيء.
والسؤال الذي يطرحه الباحث هو:
هل كان محمد يشعر في قرارة نفسه أنه نبيٌّ وطني/مَحَلِّيٍّ، أم نبي أُرْسِلَ إلى الناس كافَّةً؟!
يرى الكاتبُ وجهةَ النظر الثانية؛ أي أنَّه كان يرى نفسَه نبيًّا عالميًّا؛ فمنذ البدء كانتْ الفكرةُ المسيطرةُ عليه أنَّ الله أرسله “رحمةً للعالمين”، وكلمة العالمين في القرآن لها دائمًا معنىً عالمي؛ فالمقصودون بالدعوةِ كلُّ الإنسانيةِ بأوسع معانيها، بل يمكن القول أنَّ الطابع العالميَّ لدعوته يَتَّسِعُ حتى يشمل أوسعَ الميادين التي يمكن تصوُّرُها.
المصدر: العقيدة والشريعة في الإسلام - تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، إيجناس جولدتسهير، نقله إلى العربية وعلق عليه: محمد يوسف موسى - على حسن عبد القادر - عبد العزيز عبد الحق، تقديم: محمد عوني عبد الرؤوف، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية 2018.