الأشياء المشتركة بين المؤمنين والملحدين
وجد “مركز بيو” الأمريكي الشهير للإحصائيات أن 4% من الأمريكيين البالغين يعرّفون أنفسهم على أنهم ملحدين، و5% منهم يعرّفون أنفسهم على أنهم لا-أدريين في عاميّ 2018-2019 مقارنة ب 2% ملحدين و 3% لا-أدريين في عام 2009 [1]، قد تقلّل استطلاعات الرأي هذه من العدد الحقيقي لغير المؤمنين، لأن الملحدين غالبًا ما يواجهون التحيّز والعنصريّة في معظم المجتمعات حتى العلمانيّة منها، وبالتالي فقد يخفون هويتهم الحقيقية، حسب عالم النفس ويل جيرفايس من جامعة كنتاكي فإنّ الانتشار الحقيقي للإلحاد في أمريكا قد يكون أقرب إلى 26%، ومن المؤكد تقريبًا أنه أكبر من 11% بين البالغين [2].
على الرغم من هذه الأعداد المتزايدة، فإن الملحدين واللا أدريين ليسوا مفهومين جيدًا. حيث لم تنطلق الدراسة المنهجية لغير المؤمنين إلا في السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية. فمعظم الدراسات النفسية والاجتماعية كانت تركّز علي الدين والمتدينين باعتبارهم الأغلبية الساحقة في العالم. مع انطلاق هذه الدراسات بدأ الباحثون مؤخراً رسم صورة أوضح عن سيكولوجية عدم الإيمان. والكثير من الأدلة التي توصل لها الباحثون في هذا المجال تشير إلى أنّ غير المؤمنين والمؤمنين قد لا يكونون مختلفين بشكلٍ كبير عن بعضهم البعض على الإطلاق.
– الدين والإلحاد والإيمان بما فوق الطبيعي وتوريث المعتقدات
معظم الأديان تقريبًا قائمة على فكرة الإيمان بما هو فوق الطبيعي، الإيمان بالله، الملائكة، الجن والشياطين، وكل الأديان يتم توريثها، النسبة الأكبر من المتدينين ورثوا الدين من آبائهم وأمهاتهم وبيئتهم التي كبروا فيها، فمعظم المسلمين مسلمون لأنهم عاشوا في بيئة إسلامية، ومعظم المسيحيين مسيحيون لأنهم عاشوا في بيئة مسيحية، وهكذا.
قد يظن معظم المتدينين أن الملحدين واللا أدريين يتبنون مذهب الفلسفة الطبيعانية Naturalism أي الاعتقاد بأن العالم الطبيعي هو كل الوجود ولا وجود لأي أشياء فوق طبيعية لكن في الواقع الأبحاث تناقض ذلك، في مشروع بحثي كبير يسمى: ”مشروع فهم عدم الإيمان Understanding Unbelief Project“ شاركت فيه جامعة كينت البريطانية وجامعة كوفنتري وجامعة سانت ماري وجامعة الملكة في بلفاست، وتم في ستة دول بها نسب عدم إيمان عالية وهذه الدول هي الصين والدنمارك والبرازيل وأمريكا وبريطانيا واليابان، وجد الباحثون أن معظم الملاحدة الذين تم استطلاعهم في هذه الدول يؤمنون بوجود أشياء فوق طبيعية أخرى غير ”الإله“ وأن معظم اللا أدريين بالمثل لا يعرفون فقط هل ”الإله“ موجود أم لا؟ لكنهم يؤمنون بوجود أشياء فوق طبيعية أخرى كثيرة، فمن الملاحدة واللا أدريين من يؤمن بوجود الحياة بعد الموت، ومنهم من يؤمن بالكارما، ومنهم من يؤمن أن بعض البشر يملكون قدرات عقلية خارقة كالقدرة علي التخاطر عن بعد علي سبيل المثال (يؤمنون بوجود الظواهر الباراسيكولوجية) ومنهم من يؤمن بالتنجيم، ومنهم من يؤمن بوجود الروح وتناسخ الأرواح، وقله فقط منهم هم من يتبنون مذهب الفلسفة الطبيعانية [3]،[4].
الإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها وهذا شيء طبيعي ولا يستثنى من ذلك الإلحاد أو عدم الإيمان أيضاً فمن يولد في بيئة دينية سيكون متديّن ومن يولد في بيئة إلحادية سيكون ملحد أو غير متديّن بنسبة كبيرة أيضاً، الأبحاث توضح أن الآباء الملحدين وغير المؤمنين يورّثون أفكارهم واعتقاداتهم لأطفالهم عن طريق تبادل ثقافاتهم معهم تماماً كما يورث الآباء المتدينون الإيمان لأطفالهم، فالملحدون وغير المؤمنين يدّعون أنهم ”يتركون حرية الاختيار لأطفالهم“ لكنهم في الواقع يرسّخون في عقول أطفالهم طرق معينة للتفكير في الدين – مثال فكرة أن الدين ليس حقيقة إلهية بل هو مجرد اختيار – تجعلهم ينفرون منه والنسبة الأكبر من هؤلاء الأطفال نتيجة لذلك (95% منهم) يصبحون ملحدين أو غير مؤمنين بعد ذلك في حياتهم [5].
– الدين والإلحاد والصحة النفسية والجسدية
تشير مجموعة كبيرة جداً من الدراسات التجريبية الصارمة واسعة النطاق إلى أن الانتماء إلى المنظمات الدينية والحضور في دور العبادة الدينية كالكنائس والمساجد يرتبطان بصحة نفسية وجسدية أفضل: اكتئاب أقل، قلق أقل، عمر أطول، علاقات وحياة اجتماعية أفضل، رضا وقناعة بالحياة، الشعور بالسعادة [6].
الاستنتاج الفطري من هذه الدراسات هو أنه بما أن غير المؤمنين يفتقدون لهذه الأشياء فيجب أن تكون صحتهم النفسية والجسدية أسوأ من المتدينين لكن خلال الأبحاث لم يجد الباحثون هذه النتيجة، فعلي سبيل المثال باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي العام لعام 2008، وهو مسح كبير لعينة تمثيلية من البالغين في الولايات المتحدة الأمريكية، قارن عالم النفس ديڨيد سبيد بين الأشخاص الذين يؤمنون بالله والأشخاص الذين لا يؤمنون به ووجد أن كلا المجموعتين تتمتعان بمستويات مماثلة من الصحة المبلغ عنها ذاتياً [7].
بمراجعة العديد من الدراسات حول فوائد التديّن، وجد عالم النفس لوك جالين أن معظم فوائد التديّن يمكن أن تُعزى إلى عوامل مثل المشاركة الاجتماعية وكونك عضوًا في شبكة اجتماعية داعمة. مثلما يستفيد المتدينون من الانتماء إلى مجموعة دينية، فإن الملحدين الذين يشاركون في مجموعات متشابهة التفكير، مثل المنظمات الإنسانية أو تحالفات الملحدين، يتمتعون بصحة نفسية وجسدية مماثلة تقريباً للمتدينين [8].
فالمعتقد الديني بحد ذاته ليس هو سبب صحتك النفسية والجسدية بل ببساطة كونك عضوًا في مجموعة داعمة من الأشخاص ذوي التفكير المماثل.
– الدين والإلحاد وأشكال التفكير غير العقلانية
التحيّزات، التأثّر بالعواطف، طرق التفكير غير العقلانية مثل ”تفكير القطيع“، الدوغمائية، موجودة ببساطة بمستويات مختلفة عند كل البشر، والسبب في ذلك أننا بشر وهذه طبيعة عقول البشر، الملحد أو غير المتدين عندما يحاول تصوير نفسه علي أنه ”قمة العقلانية، غير متحيز، يتبع الدليل فقط ولا يتأثر بالعواطف“ فهو كأنما يدّعي أنه ليس كائن بشري، الدراسات تبين أن كل البشر يقعون في مثل هذه الأشياء والملحدين وغير المؤمنين ليسوا استثناءً، فعلى سبيل المثال ”تفكير القطيع“ موجود عند كل البشر فقد ينتهي الأمر بالأشخاص المتدينين وغير المتدينين إلى اتباع كلام الرموز المؤثرين دون تمحيص أو تفكير في كلامهم ”المسلم يتبع كلام بعض الشيوخ البارزين مثلاً دون تفكير“ وبالمثل الملحد قد يتبع كلام رموز الإلحاد المؤثرين مثل ريتشارد دوكنز علي سبيل المثال دون تفكير به [5].
المؤمن قد يؤمن بوجود الله لأسباب عاطفية على سبيل المثال خوفه من الفناء بعد الموت لكن بالمثل الملحد قد يكون كفره بوجود الله عاطفي وليس عقلاني علي سبيل المثال ”معضلة الشر“ هي من أحد أسباب كفر الكثير، كأن يموت شخص عزيز عليك مثلاً بالسرطان، أو تتعرض لأي ضغوطات نفسية [9]،[10] – ولا أقصد بذلك طبعاً أن الإيمان أو الإلحاد قد يكون مبني حصراً علي أسباب عاطفية، المؤمن على سبيل المثال يقدم حجج عقلية منطقية كثيرة علي ضرورة وجود الخالق أو الإله مثل برهان السببية، برهان الضبط الدقيق للكون، تعقيد الحياة وحجج منطقية عقلية على قدسية كتابه المقدس كادعاء وجود إعجاز لغوي أو علمي في هذه الكتب مثلاً سواء اتفقت معه أو لا، والملحد بالمثل قد يقدم اعتراضات منطقية وعقلية كثيرة علي هذه الحجج التي يطرحها المؤمن أو علي نصوص الكتب المقدّسة سواء اتفقت معه أو لا – أنا أقصد أن العاطفة قد تكون أحد الأسباب للإيمان أو للإلحاد وعدم الإيمان لأننا بشر وكلنا نتأثر بالعاطفة.
الدوغمائية موجودة بدرجة كبيرة بين الأصوليين المتدينين وبنسب أقل بين المتدينين العاديين وبالمثل ستجد الدوغمائية موجودة بين الأصوليين الملحدين أو من يطلق عليهم اليوم مصطلح ”الملحدين الجدد“ مثل ريتشارد دوكنز وسام هاريس ودانيال دينيت وكريستوفر هيتشنز ومن شابههم، وبنسب أقل بين الملحدين العاديين، في تحليل لكتابات هؤلاء الملاحدة الأصوليون وجد الفيلسوف كريستوفر آر كوتر أنهم مجموعة من الدوغمائيين منغلقي العقول، ليسوا متفتحي العقول وليسوا مفكرين ناقدين كما يدعون دوماً عندما ينتقدون الدين [11]، وفي دراسة نفسية قارنت بين درجات الدوغمائية بين أنواع مختلفة من اللا دينيين وجد الباحثون أن الملحدين الجدد هم أكثرهم دوغمائية [12].
وكذلك التحيزات العقلية موجودة عند كل البشر ملحدين ومؤمنين، البشر دوماً يتحيزون ضد الأفكار والظواهر التي لا تتوافق مع رغباتهم أو أهوائهم الشخصية، ويحاولون تفسير كل الظواهر بطرق تتوافق مع اعتقاداتهم المسبقة عنها، وكل شخص منا يتوهم أنه عقلاني وغير متحيز ويري الآخرين المختلفين عنه علي أنهم متحيزين وغير عقلانيين لأننا لا ندرك تحيزاتنا الشخصية بسهولة، بينما ندرك تحيزات الآخرين بسهولة [13]،[14].
– الدين والإلحاد والأخلاق
معظم المتدينين ينظرون للملحدين كتهديد للأخلاق، وهذا هو سبب التحيّز الكبير ضد الملاحدة في المجتمعات المختلفة حتى العلمانية منها، معظم المتدينين يظنون أنه طالما أنت لا تؤمن بوجود إله يراقبك فلن تكون حسن الأخلاق، والشيء الغريب أنه ليس المتدينين فقط من يعتقدون ذلك، بل هناك حتي بعض الملحدين يعتقدون بذلك أيضاً، في دراسة قام بها عالم النفس ويل جيرفايس، قام فيها بإحضار مجموعات من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين والملحدين وأعطاهم مجموعة من الأفعال اللا أخلاقية مثل القتل التسلسلي وزنا المحارم وسألهم في اعتقادك من يمكنه أن يفعل ذلك؟ مسلم أم مسيحي أم يهودي أم ملحد؟ معظم الناس كانت تجيب ”ملحد” حتي بعض الملحدين من مجموعة الملاحدة كانت تجيب ”ملحد“ [15].
لكن اعتقادات معظم الناس عن الملاحدة أنهم بلا أخلاق ليست بدليل على أنهم هكذا بالفعل، في الواقع الأبحاث تبين أن الملحدين كالمؤمنين تماماً يمتلكون قيم أخلاقية مختلفة ويلتزمون بها كحبهم للعدل وحرصهم على عدم إيذاء بقية الناس وتقديسهم للحياة البشرية ورغبتهم في مساعدة أفراد مجتمعاتهم [3]،[16].
ففي الواقع بالاحترام المتبادل وعدم السخرية والبعد عن التعصب الأعمى يمكن أن يعيش غير المؤمنين والمؤمنين مع بعضهم البعض في سلام فيوجد الكثير من الأشياء المشتركة بينهم.
مصادر: [1] https://www.pewforum.org/2019/10/17/in-u-s-decline-of-christianity-continues-at-rapid-pace/ [2] https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/1948550617707015 [3] https://research.kent.ac.uk/understandingunbelief/reports/ [4] https://www.newscientist.com/article/2204958-most-atheists-believe-in-the-supernatural-despite-trusting-science/ [5] https://theconversation.com/why-atheists-are-not-as-rational-as-some-like-to-think-103563 [6] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5665144/ [7] https://link.springer.com/article/10.1007%2Fs10943-015-0083-9 [8] http://researcherslinks.com/current-issues/Atheism-Wellbeing-and-the-Wager-Why-Not-Believing-in-God-With-Others-is-Good-for-You/9/16/120/html [9] https://psycnet.apa.org/record/2016-13467-001 [10] https://content.apa.org/record/2010-26912-003 [11] https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-319-54964-4_3 [12] https://psycnet.apa.org/record/2015-02900-005 [13] https://www.apa.org/monitor/2017/05/alternative-facts [14] https://psycnet.apa.org/record/2012-14753-001 [15] https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0092302 [16] https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0246593