الليلة الماضية في “سوهو”: مُحَاكَاة معاصرة لماضٍ مظلم
بحبكة قد تبدو لمن يقرأها للوهلة الأولى، دون أن يشاهد الفيلم حبكة مكررة، استطاع المخرج البريطاني إدجار رايت بفيلمه The last night in Soho أن يثبت أن براعته لا تقتصر على نوع سينمائي محدَّد، فتجارب رايت السابقة، على الرغم من جودتها الفنية وما تقدمه من امتاع وتسلية للمُشاهِد، وتحديدًا في ثلاثية “كورنيتو”، وأفلام Scott Pilgrim vs. The world وBaby driver، الذي تصدَّر قوائم أفضل أفلام عام 2017، إلا أنها كانت تتسم بسرعة الإيقاع، واللمسات الكوميدية كانت طاغية بشدة عليها، مما يجعل من The last night in Soho بمثابة تحدٍ جديد في مسيرة رايت، والذي يقرِّر الجنوح بفيلمه إلى الرعب النفسي، وهو النوع السينمائي الذي ازدهر بشدة في السنوات الأخيرة، وظهرت فيه أسماء واعدة مثل: أري أستر، وروبرت إيجرز. يقدِّم رايت في فيلمه الأخير رؤية سينمائية أصيلة وجيدة إلى حدٍ كبير، كتجربة أولى له في عالَم الرعب النفسي، وشخصيًا، أتمنى ألا تكون الأخيرة.
قصة فيلم الليلة الماضية في سوهو
تدور أحداث فيلم الليلة الماضية في سوهو حول “إلويز”، فتاة في أواخر العقد الثاني من عمرها، تعيش برفقة جدتها – بعد وفاة والدتها – في الريف الإنجليزي، تنجح إلويز في الحصول على منحة لدراسة تصميم الأزياء في لندن، ليبدأ الفيلم بعد ذلك في رصد معاناتها عقب الانتقال من الريف، بمحدوديته وهدوئه، إلى المدينة بصخبها ولفظها لكل من هو غريب عنها، هذا هو الحال في النصف الأول من الفيلم، قصة كفاح ومحاولة ارتقاء لشابة طموحة تتصادم ذاتها وأحلامها مع واقع ينبذ كل من هو مختلف ومميز ويعمِّق من الاغتراب الذي يعانيه الإنسان المعاصر، وهي قصة شبيهة لقصص من الممكن أن نكون قد رأينا مثلها سابقًا، إلى أن يأخذ الفيلم في نصفه الثاني مسارات مختلفة، مسارات تتصف بالسوداوية والرعب، وذلك عندما تبدأ إلويز في رؤية أليكساندرا في منامها، أو أليكسا، وهو الاسم الذي اختارته الشابة أليكساندرا، والتي عاشت في لندن في ستينيات القرن الماضي، ليصبح الاسم الفني الذي ستستخدمه في رحلتها لصعود درجات سلم المجد في صناعة الترفيه والغناء.
تتوحَّد شخصيات إلويز وأليكسا، ونتتبَّع من خلال رؤى إلويز في منامها قصة سقوط أليكسا، والتي ينتهي بها الحال للعمل كعاهرة وقتلها على يد جاك القوَّاد، الذي أوهمها بحبه لها وبأنه سيأخذ بيدها ليضعها على طريق المجد الفني، إلا أنه استغل جسدها وجمالها لإرضاء شهوات رواد النوادي الليلية من رجال الأعمال والمنتجين الفنيين، وتزداد معاناة إلويز عندما تبدأ الأحلام في الاختلاط بالواقع لدرجة يصعب معها التمييز بينهما، ليصبح واقع إلويز في القرن الواحد والعشرين مشابهًا لقتامة الواقع الذي عاشته أليكسا في ستينيات القرن العشرين، وتبدأ أشباح الرجال الذين انتهكوا جسد وكرامة أليكسا في التجسُّد لإلويز في حاضرها ومطاردتها.
يكمُن ذكاء إدجار رايت في قدرته على الاتجاه من بعد النصف الأول للفيلم، والذي من الممكن إدراجه في genre الدراما الاجتماعية، إلى اتجاه الرعب النفسي في نصفه الثاني، والفيلم في مجمله لا يخلو بالطبع من هجاء وتعرية لقسوة لندن في حاضرنا المعيش وفي الماضي أيضًا، فأضواء الستينيات البراقة تُخفي في داخلها ظلمات ابتلعت الكثير من الموهوبات كأليكسا، وبإسقاط الماضي على الحاضر، نجد أن ما حدث ما زال وسيظل يحدث، فعالَم صناعة الترفيه تحديدًا بكل أشكاله، مليء بقصص لنساء اضطررن إلى تقديم تنازلات أفضت إلى سقوطهن، فمنهن من قضت نحبها فنيًا وإنسانيًا كشخصية أليكسا، ومنهن من تنتظر.
جودة التحوّل في البناء السردي للفيلم من نوع سينمائي إلى نوع سينمائي آخر، هي ما تجعل من Last night in Soho فيلمًا مميزًا، وقدرة رايت على تسليط الضوء بشكلٍ غير تقليدي على الفظائع التي تحدث في عالَم صناعة الترفيه لنساء تحطمت أحلامهن على صخور الواقع، هي ما تُضفي على الفيلم لمسة جماليَّة، قد تفتقدها أفلام أخرى إن حاولت معالجة نفس القضية بالشكل التقليدي، والقضايا التي طرحها الفيلم لم تقتصر فقط على الاغتراب الهيجلي أو خفايا عالَم صناعة الترفيه، وإنما تطرَّق بشكلٍ واضح إلى قضية اضطهاد المرأة، ونقد النوستالجيا الزائفة التي يعيشها الكثيرون من خلال تفكيك وتكذيب سرديات الماضي القائلة: بإن العصور السابقة على عصرنا الحالي هي العصور الذهبية، وهو ما رأيناه سابقًا في رائعة وودي ألين Midnight in Paris، وكرره رايت في Last night in Soho ولكن بشكلٍ مختلف، فالمتأمِّل في الفيلم سيجد فيه ميلًا واضحًا من رايت لاستحضار تيمات قصصية وأساليب بصرية رأيناها سابقًا في العوالِم السينمائية لديفيد لينش، وتحديداً في أفلام كـMulholland drive وInland empire، بما تسببه تلك العوالِم من مشاعر توتر وعدم ارتياح للمتفرِّج.
ولا يستطيع أي مُشاهِد لفيلم الليلة الماضية في سوهو إغفال مدى النضوج الفني لكل من بطلتي الفيلم: توماسن ماكنزي، وأنيا تايلور جوي، والأخيرة بالأخص يُنبِّئ كل من أدائها الحركي والتعبيري في الفيلم عن موهبة ستقتنص الجوائز في سن صغيرة، واستخدام المونتاج ومَشاهِد الانتقال بين شخصيتي إلويز وأليكسا في بداية رؤى إلويز، كانت موفقة وسلسة بدرجةٍ كبيرة، كما أن مَشاهِد لندن في الستينيات كانت مبهرة على المستوى البصري، وهو ما لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن التطرق إلى الاستخدام المتقن للألوان والإضاءة في الفيلم، فالألوان تحديدًا ساهمت بقوة في نقل الُمشاهِد من عالَم الواقع إلى عالَم الأحلام، وكان الأمر بمثابة الانزلاق شيئًا فشيئًا لإحدى بوابات الجحيم.
تجربة رايت على الرغم من كونها تجربة أولى في genre الرعب النفسي، وعلى الرغم من بعض الثغرات التي قد تحدث في أي تجربة أولى، إلا أن رايت يُحسَب له قدرته على تقديم رؤية مختلفة وأصيلة لقضايا متعددة في فيلمٍ واحد، كما أن تلك الثغرات من المؤكد أنها لن تُقلل من استمتاعك بمُشاهدَة الفيلم.
نرشح لك/ فيلم Dog Day Afternoon: تحفة آل باتشينو المنسية