الكون بين الخيال والعلم
في قصة “السؤال الأخير” The Last question لإسحاق عظيموف Isac Asimov، كاتب الخيال العلمي الشهير، كان السؤال الأعظم الذي يشغل بال البشرية هو “كيف يمكن التغلب على فكرة الموت الحراري المحتوم للكون؟”، حيث لن يستمر الكون في التمددّ إلى ما لا نهاية بل سيصل إلى نقطة تتزن فيها حراريًا المجرات والأنظمة الكونية المختلفة وتتوقف فيها عن التفاعل الحراري، وبالتالي تتنهي النجوم عن إشعاع حرارتها وذلك وفقًا للقانون الثاني للميكانيكا الحرارية.
للإجابة على هذا السؤال، صنع البشر حاسبًا عملاقًا أسموه multivac وطرحوا عليه هذا السؤال، فأجاب بعد عقودٍ من التفكير: “لا توجد بيانات كافية لإجابة معقولة على هذا السؤال”، وقامت الأجيال التالية بتطوير mutivac ليُصبح أكثر تقدمًا، وطرحوا عليه نفس السؤال، فأخذ يُفكر قرونًا ثم أجاب بنفسِ الإجابة “ لا توجد معلومات كافية لإجابة معقولة على هذا السؤال”، وهكذا استمر التطوير حتى صنع البشر حاسبًا عملاقًا فائق القُدرة، وسألوه نفس السؤال فأخذ يُفكر ويفكر لمُدةِ دهور عديدة فنت فيها البشرية وخمدت الحرارة الكونية وماتت الحياة، ثم أعاد ترتيب كُل المعلومات التي اكتسبها عبر بلايين السنين حتى عثر على الإجابة، لكنه لم يجد من يخبره بها، فقرر أن يجيب على نفسه بالبيان العملي، وقال “ليكن نور، فكان النور“.
إذا كان حاسب عظيموف قد خلق كونا من جديد كنظام فيزيائي مُحاكيًا تمامًا للكون القديم من كل المعلومات التي تراكمت له عبر الحياة الكونية السابقة، فإن تصور حاسب آلي قادر على مُحاكاة الكون نفسه، بل وافتراض أن الكون ذاته ليس إلا حاسبًا رقميًا عملاقًا لم تعد فكرة حبيسة صفحات كُتّاب الخيال العلمي الكبار. ففي الستينيات من القرن العشرين اقترح -إدوار فريديكين Edward Fredikin أستاذ علوم الحاسب في معهد MIT، والبروفيسور Konrad Zuse أول من صنع الحواسب الرقمية في الأربعينات من نفس القرن في ألمانيا- فكرة أن الكون جوهريًا حاسب رقمي كوني. وتبنّى هذه الفكرة من العلماء الفيزياء المعاصرين البروفيسور ستيفن ولفارم Stephen Wolfarm، والذي يرى أن الحاسب الرقمي قادر على مُحاكة كوننا هذا بتفاعلات عناصره وقوانينه الطبيعية.
١- محاكاة الكون بالحاسب الرقمي
لو كان لدينا حاسب كبير بشكل كافٍ لَأمكننا أن نبرمجه باستخدام لغة الچاڤا مثلًا بمواصفات وتوصيفات الحالة الابتدائية للكون بعد الانفجار العظيم ونتركه يعمل، فسوف يدهشنا بعد فترة بتوصيف مبهر لحالات الكون التالية والمستقبلية. والحقيقة أن مثل هذه المحاكاة غير ممكنة، فالكون في جوهره نظام “ميكانيكي كمومي”، والحاسب الرقمي لا يستطيع محاكاة أي نظام كمي، فحتى يحاكي الحاسب مثلًا عدة مئات من الذرات لجزء صغير من الثانية، يحتاج الحاسب الرقمي التقليدي إلى مساحة في الذاكرة أكبر من عدد الذرات التي في الكون ككل، ويستغرق وقتًا ليعطينا النتائج، ربما أكبر من عُمر الكون الحالي، مثله كحاسب MUlTvac في قصة إسحاق عظيموف.
٢- الكون حاسب كمومي
تجاوز البروفيسور سيث لويد -أستاذ ميكانيكا الكم في معهد ماسيشيتوس للتكنولوجيا MIT- هذه الفكرة ليقول أنّ الكون ذاته ما هو إلا حاسب كمومي Quantum Computer، وأنه لا فرق بين العالم الفيزيائي والعالم المعلوماتي، مُشيرًا إلى أن حديثه هذا ليس مجازًا أو تشبيها بلاغيًا، لكنه وصف علمي رياضي للكون، وذلك في كتابه المُعنوَن “برمجة الكون Programming the Universe: A Quantum Computer Scientist Takes on The Cosmos ٢٠٠٧). ويرى لويد أن الكون نظام فيزيائي تمكن محاكاته بفاعلية باستخدام حاسوب كمومي بحجم الكون نفسه، وأن الكون نفسه قابل للحوسبة الكمومية ويعمل وفقًا لها، وأنه بالتالي ليس إلا حاسبًا كموميًا.
ماذا يحسب الكون؟
إذا كان الكون فعليًا حاسوبًا كموميًا عملاقًا فماذا يفعل وماذا يحسب؟ الإجابة كما يقول لويد “الكون يحسب سلوكه وخطواته التالية)، حيث تخزن البيانات في هذا الحاسب الكمي في صورة بيت bit كمومي Qbit وهي أصغر جزء ممكن من المعلومات، والكون مصنوع من تلك الأجزاء الصغيرة “بت”، وأن كل جزيء وذرة وجسيمات أولية تسجل أجزاء من المعلومات، وكل تفاعل بين تلك المكونات من الكون يعالج تلك المعلومات عن طريق تغيير تلك البتات. أي أن الكون يحسب، ولأن الكون محكوم بقوانين ميكانيكا الكم، فإنه يحسب بطريقة ميكانيكا كمية.
٤- الحياة نفسها محاكاة (نحن نعيش في ماتريكس)
يقول عالم الذكاء الاصطناعي والمستقبليات الأمريكي راي كورزويل Ray Kurzweil أن الكون كله ليس إلا مشروعًا لطالب بالمدرسة الثانوية في عالمٍ موازٍ، ويرى أنه لا يوجد اختلاف كبير بين برنامج محاكاة دقيق جدًا والواقع الحقيقي. ويقول “القوانين الفيزيائية هي مجموعات من العمليات الحسابية والمعلومات تتغير بشكل ثابت ويتم التلاعب بها وهي تعتمد على بعض الركائز الحسابية مما يعني أن الكون هو عبارة عن حاسوب. ولقد اقترح الفيلسوف نيك بوسترم، بجامعة أكسفورد، فرضية أن الحياة مُحاكاة في عام 2003 وأن هناك أفرادًا ينتمون لحضارة أخرى مُتقدمة، استخدموا قدرة الكمبيوتر الهائلة لديهم لتشغيل ألعاب مُحاكاة لأسلافهم. ولدى هؤلاء الأفراد على الأرجح القدرة على تشغيل العديد والعديد من ألعاب المُحاكاة هذه، لدرجة أن تُصبح أغلب العقول في الواقع مجرد عقول صناعية في ألعاب المُحاكاة، وليست عقولًا أصلية خاصة بهؤلاء الأسلاف.
٥- الكون الهولجرامي
على الرغم من أن الكون يظهرُ بشكلٍ ثُلاثي الأبعاد أمامنا، إلا أنه ثمة فرضية ظهرت في العقدين الماضيين، تقوم على ما يُدعى بالمبدأ التجسيمي (الهولجرامي) وبناءً على هذا المبدأ فإن الوصف الرياضي للكون يتطلب بُعدًا واحدًا أقل مما يبدو، وأن ما نعتبره ثُلاثي الأبعاد ما هو إلا مجرد صورة ثنائية الأبعاد للعمليات على الأفق الكوني الضخم، أو بالأحرى فإن كل ما يحدث في كوننا هذا هو انعكاس للسطح الكوني المستوي الذي يحتوي على جميع المعلومات التي نحتاجها للحصول على صورة ثُلاثية الأبعاد.
الخلاصة
كما كانت “الساعة الميكانيكية” النموذج المفضل خلال عصور النهضة لتصور الكون، أصبح الحاسوب ولغته نموذج هذا العصر المفضل، بل وأصبحت الفيزياء في نظر الكثير من العلماء ليست إلا عمليات حوسبة مثلما أشار عالم الفيزياء John Wheeler في عبارته الشهيرة ” it from bit”.. بمعنى أن عالم الفيزياء الملموس جاء من البيت الإلكترونية، أصغر وحدة نقل معلومات، وفِي نفس السياق، أصبحت الحقيقة نفسها ليست إلا خوارزمية كومبيوتر تعمل باستمرار على المادة والفضاء.
والحقيقة أنه كُلما زادت معرفتنا بالكون، وزادت معرفتنا بعلوم الحاسب والمعلوماتية، انصهرت الفوارق بين النظم الفيزيائية والمعلوماتية وأصبحنا فعلًا لا ندري إلى أي صف ننحاز: كون كحاسب كمومي نشأ بذاته ونحن جزء منه، أم نحن دُمى في لعبة كمبيوتر وَضعت برامجه كيانات أعظم.