الصَّوْلَجان المَكْسُور: إشكالية حول العلاقات الجنسية

كَتبتُ منذ حوالي أربع سنواتٍ نَصًّا صغيرًا، كان سيكون بمثابة افتتاح إشكاليَّة حول العلاقات الجنسية التقليديَّة والعَلاقات الإيروسيَّة والْتِمَاس بعض التصوُّرات حول العَلاقات الناجحة وغير الناجحة. حينها كانت مجمل التعليقات الرجوليَّة ساخرة، تهكُميَّة ظاهريًّا ودفاعيَّة باطنيًّا. لكن التعليق الوحيد الذي بقي حاضرًا في ذهني حتى اللحظة، هو حول تعجُّب البعض: “أتعلِّمنا كيف نُمَارِس الجنس؟ كل الناس تعرف كيف تُمَارِس الجنس، ولا تحتاج أن تُفَكِّر وتعرف ما تكتب عنه”. الجدير بالذكر والمُفَارقة أنني لم أكن أعلم أو أتَفَلْسَف، بل كانت مجمل المسألة عبارة عن بضع تأمُّلات إيروسيَّة وجنسانيَّة هَشَّة، وقابلة ربما للدَحض. لكن ظاهرًا يشير إلى أنها لم تكن بتلك الهَشَاشَة التي كانت عليها البنية الجنسيَّة للذَّكَر، أدركت على ضوئها حلقتي المفقودة في الإشكاليَّة المطروحة.

الانْحِيَاز لقانون القَبِيلَة

فالذَّكر يخجل من تعلم كيفية ممارسة العلاقات الجنسية المُمْتِعة والمُرْضِية لطرفي العَلاقة من ذَكَرٍ آخر، باعتبار أن الإنسان يُولَد ودافعه الجنسيّ معه كالحيوانات، وكتالوج المُمَارَسة محفوظ فِطريًّا باعتقاده. لكن يبقى السؤال ما دام الذَّكَر يُولَد مُمتَلِكًا كل الأدوات، فمن أين تأتي العنَّة الجنسيَّة، ضَعَف الانْتِصَاب، القذف السَّريع، إدمان البورنوجرافيا، والاستمناء القهريّ؟

الامْتِحَان الصَّعب للذُّكورِيَّة

تقول سيمون دي بوفوار: “إن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك”. كذلك الأمر، وإن كان في سياقٍ آخر مختلف، الرَّجل لا يولد رَجُل، بل يُصبح رجلًا، لأن الأُنُوثة والذُّكُورَة ما هما سوى صفاتٍ تشريحيَّة بلُعْبَة لُغويَّة. فالذَّكر لُغويًّا هو ما يُظْهِر سلوكًا إيجابيًّا، فهو “الفاعل والظَّاهر”، أمَّا الأُنْثَى فلا يتبقَّى لها سوى السلوك السَّلبيّ وأن تحمل في نفسها “المخفي والمفعول بها”. كذلك فإن مصطلح ذَكَر يُطْلَق على القّضِيب في اللُّغة العربيَّة.

وهذا القَضِيب بالنسبة إلى الطفل هو قَدَره، وهنا أقْتَبِسُ قول فرويد: “التَّشريح هو القَدَر”، لأن الطفل وإن كان لا يزال غير مدركٍ، فإنه يملك الدَّال الأوَّل الذي يخوِّله للدخول في عَالَم اللُّغة بصفته حَامِلًا للفالوس، وهو البديل الرَّمزيّ للقَضِيب. فالقَضِيب كعضوٍ تشريحيٍّ لا قيمة له، لكن قيمته استمدَّها من الصفات التي أُسْنِدَت إليه منذ زمنٍ طويل. فيكفي الاطِّلاع على كتابات من قبيل the phallus: sacred symbol of male creative power لـ alain danielo، وكتابات لاكان، وليفي ستراوس، والفَلْسَفات النِّسويَّة المابعد حداثيَّة. على سبيل المثال لا الحصر: لفيمكن من خلال فهم القيمة الاجتماعيَّة، الإنثروبولوجيَّة والجنسانيَّة والفَلْسَفيَّة التي يستمد منها القَضِيب قيمته.

فلنبتعد عن موضوعنا الأساسيّ، إذا اعتبرنا أن الطفل الذَّكر من بداية تماهيه مع الأب الموجود ليتدرَّب على الرُّجُولة، فإنه يأخذ منه صفاته الرُّجُوليَّة التي تضمن له الحصول على الاعْتِرَاف الاجتماعيّ الذي بدوره يضمن له سلَّة من الامتيازات. على شرط ألا ينسى العقد الأوديبيّ المُبْرَم مع الأب، بأنَّه سيحتفظ بقَضِيبه، فالقَضِيب في مجتمع الأبويَّة اليوم هو كل ما يهم، وبناءً على مركزيَّته يتموضع ويتحدَّد وجوده. وبفقدانه قيمته الرَّمزيَّة يفقد ذكورته فتهتز صورته عن الرُّجُولة ويصبح مَخصيًّا بالفعل لا بالقوَّة.

إعلان

من هنا، فإن الرَّجُل يمضي حياته مُحَاولًا إظهار وإثبات هَيْمَنته، انْطِلاقًا من فاعلية قَضِيبه الجنسيَّة وقوَّته الجنسيَّة. وكمثلٍ بسيطٍ وواضحٍ على أهمية هذا الموضوع -أقصد هنا القَضِيب كموضوعٍ- ما أكثر كلمة مُسْتَخدَمة للشَّتم لدى الجنسين، ولماذا؟ لا لشيءٍ سوى أن هذا العضو محمَّل بالمهام الاجتماعيَّة، إلى جانب مهامه العُضويَّة. وهذا يضغط على صاحبه ويُسلِّط عليه الضوء ليكون على جهوزيَّةٍ للنجاح بمهمته السامية، وهي أن يكون للرَّجُل المُنْتَصِب دائمًا. منتصب نفسيًّا وجسمانيًّا وعضويًّا، لكن الأجسام والأعضاء تنهار تحت سَطْوَة الضغوط النفسيَّة، مما يؤدي إلى فشل الأعضاء في إتمام مهمتها. وأكثر ما يُصيب الدَّافع الجنسيّ في مقتل، هو الضُغُوط النفسيَّة الناتجة عن الامتحان الدائم الذي يُخْضِعَك إليه المجتمع منذ ما قبل عَلاقتك الأولى أو الليلة الأولى لزواجك، فالجميع ينتظر التأكيد على الفُحُولَة وإلا ستكون مخيِّبًا للآمال. بقدر مُتْعَتها تُغذِّي نرجسيَّتك، وبقدر برودها تعود مُحْبَطًا، أو في العديد من الحالات مُغْتَصِبًا. فنسبة تكاد تكون 99٪ من حالات ضعف الانْتِصَاب والقَذْف المُبَكِّر، تعود إلى حالةٍ من التوتر والرَّهبة تشبه رهبة الامتحان وأقرب لحالة العَجَلَة للانتهاء أو الهرب -وهي حالة تنطفئ فيها الطاقة الجنسيَّة- مما يُحفِّز إفراز الأنسولين والأدرينالين في الدم، ويُعطي أمرًا للدِمَاغ بالانتهاء سريعًا ليرتاح الجهاز العصبيّ ويعود إلى حالته الطبيعيَّة، لكن مع نتيجةٍ غير مُرْضِيَةٍ، لأن هناك مجتمعًا ينتظره على الباب وشريكة معه ينتظر منها الاعْتِرَاف بنجاحه واستمتاعها أيضًا، وإلا فسينتابه الشُّعُور بالدُّونيَّة، وتُرَاوده الضلالات حول إمكانيَّة خيانتها له مع شخصٍ فاعلٍ لديه الرُّجُولة التي يَظُنُّ أنه فقدها.

إنْكَار فإحْبَاط وعَجْز

من هنا أعود إلى نقطة طرحي الأولى، بأنَّ الرِّجَال يُحَاولون بكل الطُرُق الهروب من إظهار حاجتهم إلى الإرْشَاد الجنسيّ من مُختَصٍ أو طبيب. فيبتعد كل البُْعد عن العِلاج الصحيح في محاولة عدم تقبُّل أن خَطبًا ما قد أصابه، ويُهدِّد تمركُزه ويسلبه صولجان الحُكْم والنفوذ. ويدخل في دائرةٍ مُغْلَقة من الإحْبَاط، المُحَاولة والفشل، ويلجأ إلى الأفلام الإباحية ليُحفِّز نفسه، فيزيد الأمر سوءًا، لأن الإباحيَّات تُدمِّر العلاقات الجنسية السليمة، والمُتْعَة، وخلايا الدِّماغ. ليتبعها بإدمان الاستمناء، أو إدمان الهرمونات المُصنَّعة والتعويض عن فعل الرُّجُولة في مظهر الرُّجُولة الجسديَّة أو مُمَارَسة العُنْف تجاه الشَّريكة، لكنه نادرًا ما يتقبَّل المعرفة المُقدَّمة من شخصٍ آخر، وأن الأمر ليس امتحانًا، ولن يُهَان أحدٌ في نهاية المطاف.

نعم، جميعنا لدينا طاقات جنسيَّة ودافع جنسيّ كالحيوانات، لكنَّنا لا نُعَاشِر كالحيوانات. فلدينا تعقيداتنا النَّفسيَّة العاطفيَّة التي لا يملكها أي كائنٍ آخر. وربما عند حَلّ بعض هذه التعقيدات لن نحتاج إلى الاعتقاد بأن أحدنا يَطْعَن برُجُولة الآخر.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد الأمين

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا